ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 7 كاسترياديس.. جون مولينو


سعد محمد رحيم
2011 / 3 / 1 - 20:30     

خرج كورنيلوس كاسترياديس ( 1922 ـ 1997 ) في البدء من تحت عباءة الماركسية ـ التروتسكية، لكنه، في النهاية غدا واحداً من أشد منتقدي الماركسية، بعدما واجه ودرس واقعاً لا يستجيب لمقولات النظرية وتنبؤاتها؛ فلم يتفاقم فقر العمال، ولم تبلغ أزمات الرأسمالية حدّ استحالة أن تجد لها حلولاً. ولم يصل الصراع الطبقي إلى لحظة الانفجار الثوري. ولذا فإن الماركسية التي ازدهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى اندلاع الحرب العالمية الثانية "قد استنفدت نفسها كمرجع لشرح وتحليل ما يجري وكأساس لمشروع ثوري" كما يقول. فالرأسمالية شهدت تطوراً حاسماً، وامتلكت قدرة مضافة على الديمومة ومعالجة أزماتها، في حين لم تستطع الماركسية استيعاب طبيعة هذا التطور وآثاره. وأن الحركات العمالية تحوّلت إلى حركات مطلبية، ولم تعد تبغي إشعال ثورة طبقية تنتهي بإقامة دكتاتوريتها الخاصة. ولم تفضِ ثورات العالم الثالث الاستقلالية إلى زعزعة أسس الرأسمالية. والصراع، اليوم، لم يعد بين من يمتلك وسائل الإنتاج، وبين من لا يمتلكها وإنما "بين الموجهين والمنفذين، فإن المجتمع لم يعد خاضعاً إلى سلطان رأس مال غير شخصي ومجرد، وإنما صار في عهدة بيروقراطية تراتبية البناء". ورأى أن تأميم المؤسسات الاقتصادية، وسيطرة الدولة عليها، والقضاء على الملكية الخاصة لن يضمن تحرير العمال من الاستغلال وتحكمهم بوسائل الإنتاج لأن شريحة جديدة طفيلية أقرب ما تكون إلى طبقة قائمة بحد ذاتها هي الطبقة البيروقراطية ستسيطر على الحياة السياسية والاجتماعية برمتها مثلما حصل في الاتحاد السوفيتي وبقية منظومة المعسكر الاشتراكي.
يؤكد كاسترياديس على استقلالية الذات وإرادتها الحرة لإدارة ذاتها، والتي تتعارض، من وجهة نظره، مع الماركسية "كونها نظرية سابقة على الفعل ومنفصلة عنه، فضلاً عن ادّعائها معرفة وافية بطبيعة الفعل المتعين القيام به". وهنا يتحدث عن المرجعية المتوهمة للفعل الثوري الواعي. هذا الفعل الذي لا يستدعي بالضرورة معرفة شاملة ( إيديولوجية ) مثل الماركسية. فيما السياسة لا تتطلب معرفة من هذا القبيل، بل معرفة عملية والتي "تنمو في سياق ملموس وتأخذ بالحسبان شبكة العلاقات السببية التي تتقاطع في مدارها". وهي ( أي السياسة ) نشاط واعٍ يقوم على معرفة مؤقتة. فلا وجود لنظرية متكاملة نهائية عن التاريخ والإنسان والمجتمع. فيما توجد معارف في طور الظهور والتجدد. وبذا تكون السياسة الثورية، كما يرى، عبارة عن معرفة عملية "يكون غرضها تنظيم وتوجيه المجتمع وجهة احتضان الإدارة الذاتية لسائر أعضائه".
وعلى الرغم من أنه، لا إمكان لنظرية متكاملة للتاريخ، في نظر كاسترياديس، ولا لصورة عقلانية شاملة للواقع الاجتماعي، فإن التاريخ والمجتمع ليسا لا عقلانيين بأية حال، وإنما يتقاطع في مدارهما العقلاني واللاعقلاني.
