-لليسار دُرْ...- في نقد العقل العربي


رشيد قويدر
2011 / 1 / 23 - 14:03     

مشروع نقدي مكتمل، وبيان أولي مفتوح لمشروع التنوير العربي والحداثة، بالذات لقوى اليسار العربي ...


• حواتمة يستمطر غيوم العروبة الملبدة بلا انهمار المطر: الديمقراطية والمواطنة والحداثة في مواجهة التصحر وزحف الرمال
• إن تراكيب الحياة العربية السياسية – الاجتماعية وثقافتها وذهنيتها الغالبة قد باتت معيقة للتقدم والنهوض

يعبر الكتاب الجيد عن أمور كبيرة بكلمات بسيطة، نقيض ذلك الشيء الذي يعبر عن أشياء تافهة بكلمات طنانة ... والقيمة تتضاعف حين يتناول الكاتب التاريخ العربي، والاجتماع والمجتمعات العربية والوضعية التاريخية التي لهذا الحقل العربي الشائك والمعقد؛ والمشبع بالمولدات الموروثة للعنف في نسيج الاجتماع والسلطة العربية في تاريخها؛ الدولة "الطوطم" والكاريزميات والأساطير والخرافات في استعارات انساقها في التكوين الثقافي المجتمعي وفي العقل العربي.
كيف لا خاصةً إذا كان الكاتب ذاته مكتبة؛ تكشف حواراته عن أفكاره وآرائه إزاء القضايا المختلفة، والتي تتوقف جدواها على المحاور القادر أن يمنحها بأسئلته التي تتخطى الحوار الصحفي؛ لتكون رحلة عميقة في مكتبة مختزنة على ستة عقود من الكفاح. ومثل هذا الهدف لا يتحقق إلا عبر جلسات حوار مطولة، أو عبر مجاورة كفاحية تمتد إلى ما هو أعمق من لقاء. وهذا بالضبط ما يقوم به الناقد في الوصول إلى الأعماق.
وهكذا فالكتاب يعبر عن توازن رائع مع ستة عقود من الكفاح، في قراءة مادية، اجتماعية، فكرية، سياسية للتاريخ العربي. والكتاب بين دفتيّه يعبر عن رؤيا ومقدرة بارعة على التنظير البرنامجي الملموس للواقع الملموس، في مناقشة أُسس العلل العربية، ومناقشة مختلف القضايا التي تثيرها المرحلة الراهنة، واللغة تنبض بالطاقة التي تقود إلى رؤية بنية عربية مختلفة، وبشكل بالغ الوضوح، والاستنتاج والقراءة فيها والإغناء عليها وتفصيلها ... فهو بمثابة بيان أولي لمشروع التنوير العربي، مشروع نقدي مكتمل بين فصله النظري الأول وتطبيقاته بالفصول الأخرى.
على امتداد ستة عقود؛ حارب حواتمة الفصل بين العقل وتغيير الواقع، بين العقل والحس؛ وبين العاطفة والإرادة، فلم ينأى بنفسه عن الكفاح وتحمل المسؤوليات الصعبة، خاصةً التنوير في مهمة "انقطاع العقل"، بما تؤلب عليه مهيمنات مركزية عربية سالبة، وبشجاعة رجل تحمل ببسالة المهمات المعقدة عربياً؛ وأولها "الانسداد التاريخي" والتي يتصدى لها الكتاب.
هنا لا يترك مجالاً للشك حول الدامغ من وراء الكتاب، باعتباره خلاصة تجربة متلاحقة متصلة منذ عقد الخمسينيات من القرن الماضي وحتى يومنا هذا، ما يعبر عنه العنوان "اليسار العربي ـ رؤيا النهوض الكبير ـ نقد وتوقعات" ...
ومن العنوان إلى الواقع؛ لنرى كيف يطغى اللهاث العربي الرسمي حول التجديد الشكلي فيما يُلقى من أوراق وبيانات هنا وهناك في معالجة الأزمات ... دون معالجات، تجديد شكلي على حساب الجوهر والمعنى والمضمون، كذلك في سياق تجربة اليسار ومشروع العصرنة والحداثة العربية.
إن واقع ووقائع الحياة العربية، يشيران إلى حالة العري العربية، العري السياق التاريخي والنسق الثقافي العربي المهيمن، وبالكشف عنه وعن أزمة انقطاع العقل، يرفض الكاتب ممالئة المهيمنات العربية المركزية، والسلطات القامعة والتواطؤ مع خطاباتها الزائفة الملتبسة حول قناع الحداثة بروح المجتمع المستهلك "الكومبرادوري" ... أو الريعي، يرفض مواصلة إرث الخواء والأغراض للخطاب الرسمي الجاهز ...، والخلاصة للمتلقي والتي ينبغي أن يستخلصها؛ هي ركائز الكتاب الأساسية وما يتوالد منها، الأولى: ممثلةً بتحفظ العقل الفاعل على رواية التاريخ العربي كما دونت "رسمياً"، تلك التي تواصل أسطورة "الزير سالم وعنترة" و "أمجاد يا عرب أمجاد" باعتبارها "تعويضاً" عن الهزائم المتتالية والتي تبدأ عسكرياً وتنتهي بمختلف أنساق الحياة العربية.
