فعل الجماهير في الثورة والتغيير


ابراهيم حجازين
2011 / 2 / 21 - 23:26     

إنها الدولة الشمولية العربية التي طبعت بأدواتها الأمنية والرشوة والمحسوبية وقدرتها على اللعب على تناقضات المجتمع والمناورة بين الطبقات والفئات الاجتماعية كبونابرتيين صغار، طبعت المجتمع بطابعها وحولته إلى حالة من السكون والجمود بالخوف والقمع والإرهاب والركض وراء لقمة العيش والمنافع غير المشروعة فأفسدته ودخل بفضلها الفرد في حالة من الاستلاب شديدة الوطأة، بكل تجلياته الاجتماعية والثقافية والسوسيولوجية. واستفادت هذه الدولة من الصمت وفي كثير من الأحيان من التواطؤ الدولي ومن منظماته الذي كان يرى في هذه الحالة من الشمولية المطلقة عاملا مساعدا في تمرير مصالحه وتحقيق وتنفيذ مشروعاته في الوطن العربي الذي أصبح مستباح صباح مساء بثرواته وناسه وموقعه للدول الكبرى وصراعاتها. ولم يعد للأمن القومي والسيادة الوطنية أثر يذكر إلا في بيانات المناسبات التلفزيونية. وهكذا جرى تأطير الفرد المستلب في دوامة الدولة الشمولية والتابعة.
هذه الدولة العربية هي نتاج طبيعي لمسيرتها نتيجة عدم اكتمال مشروع النهضة العربية في بداية القرن الماضي وبعد تشكلها كجزء مجهض من كل، تحت رعاية الدولة المستعمرة وفي ظل قوانينها لا قوانين مجتمعاتها التي أطرتها هذه الدولة لا العكس كما يجري في العالم الواقعي حيث يصيغ المضمون الشكل والقاعدة الاجتماعية تفرز بناءها الفوقي. فنشأت دول-أنظمة لا تملك من امر نفسها ولا تملك المقومات لبناء دولة حديثة متطورة سيدة نفسها وتعكس إرادة مواطنيها، هذه الحالة مهدت للمرحلة اللاحقة حيث الفشل التام في برامج التنمية وبناء الدولة الحديثة فكان لا بد من تحول هذه الأنظمة إلى الحلول الأمنية واحتواء وتهميش القوى السياسية المعارضة بوسائل شتى. حتى خضع المجتمع للدولة –النظام، مؤسس حول نخب متجبرة و وفاسدة أنتج نفسه كبناء فوقي وليس من تحت أي من قاعدة شعبية ومجتمعية ركيزتها المواطن. نظام زوَّر وشوَّه وظائف الدولة وأدواتها جميعها، وزور معها إرادة الفرد ولا نقول المواطن فلم يصل عضو المجتمع إلى هذه المرتبة بعد، واستمدت هذه الأنظمة شرعيتها من تغييب الشعب، وإقصاءه عن أية مشاركة أو قرار، ومنعه من التعبير عن آرائه، وقطع أي تواصل سياسي بين فئاته وطبقاته وأفراده، وشق صفوفه وتحريض الناس ضد بعضهم بعض عبر منظومة قوانين وممارسات عرضت الوحدة الوطنية ومستقبل الوطن الى أخطار ماثلة ويتحسسها المواطن ولا يستطيع الفكاك منها، مما اشعل من الفتن والعنف الاجتماعي، وفي هذا تستوي معظم الدول العربية. ففي مصر كانت إثارة النعرات الطائفية والمناطقية هواية للفاسدين ووسيلة الحكم للبقاء والسيطرة.
وانفجرت الأوضاع وبدأ الميل للثورة والتغيير في هذه البلدان، وعبرت بذلك الجماهير عن رغبتها في التعبير والتغيير السلمي استيعابا منها لطابع العصر ومتطلبات العمل الديمقراطية ووسائله السلمية. وقد سبقت الهبات الجماهيرية إرهاصات ظهرت عبر السنوات الماضية تعاملت معها الأنظمة بكل قمع وتنكيل ذهب ضحيتها العديد من المشاركين بها، صحيح نجحت الحكومات في تحقيق انتصارات وقتية لكنها لا تقدر ان تمحو اثر هذه التجارب والدروس المستنبطة منها على التحركات الحالية ولنا من تونس ومصر تجارب عديدة تتشابه مع تلك في البلدان الأخرى. وتلاحظ ان التحركات التي اخذت طابع مبادرة من ممثلي الفئات الوسطى والبينية وممثلي الفئات المسحوقة غير المؤطرة حزبيا وسياسيا وأيديولوجيا، لكن معظم المشاركين فيها لهم قصص من الصدام مع مصالح الفئات المتنفذة ويملكون قدرا من المعرفة ومطلين على ما يجري في العالم، وفي وعيهم الجمعي يتحسسون الخطر الداهم على الوطن من جرأء سياسات النظام، فيكفي ان نشير ان ممثلي هذه الفئات كانوا يعرفون كيف يتم تصدير الغاز الى اسرائيل ويتحسسون الخطر على مياه النيل واختراق العمق الاستراتيجي المصري في السودان. ويدركون ان هذه الاخطار هي نتيجة موت المجتمع وتغول النظام الذي استباح الوطن والمواطن. كل ذلك دفعهم للصراخ والهتاف والتنظيم ، لكن ومن الصرخة والهتاف الأول إلتف الشعب وخرج إلى الشارع غير هياب من النظام وادوات قمعه، بل العكس من ذلك فإن ادوات النظام خذلته واصبحت هي في موقع الدفاع حتى انهارت امام تصميم الشعب على نيل حقوقه. وها هي ليبيا حيث لم يكن يتوقع أحد أي تحرك جماهيري فعال يندفع شعبها بكل عنفوان وشجاعة ينفض عنه الخوف القاتل ويتلقى الرصاص بصدره فليس لديه شيء يخسره عدا حياة الذل والمهانة. وما يجري في اليمن والبحرين والمغرب وغيرها إلا دليل ان الشعوب قد عرفت طريقها ولم يعد يهم أحد السؤال هل سأعيش لأرى الحرية لكن المهم ان نأتي بالحرية.