وإذا كان المجتمع كياناً تاريخياً في حالة تحوّل دائم فإنه صانع نفسه ومؤسسها. وأن ما يربط كلية المجتمع بعضها ببعض هو "المؤسسات ( أي اللغة والأعراف وأشكال العائلة وأنماط الإنتاج.. الخ ) والدلالات التي تجسّد هذه المؤسسات ( أي الطوطم والمحرّم والآلهة والرب والمدنية والسلع والثراء.. الخ )". وكاسترياديس يدعو إلى ( مشروع ثوري ) يبلغ "بالمجتمع طوراً يصير من الممكن فيه تجديد المؤسسات والدلائل المتخيلة تجديداً متواصلاً".
إذن، إلى أين يريد كاسترياديس أن يصل؟ أو ما الذي يريد أن يستنتجه من هذا كله؟. إنه يريد مجتمعاً يقوم على الإدارة الذاتية؛ أن يدير شؤونه بنفسه، ولا يركن إلى مرجعية سابقة ومنفصلة. مجتمع في حالة إعادة تأسيس لنفسه لا تنقطع. وهو يدعو إلى مثال ديمقراطي أصيل يتجاوز النموذجين الغربي الليبرالي الحديث والإغريقي القديم، وعبر "إعادة ترتيب سلّم الأولويات، وما لم يبق المدار السياسي ملحقاً بالمدار الاقتصادي على ما هو شائع منذ وقت غير قريب".
وكاسترياديس، في النهاية، ظل ضد البيروقراطية، وأشكال احتكار السلطة من قبل فئات أو جماعات مهما كانت شعاراتها، فهو "ناقد يهاجم بشدة هذا الاستيلاء الجاري على المدار العام وتحويله إلى أشبه بمدار خاص منوط بطوائف أو جماعات خاصة تتقاسم السلطة الفعلية وتتخذ القرارات الهامة نيابة عن المجتمع، وبمعزل عنه، خلف أبواب موصدة".
إذا كان كاسترياديس يغادر ماركسيته غير آسف عليها، لأنها لم تعد، برأيه، ذات جدوى كبيرة في عصرنا، فإن آخرين ما زالوا مقتنعين بفاعلية الماركسية ودورها في تغيير حال العالم نحو الأفضل، من خلال العودة إلى منطلقاتها الأصلية. ومنهم المفكر الماركسي البريطاني جون مولينو.
يعرّف مولينو الماركسية بأنها إدراك الصراعات الطبقية القائمة في المجتمع الحديث من وجهة نظر البروليتاريا. فالماركسية إذن، ليست مجرد منهج للتحليل، وإنما هي نظرية الطبقة العاملة. وسيعني استبعاد البُعد الطبقي، في هذه النظرية، نسفها من أساسها. أما عناصر هذه النظرية، كما يراها مولينو فهي؛ "1ـ الماركسية كنظرية للمصالح المشتركة للطبقة ( العاملة ) كلها عالمياً. 2ـ الماركسية كنتاج ميلاد البروليتاريا الحديثة وتطورات صراعها ضد الرأسمالية. 3ـ الماركسية كنظرية انتصار هذه الطبقة.. إن التعريف الأكثر إيجازاً لهذه العناصر الثلاثة هو أن الماركسية هي: نظرية الثورة البروليتارية العالمية".
يؤكد مولينو على علمية الماركسية. وفي معرض تشخيصه للفروقات بين العلم الطبيعي ( حيث القوانين التي لا يمكن تغييرها )، والعلم الاجتماعي ( حيث القوانين التي يمكن تغييرها ). وحيث أن علاقة الناس تكون واحدة بقوانين الطبيعة ولا تكون كذلك بالقوانين الاجتماعية.. أما أن يكون هناك علم طبيعي بروليتاري في مقابل علم طبيعي برجوازي فإن ذلك بتعبير مولينو ليس سوى "قطعة من الهراء الستاليني".