ويشمل التحفظ أيضاً على المناهج التعليمية والتربوية في سياق التاريخ العربي، باعتبارها مكرّسة للألم العربي المفتوح على مداه، الألم المتجدد في دوراته التاريخية منذ وقوع الانقطاع مع العقل وانسداد التاريخ، وصولاً إلى الراهن وعواصف الهيمنة والعدوان في مراكزها القطبية والإقليمية التي تهزّ أركان الوطن العربي من كل حدب وصوب، وتفتح شهية الإمبريالية والكولونيالية والصهيونية وربيباتهما على المزيد، ومعهما كل القوى المتكالبة الطامعة في البلاد وشرذمتها؛ في تقسيم المقسم للثروات والأرض والعباد؛ بيافطاتها المختلفة.
في الوقت الذي تطحن به اليوم الحروب الأهلية (إثنية قومية وعرقية، طبقية اجتماعية وسياسية، طائفية، مذهبية، جهوية، إشكالات الهوية) أكثر من قطر عربي، وتبقى أُخريات تحت نُذر الفتن، حيث تذرُّ الفتن بقرنها هنا وهناك على مساحة أرض العروبة، مقرونةً بحالة الاستكانة والاستهانة وحالة الموات العربي التي وصلت إلى المأساة التاريخية، حيث أن عالماً عربياً ممتداً على قارتين من الماء إلى الماء لم يعد يدخل نظمه في حسابات الدول الكبرى والصغرى، فالأمة عبر الانسداد التاريخي المديد فقدت الحيلة، وهذا لم يكن نتاج حالة تأسن وتفكك للحوامل والروافع الداخلية التاريخية فقط، بل والانقطاع عنها، ونحن نرى كهوف اليائسين من غياهب النسيان، وسياسات "الرقص في الظلام" التي تدل عليها البيانات والخطب الصوتية النافخة التي تلوك لسانها وتجترّه، ونرى مواقف أكل الدهر عليها وشرب وكلما ضربت الأمة زلزال؛ مواقف تزيدها يأساً، بعد أن تطال شعوبها قشعريرة رعب إنساني من عدوان ومجزرة ومذبحة ومحرقة هنا وهناك، يأساً حتى تدمن حدّ الإشباع على صورة الدم الذي لا يُدمَنُ إنسانياً؛ المشهد المفتوح على مداره ولما يتوقف بعد ... نظاماً عربياً استمرأ الهزائم، وإلا لما تجرأت "إسرائيل" إلى هذه الحدود في عدوانيتها وإرهابها وغطرستها، وتدخلها في مسببات الحياة العربية وفي كل شيء، ولما استخفت الولايات المتحدة وإداراتها الأمريكية بكل هذه الحمولة من النُظم العربية الرسمية.
الركيزة الثانية: للكتاب هي النقد والمراجعة للثقافة العربية وموروثاتها في العقل العربي السائد والمؤسطر على مدى زمني شاسع بدءاً من انقطاعه عن الواقع، وانقطاعه عن التفعيل والتأثير، فالعقل المتردي المتلقي منقطع وفي إجازة مديدة ولا يمكن له أن يبدع ريادة، فهو غير متناسب مع زمنه وغيبوبته.
إن دافع الكاتب بالبحث بهذا العقل المنقطع المخلوع عن سياقه العصري، ومهما ادعى من طليعية هي غير متناسبة مع سياقات التاريخ وتطوره، كما أنها حالة اختلال فادح تعبر عن واقع محكوم بفقر اجتماعي وقهر سياسي بسبب من غياب تفعيل العقل النقدي.
ويرى في هذه الاندفاعة القهقرية الرجعية غياب العقل، ما يؤدي إلى التطرفات القصوى بأنواعها المشهودة باسم "التراث"، ومشهودة في حالة السبات العام. وعليه يرى أيضاً ومن موقعه العربي؛ أنه ينبغي أولاً تمثل قيم التنوير والعقلانية واستلهامها وترسيخها والتعلم منها، نحو ردم وتجاوز تلك الفجوة صانعة تلك الأزمات المتصلة في سلسلتها، والتي تبدأ بفصل الناس عن الحياة، بدلاً من إغناء تجربتها معرفياً وروحياً، واستبدالاً من "التقليد" و "النقل على العقل"، بما يشمل هذا وعلى زاوية "يساروية" تنشد "ما بعد الحداثة" باعتبارها مفهوماً زمنياً محايداً لا أفضليات له في الواقع العربي الراهن؛ درج عليه بعض المثقفين المنقطعين، بدلاً من تغيير الواقع، باعتبارها حلاً فردياً ذاتياً، يعفيه من المسؤوليات التاريخية، بعزلة من نوع جديد؛ وخاصة تلك التي راجت بعد الانهيار البنيوي للمنظومة الاشتراكية، وباعتباره أيضاً هروباً من مسؤوليات الواقع ومن معالجاته، بالتكور على الذات لحظة الإحساس بالمسؤولية والخطر، وهذا لا يفتح على شيء. هنا نراه في بعض المثقفين الذين حُسبوا على اليسار وهم يقيمون في حواضر العرب، وبما يتسمون بانقطاع واغتراب آخر؛ هو عدم الأمانة الفكرية والثقافية للواقع الملموس، وعدم الأمانة للثورية الواقعية، وبما يشملها "تقليدياً" من ادعاءات، فحقيقة الواقع هي من خارج "النقل على العقل" وليست عبر المطلقات "الإيمانية" دينية ويساروية، وخارج الحقيقة المحصورة باليقين العلمي.
