تأملات: لن نصمت .. وبغداد ليست قندهار !


رضا الظاهر
2011 / 2 / 21 - 15:27     

تأملات

لن نصمت ..
وبغداد ليست قندهار !


تتخذ احتجاجات الناس المشروعة منحى تصاعدياً مفعماً بالدلالات العميقة، ومن بينها أنها تتسم بشمولها مختلف مناطق البلاد حتى الأكثر أماناً واستقراراً. ويتجلى فيها بروز القضايا المطلبية والاجتماعية وصياغتها في شعارات واضحة تحظى بما يشبه الاجماع الوطني، مما ينبيء بفتح آفاق وتحويل ما يبدو مجرد أزمات محدودة معزولة ذات طابع فئوي أو مناطقي الى طابع تحرك شامل. وهو ما ينطوي على امكانية تطور حركة شعبية لتحقيق المطالب العادلة.
ومن نافل القول إن الاحتجاجات هي أحد تجليات الأزمة الشاملة في البلاد، فضلاً عن أزمة الحكم التي تعمقت خصوصاً منذ الانتخابات الأخيرة، وما تزال فصولها تتوالى على نحو يجسد عجز الحكام عن ايجاد حلول للأزمات حتى وفق قاعدة المحاصصات التي يتمسكون بها.
ولا ريب أن من بين ما منح هذه الحركة زخماً أعظم هو تأثير الحركات الاحتجاجية والانتفاضات الظافرة في تونس ومصر، حيث اهتزت عروش وسقطت أنظمة كانت حتى وقت قريب تعتبر من بين أكثر الأنظمة استقراراً.
ومن الجلي أنها، وإن كانت في بداية خطواتها الأولى، تتجاوز في مجرى تطورها، عوامل الضعف والفشل التي شابت احتجاجات سابقة حتى الآن. فهي تتخطى الانقسامات الطائفية والاثنية والمناطقية، لتكون، بالتالي، أكثر قدرة على مواجهة التحديات والوقوف بوجه مساعي القوى المتنفذة المرتعبة من هذه التحركات والمتوجهة الى احتوائها وتدجينها عبر تقديم بعض التنازلات المؤقتة أو الاستجابة الجزئية لبعض المطالب. ومن المنتظر أن يجعلها هذا التجاوز قادرة، تدريجياً، على طرح بدائل للخروج من الأزمة الراهنة بصيغة مشروع وطني شامل وجذري.
وليس من المبالغة القول إن هذا الوضع المشحون والمتفجر يقدم فرصاً للتغيير، الأمر الذي يضع على عاتق الديمقراطيين خصوصاً مهمة صياغة رؤية سليمة وملهمة، وتعبئة هذه الحركة بالاعتماد، أساساً، على القوى الحية للمجتمع، وفي طليعتها الشباب التواقون الى التغيير الحقيقي الجذري.
وهناك، من ناحية أخرى، مخاطر جدية تتمثل في المساعي الرامية الى حرف هذه الحركات الاحتجاجية، العفوية في أحيان غير قليلة، عن أهدافها، بمحاولات مكشوفة ومستترة ترمي الى إجهاضها عبر توظيفها لغايات سياسية ضيقة، وتصفية حسابات وإعادة اقتسام الغنائم وكراسي الحكم في المحافظات والمركز، وركوب موجة الاحتجاجات الشعبية عبر طرح الشعارات الشعبوية ودغدغة واستثمار المشاعر الدينية والطائفية وتسييسها لتشتيت طاقات وجهود هذه الحركة. ويجري كل هذا في إطار صراعات تصب في المعركة ذاتها الدائرة بين القوى المتنفذة على السلطة والثروة والامتيازات.
غير أنه من الخطأ الاعتقاد بأن هذه الحركة ستحقق أهدافها بضربة واحدة، فأمامها شوط طويل يتعين أن تقطعه قبل الوصول الى غاياتها السامية، عبر نضالات متدرجة متصاعدة لا أن ترفع سقف التوقعات دفعة واحدة، مما يمكن أن يصيب هذه الحركة وقواها بالاحباط في حال التعرض الى مصاعب. ولكن يتعين، أيضاً، القول، بثقة، أن لا سبيل آخر سوى سبيل التحدي ومواصلة الاحتجاجات ورفع مستوى الوعي السياسي والاجتماعي والايمان العميق بعدالة المطالب المشروعة.
ولابد من كشف زيف الوعود التي تقدمها بعض القوى السياسية ونفاقها وتملقها لهذه الحركة، في الوقت الذي تحتل موقعاً متنفذاً في الحكم، وتنتفع من الامتيازات التي حققتها جراء ذلك.
وتكشف التراجعات والتنازلات التي قدمها الحكام سواء في ما يتعلق بتقليص رواتب ومخصصات "الكبار" وتحسين مفردات البطاقة التموينية والغاء صفقة طائرات عسكرية أميركية، الى جانب الاجتماعات الطارئة مع مجالس الحكم المحلي في المحافظات، وانطلاق أصوات البعض المزايدة في البرلمان، تكشف مدى هشاشة الحكم وعجزه عن حل المعضلات المستعصية، مثلما تفضح النفاق والتضليل من جانب "سياسيين" أدمنوا هذا السلوك، واللجوء، بالتالي، الى حلول ترقيعية تسكينية مؤقتة لاحتواء موجة الغضب الشعبي المتصاعدة. ومن المؤكد أن مثل هذه العقلية القاصرة في التعامل مع الأحداث مرتبطة بمنهجية المحاصصات السائدة في الحكم، وهي أم البلايا.
إن على الشباب والقوى الديمقراطية التركيز على المطالب الواقعية المشروعة، وبينها تلك التي طرحت في احتجاج ساحة التحرير يوم 14 شباط الحالي، وعدم الانجرار الى مساعي جهات عديدة وبأساليب خبيثة مختلفة، هادفة الى اجهاض الاحتجاجات، وتوفير تبريرات لمن يريدون ايقاف ما يرعبهم من تحرك شعبي.
* * *
من كان يعتقد أن العراق في مأمن من رياح التغيير بسبب ما يسمى بالتحولات "الديمقراطية" يكتشف اليوم مدى أوهامه. فالتحولات التي جرت منذ "التغيير" بوسيلة الحرب والاحتلال لم تحقق البديل الديمقراطي الحقيقي المنشود، بل انتهت بالبلاد الى فريسة يتناهبها "المحررون" و"المقررون"، بينما تطحن رحى المآسي الملايين.
الناس لن يصمتوا، وبغداد لن تكون قندهار !
ستبدد شموع الشباب المحتجين، رافعي رايات ائتلاف السخط والأمل، ظلمات من يستهينون بمعاناة المحرومين، ويتوهمون أن الشعب خانع وأن كل شيء قد استقام لهم في واقع يؤبّد وجودهم وامتيازاتهم.
صباح الخير أيها الشباب .. يا من بكم يليق المجد ناهضاً مع الينابيع التي تتفجر غضباً والرايات التي تمضي الى الضفاف .. ما أسكتَ الرصاص يوماً أصواتاً عادلة !