وإذا كان العلم الاجتماعي البرجوازي يمنح قدراً محدداً من العلم في إطار النظام الرأسمالي ويموِّه التفسير الحقيقي للمجتمع وصراعاته فإن الطبقة العاملة هي الوحيدة التي من مصلحتها الوصول إلى ذلك التفسير الحقيقي.. من هنا يستنتج مولينو أن "الأساس الطبقي للماركسية لا يقلل من مكانتها كعلم، بل على العكس من ذلك، هو بالضبط ما يجعل طابعها العلمي ممكناً". وفي هذا يتقاطع مع أطروحة لوي ألتوسير القائلة بأن الماركسية لن تكون علماً إذا اقتصرت على كونها نظرية الطبقة العاملة، لا غير، وسترتد عندئذ، إلى مستوى الإيديولوجيا.
ولا تقتصر الماركسية، بحسب مولينو أيضاً، على تحليل وفهم ونقد المرحلة الرأسمالية من التاريخ وحسب، بل "من الممكن تماماً تحليل التاريخ الإنساني بأكمله من وجهة نظر البروليتاريا".
ينبه مولينو إلى عدم إغفال، أو نسيان، النطاق الأممي للماركسية. وكيف أن العمّال، نتيجة الولاء الطبقي، يتضامنون فيما بينهم، بغض النظر عن انتماءاتهم الأخرى القومية والدينية، ضد النظام الرأسمالي العالمي. وأن غاية الماركسية هي الوصول إلى المجتمع اللاطبقي، يوم تلغي البروليتاريا بتحريرها لنفسها كل حكم طبقي، وكل عبودية وكل استغلال، مثلما جاء في البيان الشيوعي لماركس وأنجلس.. أما جوهر النظرية الماركسية في النهاية فيتمثل في "الفهم المادي للتاريخ، والتحليل النقدي للرأسمالية".
يستعير مولينو أطروحة غرامشية بامتياز؛ "إن الأفكار السائدة هي أفكار الطبقة الحاكمة". وهذا يعني أن الإيديولوجية البرجوازية تستحوذ، بهذا القدر أو ذاك، حتى على وعي الطبقة العاملة في ظل النظام الرأسمالي. فيتكون فكر خليط مهجّن من الفكر البرجوازي والفكر الاشتراكي. وهذا الفكر يرتع وينمو في وعي البرجوازية الصغيرة. ويكون تأثير هذه الطبقة كبيراً على وعي البروليتاريا، لاسيما في العالم الثالث. وفي العموم تجد الماركسية نفسها محاصرة. وبتعبير مولينو فقد "كان تاريخ الماركسية تاريخ معارك مع الإيديولوجية الهجينة للبرجوازية الصغيرة".
لا يكفي أن تدّعي الماركسية كي تكون ماركسياً. وكثر من الحركات والأشخاص المتبنية للنظرية الماركسية لم تكن ماركسية على الإطلاق. هذا ما يلفت مولينو إليه الانتباه. وقد أدرك لينين مبكراُ هذا الأمر حين قال؛ " إن جدلية التاريخ تجعل الانتصار النظري للماركسية يجبر أعداءها على التنكر كماركسيين". وفي هذه المقولة الأخيرة ثمة ظل من نظرية المؤامرة. فلا شك أن ضغط الظروف الموضوعية والمعطيات المفاجئة للواقع والفعالية الإيديولوجية للرأسمالية تجبر الماركسيين على تغيير بعض قناعاتهم، أو تكييفها مع عالم يتحوّل في مسارات غير متوقعة أحياناً. فليست النظرية معصومة بأية حال، وليست نصوصها علوية مقدسة. كما أن احتمال الانحراف والتشويه والوقوع في الخطأ قائم أيضاً. وفي رأي مولينو "من حيث القوة المادية سيطرت ثلاث نزعات على تاريخ الماركسية منذ ماركس: 1ـ الاشتراكية الديمقراطية للأممية الثانية. 2ـ الستالينية. 3ـ وطنية العالم الثالث".