إن تحرك هذه الشعوب السياسي والسلمي باتجاه التغيير الديمقراطي يشير إلى أن مسيرة الثورة قد بدأت او استؤنفت ولن تتوقف فأمامها الكثير من المهام المكدسة منذ مطلع القرن الماضي ومهام اخرى أنجزت نصف انجاز واخرى جديدة كليا تفرضها طبيعة المرحلة والتغيرات التي عصفت بالعالم منذ عقدين من الزمن وأهمها بناء دولة المواطنة المدنية والحديثة دولة جميع المواطنين التي تحترم حقوق المواطنين والإنسان.
الثورة تبدأ فعليا مع تغيير النظام وهي لا تسير بخط مستقيم وتمر في مراحل عديدة وتتنقل الفئات والطبقات الاجتماعية حتى في ايطار المرحلة الواحدة طبقا لمصالحها والانجازات التي تتحقق وتتغير التحالفات أيضا ضمن نفس المرحلة. فالثورة الفرنسية من اعوام 1948 والتي هي استمرار لثورة عام 1789مرت بثلاث مراحل ولم تكمل مهامها الإصلاحية بسبب انقلاب لوي بنوبارت الثالث وكانت بحاجة لدورة اخرى من الثورات، وكذلك الامر في ألمانيا. الثورة بمعناها التاريخي هي حركة تغيير طويلة الامد وتتداخل فيها المراحل والمهام. إن كانت الثورات في تركيا وايران في بداية القرن العشرين كانت منقوصة وغير مكتملة ولم تحل مهامها الديمقراطية فإنها لا تزال حتى اليوم غير مكتملة وهي ماثلة حتى الآن اما شعوب هذه البلدان، فالبنية الاجتماعية –الاقتصادية عامل محدد لنضج الثورة وقواها المحركة. والتجربة التاريخية تفيد ان الثورات قد تحل مهام معقدة وعميقة بأشكال تدريجية وسلمية وقد تحل مهام عامة وتشمل معظم فئات المجتمع على تنوعها بأشكال عنيفة جدا. لا توجد وصفة جاهزة للثورات او التغيرات الثورية. ومن المعروف ان بلادنا العربية لأسباب عديدة قد تاخرت أكثر من قرن للسير في طريق الثورة أو التغير الديمقراطي مما يجعل عملية التحول حبلى بمهام عديدة يتداخل بها الدستوري مع الديمقراطي والاجتماعي. ولا نستطيع في هذا الوقت المبكر ان نحكم على أشكال التغير القادمة في البلاد العربية وكيف ستحل موازين القوى السياسية والاجتماعية مهام الثورة في كل من تونس ومصر وكذلك الأمر في باقي البلدان العربية. لكننا نتعرف من التاريخ ان العامل الذاتي القادر على استقراء خارطة القوى الاجتماعية وصياغة التحالفات ووضع البرامج القادرة على دفع مسيرة الثورات والقدرة على زج فئات جديدة في الحراك عن طريق ربط مصالحها المباشرة بالصالح العام ومتابعة مستوى النضوج السياسي لها هو عامل مهم في هذه اللحظات التاريخية. واعتقد ان سبب المعاناة والعسر في قطف الثمار هو العامل الذاتي الضعيف والضعيف جدا ويفتقد للخبرة والتجربة مما سيقعد ويبطئ عملية تطور الثورات. وفي هذا الوضع لا بد من تشكيل تحالف او اقلها التنسيق الواعي الوثيق لقوى العامل الفاعل للسير بحركة التحولات الى الامام، وهذه المهمة يجب ان تقف في رأس أولويات كافة القوى الواعية لطبيعة هذه المرحلة. وهذا العامل الذاتي في سعيه لبناء أوسع تحالف شعبي من اجل التغيير عليه أن لا يخذل جماهيره وان يحقق كل يوم انتصارات صغيرة وأن لا يتراجع او يهادن على مطالبه لكنه قد يدخل في مساومات، لكن دوما يجب أن تبقى عينه على الهدف المراد تحقيقه.وهنا يجب أن يتوخى الحذر لأن الأنظمة بخبرتها الطويلة ومصالحها التي تخشى عليها وادواتها المختلفة سينهج مع هذا التوجه نحو التغيير نهجا يعج بالتنازلات الجزئية بقصد التهدئة واحتواء هذا الحراك الشعبي العام .والسعي لجعله حراكاً عادبا يمكن معالجته ببعض المنح و الهبات والمنن التي تقدمها الأنظمة لكن كل ذلك مؤشراً على النوايا المسبقة للتراجع عنها لاستئناف نفس المسيرة السابقة.
من هنا يفترض أن تصيغ قوى التغيير برنامجها المحكم وأهدافها وآليات تحقيقها بطريقة تجعل من المستحيل التراجع عنها لاحقا متوخية ارقى أساليب العمل السلمي والديمقراطي وان لا تقع فريسة للاستفزاز الذي ستتبعه قوى الشد العكسي. ولأن الهدف الاسمى هو بناء النظام الديمقراطي فلا أسلم من الوسائل الديمقراطية لذلك.