الرأسمالية المتوحشة والإرهاب الوظيفي


نضال الصالح
2011 / 1 / 23 - 23:22     

ولد وترعرع في كنف عائلة شيوعية، فلقد كان والده متفرغا للعمل الحزبي في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السلوفاكي، وكانت والدته متفرغة للعمل النقابي وخاصة في المجال النسائي. كان جده مناضلا شيوعيا في صفوف عمال سكة الحديد، ولقد قاتل الألمان النازيين في حرب العصابات التي دارت رحاها في جبال سلوفاكيا. كانت عائلة بسيطة مثال الأمانة والصدق، ولم يستغل والداه مركزهما يوما من أجل مكاسب شخصية أو من أجل مصالح عائلته وأقاربه. سكنت العائلة في بيت بسيط من ثلاث غرف وإمتلكت حديقة صغيرة خارج العاصمة، زرعها جده بالعنب وبعد وفاته إستمر والده في العناية بها وصنع النبيذ من منتوجها. كنت ألتقي بهم في حديقتهم في بعض أيام الآحاد نحتسي النبيذ برفقة بعض الأصدقاء ونتحدث في شتى الأمور.
كانت تربطني بالإبن علاقة خاصة، إذ كان دوما متلهفا لسماع أخبار الناس في بلادنا العربية وأخبار العالم خارج نطاق المعسكر الإشتراكي.أنهى دراسته الجامعية في الإقتصاد وإدارة الأعمال قبيل سقوط النظام الإشتراكي وعمل موظفا في مؤسسة مالية حكومية.
لم اسمع منه خلال مدة معرفتي به نقدا للنظام أو تذمرا من وضعهم المعيشي الخاص أو العام. ولذلك كانت صدمتي كبيرة حين رأيته يشارك في قيادة المظاهرات ضد النظام الإشتراكي أيام ما يسمى بالثورة المخملية، وكان صوته يعلو بالهتاف بسقوط الحزب الشيوعي والنظام الإشتراكي. كان موقفه صدمة كبيرة لوالديه، خاصة بالنسبة لوالده الذي لم يتحمل رؤية إبنه يقف في الجبهة المعادية ويساعد في تحطيم البناء الذي قضى هو ورفاقه السنين الطوال في بنائه. لقد رأى والده عالمه ينهار أمام ناظريه، وانهار جسده مع إنهيار النظام والحزب، فمات والحسرة تعصر قلبه. أما والدته فلقد حولها النظام الجديد إلى التقاعد المبكر وأحالها على المعاش.عاشت وحيدة في بيتهما الصغير، بعد أن تركها إبنها الوحيد وذهب ليسكن مع عائلة زوجة المستقبل.
إنهار النظام الإشتراكي وانتشرت الخصخصة في البلاد كالسرطان، حتى لم يبق مصدر من مصادر الثروة الوطنية إلا وقد جرى بيعه للشركات العالمية. ومع الخصخصة إنتشرت المافيا المالية التي كسبت عمولات ضخمة من عمليات الخصخصة ووصلت إلى أعلى مراتب في صنع القرار. وما جرى للمؤسسات المالية جرى للمؤسسات الإعلامية فاستولى الرأسمال الأجنبي على المؤسسات الإعلامية وانشرت صحف ومجلات الفضائح والجنس.
إلى جانب كل هذا إنفتحت فرص العمل للشباب، خاصة ذوي الإختصاصات المالية والإدارية والبرمجة الحاسوبية، وسنحت لهم الحصول على وظائف برواتب عالية، ولقد استلم كثير من الشباب وظائف مغرية في المؤسسات التجارية والمالية العالمية. ولقد كان صاحبنا واحد من بين هؤلاء.
دعاني إلى حفلة زفافه التي أقيمت في أحد الفنادق الفاخره. كان جل المدعويين ينتمون إلى الطبقة الطفيلية الجديدة، من تجار ومتمولين وموظفي بنوك و شركات أجنبية. بحثت بين جمهور المدعوين عن أحد من رعيل والده ووالدته القدماء، فلم أجد. كانت رائحة المكان تفوح بالمال والإستعلاء والتكبر والإستعراض والوصولية، فخرجت من الحفل بعد أن إعتذرت من العريس ووالدته، التي خرجت معي تودعني إلى باب سيارتي. نظرت إلي قائلة:" لقد رفض أن يدعو أحدا من أصدقاء والده القدماء، إنه ليس إبننا الذي تعرفه، إنه يخجل حتى من ذكر إسم والده ويتنصل من علاقته به وبتاريخه". صمتت قليلا ثم تنهدت وقالت:" لقد أصبح جزءا من الطبقة الطفيلية الجديدة، لقد