يعود مولينو إلى التراث الماركسي الأصيل لينقـّيها، مثلما يعتقد، من الشوائب التي علقت بها وأساءت إليها. وقد تجسّدت هذه الشوائب مثلما أشار، أولاً في الاشتراكية الديمقراطية التي دعا إليها كارل كاوتسكي ومناصروه من زعماء وأقطاب الأممية الثانية، حين أصرّوا على الدخول في اللعبة البرلمانية البرجوازية، والاستحواذ على السلطة من طريق الانتخابات حيث يشكِّل العمّال الأغلبية في المجتمعات الصناعية المتقدمة. وهذا ضمان كافٍ برأيهم لتغيير الواقع السياسي والاقتصادي من غير سلوك سبل العنف الثوري، أو تقويض جهاز الدولة البرجوازية القائمة.. يقول كاوتسكي؛ "هدف صراعنا السياسي يظل كما هو لحد الآن: الاستيلاء على سلطة الدولة من خلال الحصول على أغلبية في البرلمان، ورفع البرلمان إلى وضع قيادي داخل الدولة. بالقطع ليس تدمير سلطة الدولة".
كانت النزعة السائدة عند الكاوتسكية هي التركيز على الصراع السياسي وتطويره. فالطبقة العاملة "لا تستطيع إنجاز نقل وسائل الإنتاج للمجتمع ككل دون الحصول أولاً على السلطة السياسية". والمقصود بالصراع السياسي على وفق هذا التصور هو الصراع البرلماني حيث البروليتاريا مهيأة لمثل هذا النشاط لتغيير طبيعة الحياة البرلمانية وتوسيع دائرة تأثير الطبقة العاملة فيها ومن خلالها. وقد تحدث البرنامج الذي وضعه كاوتسكي للاشتراكية الديمقراطية عن حتمية الاشتراكية نتيجة التطور الاقتصادي ونمو الرأسمالية، والذي يعني نمو البروليتاريا وارتفاع وعيها ومن ثم الحصول على أصوات أكثر لحركة الاشتراكية الديمقراطية. وبرأي مولينو سيؤدي مثل هذه السياسة إلى تخفيف التوتر بين البروليتاريا والبرجوازية. وقد "عبّرت هذه الإيديولوجية... لا عن مصالح الطبقة العاملة وإنما عن مصالح الشريحة الاجتماعية التي كان وجودها ذاته نتاج هذه الهدنة الاجتماعية ألا وهي البيروقراطية الواسعة للحزب الاشتراكي والنقابات ـ جيش الموظفين ذوي الامتيازات ـ التي نمت لتدير منظماتها الجديدة".
يقوم مولينو بطرد كاوتسكي من عالم ماركس والماركسية، لأنه أقرب إلى برنشتاين المعادي للماركسية منه إلى ماركس.. ومثلما يجب تخليص الماركسية من لوثة الكاوتسكية يجب تخليصها كذلك من لوثة الستالينية، وإنْ لم تكن الستالينية مطابقة للكاوتسكية بمعايير شتى.
خرجت الستالينية بدءاً من تحت معطف اللينينية. وبتوصيف مولينو فإن أهم خصائص اللينينية "هي الصلابة الثورية، والأممية الحادة، وتحليل الإمبريالية والنضال ضدها والإصرار على تدمير الدولة البرجوازية بواسطة السلطة العمالية القائمة على السوفيتات، ومفهوم الحزب كتنظيم طليعي تدخلي".
أدت الحرب الأهلية التي أعقبت ثورة أكتوبر 1917 إلى قتل أعداد كبيرة من أكثر العمال وعياً ونضالاً سياسياً، وإلى تدهور اقتصادي غير مسبوق، وانتشار الأوبئة والمجاعة مما حدا بلينين إلى القول بأن البروليتاريا قد زُحزحت من أخدودها الطبقي وتوقفت عن الوجود كبروليتاريا.
في هذه الأجواء استخدم الحزب البلشفي الموظفين القيصريين لإدارة دفة الدولة ليتبقرط، بعدئذ، هو نفسه على الرغم من إرادته.. أما انتظار حصول ثورة عمالية عالمية فقد قاد إلى خيبة أمل أخرى، وكان الخيار هو التخلي عن الهدف والنظرية للاحتفاظ بالسلطة. أما نتاج هذا الخيار، بحسب مولينو، فكان الستالينية.
