محاولات تهدئة الثورة في جامعة الإسكندرية


أشرف حسن منصور
2011 / 2 / 25 - 12:16     

وفجأة اكتشفت القيادات الجامعية أن هناك جامعة:
كعادة كل المسئولين بقايا النظام القديم في هذه الأيام حين يواجههم مرؤوسوهم بمطالب مشروعة تعبر عن حقوق مهدرة أو مسلوبة، حاولت إدارة جامعة الإسكندرية الممثلة في رئيسة الجامعة ونوابها الثلاثة القيام بمحاولات تهدئة، لأعضاء هيئة التدريس أولاً، ثم للطلبة ثانياً. ففجأة اكتشفت إدارة الجامعة أن هناك حنقاً وغضباً مختنقاً من أعضاء هيئة التدريس على أوضاع الجامعة، وقررت التنازل بأن تسمع منهم مطالبهم وشكاواهم، تلك الإدارة التي كانت تعيش في برجها العاجي غير محيطة بطبيعة المشاكل التي تمر بها الجامعة، شأنها شأن كل قيادات النظام القديم الذي يستمر في التفكك والتساقط يومياً.
لقد كنا في حاجة إذن إلى ثورة شعبية عارمة كي تستمع القيادات الجامعية إلينا، ثورة تطيح برأس النظام الفاسد وتهدد كراسي ومناصب تلك القيادات الجامعية. إنه الخوف وحده الذي دفعهم إلى الاستماع، الخوف من امتداد الثورة إلى أعضاء هيئة التدريس، ومن انتقالها إلى الجامعة بعد البدء في الدراسة في الفصل الدراسي الثاني، خاصة بعد أن اكتشفت القيادات الجامعية فجأة أن من قادوا الثورة وأشعلوا فتيلها هم الشباب، أي طلبة الجامعة أنفسهم؛ واستئناف الدراسة يعني انتقال هؤلاء الثوار الشباب من الشارع إلى الجامعة.
لقد كانت الجامعة محكومة في السابق بأمن الدولة والأمن المركزي، ومع اختفاء هذا النظام البوليسي القمعي فمن الذي سيضمن جامعة هادئة لتلك القيادات؟ لقد وجدت نفسها أمام احتمال مواجهة مباشرة مع الطلبة، ومواجهة أخرى مع أعضاء هيئة التدريس. فمن الذي سيحميها من هذين الخطرين المؤكدين؟ يجب عليها إذن أن تتحرك بنفسها، لا لحل أي مشكلة ولا لتقديم أية وعود، بل لمجرد التهدئة وإتاحة الفرصة أمام شباب أعضاء هيئة التدريس للتنفيس عن أنفسهم والتعبير داخل الجامعة كمحاولة للاحتواء.
محاولة الصمود والتماسك، أو التظاهر بهما على الأقل:
ذلك لأن الموقف الصعب الذي تواجهه القيادات الجامعية يفرض عليها اتباع طرق إدارة الأزمات. وكلمة "الأزمة" هي الكلمة التي ترددت على استحياء من قبل بعض القيادات. لكنها أزمتهم هم وليست أزمتنا نحن أعضاء هيئة التدريس. فمن الطبيعي والمنطقي أن تكون الثورة أزمة بالنسبة للنظام القديم، لكنها ليست أزمة أبداً بالنسبة للثوار أنفسهم وبالنسبة لكل الفئات المقهورة والمظلومة في المجتمع. إنها ليست أزمة بل بالأحرى تجلٍ للإرادة الشعبية الحرة وكشف عن قوة هذا الشعب وكرامته ورفضه الاستمرار في الرزوح تحت نير الظلم والدكتاتورية. وفي كل أزمة يحاول من يتعرض لها الصمود والتماسك، وإذا لم يستطع ذلك نتيجة لقوة التيار المضاد له يحاول التظاهر بهما، وهذا ما شعرنا به جميعاً من القيادات. فهناك فرق بين الصمود والتماسك الحقيقي والتظاهر بهما. ولا يبقى أمام القيادات سوى التظاهر بهما بعد أن انهار النظام الذي أتى بهم من أعلى، وبعد أن اهتزت الأرضية التي يقفون عليها، والمكونة من طلبة ثوار غاضبين وأعضاء هيئة تدريس ساخطين.