إشترى فيلا كبيرة بحديقة وبركة سباحة وسيارتي مرسيدس فخمتين، واحدة له وأخرى لخطيبته المصون، كله بواسطة السلف البنكية. يحاول جاهدا أن يقطع علاقته بمجتمع والده وإظهار نفسه أنه ينتمي لمجتمع النخبة الجديد." نظرت إلي بحزن وقالت:" هذا عرس إبني الوحيد ومع ذلك أشعر بالغربة والوحدة والحزن." ثم مسكت يدي وقالت:" أرجوك تحدث إليه فهو يحبك ويحترمك، لعلك توقظه من حلمه." ثم غادرتني راجعة إلى حفل زواج إبنها ورأسها منحني بين كتفيها. ركبت سيارتي ورحلت بدوري وفي رأسي عشرات الأسئلة التي لم أجد لها جوابا.
لم أتحدث معه، فلقد كنت أعرف عبثية هذا الحديث وقلت لنفسي:" إن كان هذا ما يريد فله ذلك."
مرت الأيام والأشهر وانقطعت علاقتي به وكنت أسمع أخباره من والدته، التي كنت أهاتفها بين الحين والاخر. أرسلته الشركة في رحلة عمل إلى قزخستان وكان من المفروض أن يقيم هناك مدة شهرين، مددت إلى نصف سنة، ثم سنة، وهكذا حتى تخطت السنتين. لقد سمحت له الشركة بالسفر إلى الوطن مرة كل عدة أشهر ولمدة أسبوع واحد فقط.
ولدت زوجته في غيابه، ولم يعايش أشهر طفله الأولى، ولا بروز سنه الأول ولا كلمته الأولى "ماما"، لأن "البابا" غير موجود في يوميات الطفل. عندما كان يحتج ويطالب بالعودة، كان يواجه بالجملة المعروفة:" بإمكانك أن تستقيل، فهناك صف طويل من الشباب مستعدين لأخذ مكانك وبراتب أقل." كانت الديون البنكية ورهن البيت تمنعه من الإحتجاج والتفكير بالخروج من هذا المأزق.
بعد عامين وجد أن زوجته قد تركت بيتهما ورحلت إلى بيت والدها، فلقد أتعبتها الوحدة وغياب زوجها عنها. أما طفله فلقد بكى عندما رآه ورفضه خوفا منه. لم تنفع كل الكلمات،" أنا بابا" من تغيير موقف الطفل، فلقد كان الرجل غريبا عنه. باتت حياته الزوجية والعائلية مهددة، فقرر الإنتفاضة على موقف الشركة، فهدد بالإستقالة إن لم تعيده إلى الوطن، فأقالته الشركة وأصبح عاطلا عن العمل.
أخذ يبحث عن عمل مناسب فلم يجد. طرق باب جميع الشركات، كانت جميع العروض أقل بكثير من تطلعاته ومستوى مركزه الذي إعتاد عليه. حتى هذه بدت تشح، ففي كل يوم يتخرج من الجامعات جمهور غفير من الشباب المتعطش للعمل.
لم يستطع الإستمرار في دفع أقساط البيت، فاستولى البنك على البيت وعلى محتوياته. لم يعجب زوجته الوضع المأساوي الذي وصل إليه فطلبت الطلاق، فحصلت عليه وعلى الطفل. لم يجد صاحبنا مكانا يلوذ إليه إلا بيت طفولته، في كنف والدته فلجأ إليها.
بناءا على رجاء والدته، ذهبت لزيارتهم. وجدته منعزلا في بيت والدته، هزيلا، مهزوما، طالت ذقنه حتى دعاه البعض "طالبان". لم تستطع كلماتي التخفيف عنه، فلقد خسر كل شيئ حتى كرامته، ولم يكن بيدي حل لكي أقدمه له.
حالة صاحبنا هذه، هي واحدة من آلاف الحالات المماثلة. لقد فتحت الرأسمالية الجديدة الأبواب أمام فرص مغرية للعمل متشابكة مع سهولة القروض البنكية، ولكنها فرص مربوطة بلغم موقوت، لا يدري حامله متى ينفجر في وجهه. هذه الحالة تخلق عند صاحبها قلق داخلي، ينغص عليه حياته، مهما كان مستواها. لقد أصبح الموظف أسيرا بكل معنى الكلمة لإدارة الشركة وعرضة للإبتزاز، فخطر الطرد مسلط كالسيف فوق رأسه، كلما حاول الإحتجاج على سوء معاملة أو طلب تصحيح أوضاعه الوظيفية.
قد تكون الإشتراكية قد وقعت في أخطاء كثيرة وبعضها تجاوز المعقول، ولكن حق العمل، كان في ظلها مقدسا، لا يجوز لأحد، مهما كان، أن يعتدي عليه أو يسلبه من صاحبه، من ما خلق عند العامل والموظف نوع من الطمأنينة وشعور بالإستقرار.

د. نضال الصالح/فلسطين