كان على الستالينية للحفاظ على المسحة اللينينية القيام بعمليتين منفصلتين؛ "أولاً، أن تحوِّل الماركسية اللينينية من نظرية متطورة ذات توجه عملي إلى دوجما ثابتة، معادلة لديانة دولة". وثانياً "مراجعة اللينينية والماركسية بما يتناسب مع الممارسة الستالينية الفعلية كنتيجة ضرورية للعملية الأولى"، بعدما أصبح البون شاسعاً بين النظرية والتطبيق. فيما كان أهم وأخطر التعديلات التي أجراها ستالين على الماركسية هي ( نظرية الاشتراكية في بلد واحد ). وهي التي تتقاطع مع الموقف الأممي الذي صاغه ماركس وأنجلس. وقد وافق هذا الأمر، كما يحلل مولينو؛ "حاجات وتطلعات البيروقراطيين المسيطرين على البلاد الآن. لقد اشتاقوا للعمل العادي غير المعقد بمغامرات ثورية دولية". وطبعاً ستؤدي ( الاشتراكية في بلد واحد ) لا إلى زوال الدولة كما توقع ماركس وأنجلس وإنما إلى تقويتها وتبقرطها، ولن تعود دولة البروليتاريا بأي شكل. وقد كانت الستالينية كما يلاحظ مولينو، أقرب إلى الكاوتسكية منها إلى النظرية الثورية لماركس ولينين طالما أنهما فصلتا بين النظرية والتطبيق ودعتا إلى تقوية سلطة الدولة وهبطتا بالماركسية من أفقها الأممي إلى نوع من الوطنية ( الشوفينية ).
الشكل الثالث من التنظيم السياسي والفكر العقائدي الذي أ ساء لصورة الماركسية هو القناع الماركسي الذي ارتدته حركات التحرر الوطني، أو معظمها، في العالم الثالث. تلك التي حذّر لينين من إعطائها اللون الشيوعي، والاكتفاء بإقامة تحالف مع صيغها الديمقراطية البرجوازية وتجنب الاندماج معها للحفاظ على "استقلالية الحركة البروليتارية حتى لو كانت في أكثر أشكالها جنينية". لكن الأمور سارت عكس ذلك في عهد ستالين. وكانت الصين، بهذا الصدد، كما يقول مولينو، المثال الكلاسيكي. ومنذ الخمسينيات صارت الأنظمة والحركات الوطنية كافة، في العالم الثالث تسمّي نفسها اشتراكية، مع ادّعاء بعضها بأنها ماركسية.
نقلت حرب العصابات بنموذجيها النقيين ( الصين وكوبا ) أرضية الصراع من المدينة إلى الريف، وهذا لم يعنِ "فقط تحوّلاً في موقع الصراع، وإنما أيضاً تحولاً في مضمونه الاجتماعي". فالعامل الذي ينخرط في حرب العصابات في الريف لن يبقى عاملاً. وهكذا يصبح الفلاحون هم أداة تلك الحرب. وهذا ما لا يتسق، من وجهة نظر مولينو المتمسك بالجوهر الأصلي للنظرية، مع الماركسية حيث الطبقة العاملة وحدها "ترتبط كما تجسّد قوى وعلاقات الإنتاج التي يمكن أن تحمل الإنسانية إلى الأمام نحو مرحلة أعلى للمجتمع لا توجد فيها طبقات". أما أن نتحدث عن اشتراكية فلاحية فإننا سنكون إزاء مفهوم ذي تداعيات ستخلخل نسق النظرية الماركسية مثلما فعل مفهوم الاشتراكية في بلد واحد.. يقول مولينو؛ "الاشتراكية الفلاحية تحطم هيكل المادية التاريخية بأكمله. فالفلاح ليس هو نتاج لعلاقات إنتاج رأسمالية وإنما ما قبل رأسمالية. إذا كان الفلاحون هم الطبقة الاشتراكية، إذن فإن الثورة الاشتراكية كان من الممكن أن تحدث في أي وقت في الألف سنة الأخيرة. وتكون الرأسمالية والثورة الصناعية في هذه الحالة مراحل غير ضرورية في التاريخ الإنساني، ويكون قد تم التخلي تماماً عن الدور التحديدي لتطور قوى الإنتاج". وسيكون الكلام، مثلما طرح بعضهم، عن قيادة بروليتارية للفلاحين نوعاً من المثالية الإيديولوجية. ومع فكرة القائد العظيم ستحل ديكتاتورية البرجوازية محل ديكتاتورية البروليتاريا.. هنا، تحديداً، سنلقى ماركس وقد قُلب على رأسه؛ "ليس الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي، وإنما الوعي الاجتماعي ( الزعامة ) هي التي تحدد الوجود الاجتماعي".