وما يزيد الأمر سوءاً بالنسبة لكل القيادات الجامعية في مصر أنها حصلت على مناصبها لا بالانتخاب الحر والاختيار الطوعي من أعضاء هيئة التدريس، بل بالتعيين من القيادات السياسية السابقة للبلاد، إما عن طريق التقرب من هذه القيادات، أو التقرب من الحزب الوطني أو الارتباط به بصورة أو بأخرى. ولأن القيادات الجامعية مفروضة على الجامعات من أعلى بطريقة سلطوية لاديمقراطية، فإن هذه القيادات تشعر بالخطر الآن لكونها بالفعل جزءًا من النظام القديم المتفكك المنهار يومياً، وتحاول الدفاع المستميت عن مناصبها بأي ثمن.
إنه مأزق صعب بالنسبة للقيادات الجامعية، يشكل لها أزمة، وإنني على يقين من أن الكثير منهم لا يستطيع أن ينام نوماً هادئاً في الليل، خاصة بعد أن أدت الاحتجاجات الجامعية إلى إقالة هاني هلال. ومن الطبيعي أن يشعر كل رؤساء الجامعات ومن تحتهم من نواب وعمداء بالقلق على فقدان مناصبهم؛ ألم يفقد هاني هلال الذي عينهم منصبه؟ وهذا ما دفع القيادات الجامعية لاستيعاب غضب الأكاديميين وحصره داخل جدران الجامعة، ومنعه من أن يمتد إلى خارجها مما يعني فقدان هذه القيادات للسيطرة على جامعاتها، وبالتالي فقدانها للقيادة ذاتها التي تريد أن تظل ممسكة بها في الوقت الذي يتساقط فيه النظام القديم من أعلى إلى أسفل. فبعد سقوط مبارك وعدد كبير من وزرائه، من المتوقع أن يطال السقوط المستويات الأدنى؛ فهذه هي الثورة يا أعزائي.
آليات التهدئة:
وكشفت محاولات القيادات الجامعية للتهدئة عن آليات معينة سأحاول أن أرصدها فيما يلي. وإنني أشدد على كلمة "تهدئة"، وأميزها عن كلمة "تسكين". فالمرء عندما يمرض يتناول مسكنات، أي شيئاً مادياً حقيقياً يُمسك باليد، أما التهدئة الجامعية الحالية فهي بالاستماع فقط وبتشريفنا بالحضرة "المباركة" للقيادات الجامعية الرفيعة المقام دون تقديم أية تنازلات أو وعود حقيقية.
وتتمثل آليات التهدئة في العناصر الآتية:
1. القول بأن الجامعة هي الجهة الشرعية لنقل طلبات أعضاء هيئة التدريس. ويهدف هذا القول المحافظة التراتب الهرمي السلطوي السائد في الجامعة، بحيث تنقل طلباتك إلى رئيسك وينقلها رئيسك إلى رئيسه وهكذا حتى نصل إلى المحرك الأول الذي لا يتحرك، الكائن الأعظم كلي الوجود وكلي الحضور. وهكذا يتم التكريس للبيروقراطية الأكاديمية وإخضاع الجامعة للتراتب السلطوي الذي فات أوانه والذي ينهار يومياً بعد ثورة 25 يناير التي كانت ثورة شعبية من أسفل أزاحت القمة العليا للنظام. وهذا القول لا ينتبه إلى حقيقة موجودة في أي تنظيم إداري حديث والذي يقوم على الاتصال المباشر بين كل أفراد التنظيم، وعلى الأخص الاتصال المباشر بين القاعدة والقمة. هذا علاوة على احتواء القول السابق على مغالطة كبيرة، والمتمثلة في كلمة "طلبات"، وكأن الأمر توقف عند حدود الطلب، والطلب بطبيعته يكون من الأدنى إلى الأعلى. في حين أن المسألة مسألة حقوق مهضومة وغياب للعدالة وافتقاد للشفافية وتحكم بيروقراطي وأمني في الجامعة نريد منه أن ينزاح عن كواهلنا لاستعادة الحرية الأكاديمية المفتقدة منذ عقود عديدة.