وبعد أن يسهب مولينو في إيجاد الفروق بين الحركة البروليتارية بقيادة حزبها الطليعي في المدن، وبين حرب العصابات الفلاحية بقيادة برجوازيي المدن في الريف فإنه يصل إلى استنتاج مفاده أن حركات التحرر التي نجحت في تحقيق الاستقلال وجدت نفسها في موقع السلطة، وعليها الآن الدخول في صراع "من أجل النمو الاقتصادي من خلال تراكم رأس المال القائم على استغلال العمال والفلاحين، وهو ما يعني بدوره أن عليها أن تعزز نفسها طبقة ً حاكمة جديدة".
وأخيراً يخلص مولينو إلى القول بأن "ماركسية العالم الثالث الوطنية، مثل الكاوتسكية والستالينية هي في أصولها ليست ثورة بروليتاريا، وإنما إيديولوجية قسم من البرجوازية الصغيرة يقف بين العمل ورأس المال".. وهكذا يكون فشل التخريجات النظرية والتجارب التي قامت باسم الماركسية بأشكالها الثلاثة السابقة ليست ماركسية في جوهرها، وإن ماركس منها براء.
وإذن، أين يكمن التراث الماركسي الأصيل؟ إنه، كما يخبرنا مولينو، يسير من ماركس وأنجلس مروراً بالجناح اليساري الثوري للأممية الثانية وصولاً إلى الثورة الروسية والسنوات المبكرة للكومنترن، مستمراً، في ظروف صعبة، بوساطة المعارضة اليسارية والحركة التروتسكية في الثلاثينيات.. تراث أبرز ممثليه، بعد مؤسسيه؛ لينين ولكسمبورغ وتروتسكي ومهرنغ وبوخارين الشاب وفكتور سيرج وآخرين وصولاً إلى غرامشي ولوكاش.
ألا تضعنا هذه الحركات والأسماء إزاء خليط متنوع، غير متجانس، إلى حد ما، لماركسيين، أغلبهم، ربما باستثناء لينين، لم يخوضوا غمار السلطة، ولم يواجهوا مفاجآت ومفارقات وأحابيل التطبيق. ألا ينتهي خط التمثيل قبل عقود من الآن، ولا يكاد مولينو يشير إلى ممثلين معاصرين حقيقيين للتراث الماركسي الأصيل؟ ألا يشكل هذا الأمر دليلاً على أن الفكر الماركسي يعيش أزمة إبداع وتجديد في وقتنا الحالي؟
أظن أن الماركسية ما زالت تحتفظ بعوامل الخصوبة، وإنها ما تزال تمتلك ما تقوله، وبقوة. وأن الأزمة، مهما كانت حدّتها ومهما كانت محبطة، ضرورية أحياناً لتنشيط النظرية وتعزيز حيويتها.
المصادر:
1ـ ( سقوط الماركسية كنظرية مطلقة/ نيكوس كاسترياديس ) سمير اليوسف.. مجلة نزوى العدد/ 19.
2ـ ( ما هو التراث الماركسي الحقيقي؟ ) جون مولينو.. ترجمة؛ مركز الدراسات الاشتراكية.. كراسات اشتراكية.