2. الدخول في تفاصيل مشروع الجودة وميزانيات البحث العلمي وإشغال الحضور بها وإضاعة الوقت فيها على حساب الوقت الأصلي الذي كان يجب أن يكون مخصصاً لمناقشة مشكلات أعضاء هيئة التدريس وحقوقهم المهدرة وتظلماتهم. ففي مقابل 3 دقائق لأحد المتحدثين ردت عليه رئيسة الجامعة في 20 دقيقة.
3. القول بأن "كله تمام"، وبأن كل الطلبات موجودة لدى إدارة الجامعة في صورة مشاريع جاهزة ليست في حاجة إلا إلى تفعيل.
4. القول بأن ثورة الشباب تثبت أن التعليم الجامعي ممتاز. فقد كان نص كلماتها هو الآتي: لما شفنا الطلبة [تقصد الثوار من الشباب] عرفنا إن تعليمنا كويس جداً"؛ أي التعليم الجامعي. وعلاوة على المغالطة الواضحة في هذه الفكرة، فإن رئيسة الجامعة تصف التعليم الجامعي بأنه "تعليمنا"، وكأنها هي التي وضعت التعليم الجامعي كله، وكأن هذا التعليم الجامعي منسوب للقيادات الجامعية، لا لأعضاء هيئة التدريس. والمغالطة الواضحة في هذه العبارة تتمثل في أن الجامعات المصرية لا تؤهل الطلبة تأهيلاً سياسياً على الإطلاق، بل هي تمارس العكس تماماً، إذ هي تمنع المشاركة السياسية وتحظر أي نشاط سياسي داخل أسوارها وتقمع أي حركة سياسية طلابية عن طريق العمداء والحرس الجامعي وبلطجيته، علاوة على ممارسة أمن الدولة للتجسس على أعضاء هيئة التدريس والطلبة. فكيف ندعي بعد كل ذلك إن الجامعة كان لها فضل في الثورة؟ هذا بالإضافة إلى أن الشباب الذين كانوا الفتيل الذي أشعل الثورة والقاطرة التي سحبت خلفها الشعب كله لم تتلق تعليمها من الجامعة المنهارة التي وصل التعليم فيها إلى الحضيض وخرجت من كل التصنيفات العالمية للجامعات، بل تثقفوا بوسائل غير جامعية أهمها الإنترنت والكتاب الثقافي والتفاعل الاجتماعي المباشر والخبرة السياسية في الشارع.
5. في مقابل رعب القيادات الجامعية من بدء الدراسة والاحتمال الكبير لانتقال الثورة من الشارع إلى الجامعة ذاتها، في غيبة الحرس الجامعي والأمن المركزي الذي كان يقمع المظاهرات الطلابية في السابق، تلجأ هذه القيادات إلى الإيحاء بأنها ليست خائفة ولا مرعوبة، "فكيف نخاف من أبنائنا؟...إحنا مش خايفين عشان الطلاب داخلين". لا... أنتم خائفون. إن القول بأننا لسنا خائفين هدفه تهدئة الذات قبل تهدئة الآخر، مثلما يقول الخائف "أنا مش خايف".
6. الرد على المطالب بالقول بأن هذا أو ذاك لا يصلح لأنه ليس في القانون أو ضد القانون أو لا يسمح به القانون، أي قانون تنظيم الجامعات. وهذا في حد ذاته يكشف عن عدم وعي بالمرحلة التي نمر بها. نحن في حالة ثورة، ومن أهم أهدافها القضاء على إرهاب الناس بما يسمى بالقانون، المفروض على الناس من أعلى بطريقة سلطوية، سواء قانون تنظيم الجامعات أو أي قانون آخر. فلا يحق لأحد بعد الآن تخويفنا بالقانون؛ فالقانون ليس صنما نعبده ونسجد له؛ نحن الذين نصنع القانون، وهو ليس أبداً سيفاً مسلطاً على رقابنا.
إن من أهداف أعضاء هئية التدريس بالجامعات المصرية كلها صياغة قانون جديد لتنظيم الجامعات، نضعه نحن ديمقراطياً، ولا نستقبله من أعلى كما كان يحدث من قبل. إن الدستور نفسه يخضع للتعديل حالياً، والشعب المصري في سبيله لوضع دستور جديد تماماً، ونظام سياسي مختلف. ألا يجدر بنا نحن أعضاء هيئة التدريس أن نضع بأنفسنا قانوناً جديداً لجامعاتنا؟