وفيما نشاهد كيف يستخدم البعض "يساروياً" مصطلحات علمية دون دراية كافية بمضامينها، مثلما "ما بعد الحداثة" للترويج لرطانة فارغة مضللة، بينما هم معنيون بإمعان التفكير وتحليل الواقع واستنبات الحديث الجديد على أرضه وتربته، بدلاً من الدخول في نصوص منقطعة مغلقة. وبالإجمال فهي حذلقة على الجانبين "يمينياً ويساروياً"،حيث تخفي وراء قواها الذهنية حالة عضلية فارغة من المعنى، بيد أن الفارق هو أن مَنْ يمتلك شيئاً من جديد الفكر فهو يصنع المستحيل من أجل إيصاله بلغة بسيطة، لا الحيلولة باللغة دونه.
هنا نجد الكاتب في منهجه المعرفي ينهل مما يترابط بالواقع الحيّ، كما ينهل من ثريات التراث المفيد بدءاً من الحديث الشريف: "الخروج عن الوطن عقوبة"؛ وحكمة أبقراط الذي "يداوي كل عليل بعقاقير أرضه، فإن الطبيعة تنزع إلى غِذائها"، وعقاقير الأرض هي ذروة حب الأوطان ... وويلٌ لمن نسي وطنه ... ونسي قلبه ...
في جانب هذه المعالجة التي يتصدى لها، يركز على عقاقير جبهات اليسار الوطنية برؤيا وممارسة نقدية، بتوفير القاطرة التي تدفع الحركة والإنجاز، نحو الخروج من الضعف وتشتت الأدوار إلى فرص بنائها وتطوير مكوناتها، فاليسار هو الأكثر جديّة في طلب التغيير، ولكن من خلال تعبيره الواقعي الملموس عن مصالح طبقات شعبية يسحقها الواقع الراهن، وهي مهمة تاريخية لإعادة بناء ذاته، واكتشاف نفسه وسط حركة الجماهير العاملة والفقيرة.
ومن اشتقاقات هذه الركيزة يستمطر حواتمة غيوم العروبة الملبدة دون نثيث المطر: "الديمقراطية والمواطنة والحداثة"، وعليه فقد تناول اليسار العربي وقوى الحداثة، والكتاب طبع في بلدان العروبة وأمصارها من الماء إلى الماء، نحو تلمس مخارج الاغتراب من يوم "قارعة عربية"، حيث أن الجميع من رواد وأهل هذه المفاهيم في "محنة وامتحان"، وكأني به التحية والسلام على أرض العرب، السلام على غاية الأرب ... السلام على الضاد، وبإيمان عروبي تربينا عليه: "من الشام لبغداد ... ومن نجدٍ إلى يمنٍ ... وأوراسٍ يلاعبه المحيط" ... السلام على خير منزل ... يا أهل فلسطين لا تهنوا ولا تحزنوا ...
كما السلام على جالينوس المخاطب لكل اغتراب وكل غريب بقوله: "يتروّح العليل بنسيم أرضه، كما تتروح الأرض الجدباء ببلل المطر" ... وفي العلل والاغتراب نكثف التالي عربياً ...
1 ـ إن تراكيب الحياة العربية السياسية ـ الاجتماعية وثقافتها وذهنيتها الغالبة قد باتت معيقة للتقدم والنهوض، وعلى هذا مطالبته أطياف اليسار والليبراليين العرب ـ الملتزمون اجتماعياً ـ تفريقاً لهم عن الليبرالية المتوحشة؛ عليهم أن لا يعدموا الفرص للاستئثار بمساحات نفوذ وتأثير متطور متراكم الاتساع ومؤسسي، عبر استغلال المساحات الشعبية المتسعة؛ وللتأطير الشعبي وعلى الرغم من القيود الرسمية الشتى المفروضة عليهم، وبدءاً من الإعلام.
2 ـ نظراً لما تعانيه البلدان العربية من اختلالات فادحة طاحنة اقتصادية ـ اجتماعية، أبرزها الفقر والبطالة والأمية والهجرة غير الشرعية، وانهيار الخدمات الأساسية للدول العربية في قطاعات التعليم والصحة، وغياب شبكات الضمان الاجتماعي بفعل الانسياق وراء قاطرة النيوليبرالية، منذ سبعينيات القرن الماضي؛ فإن اليسار هو المعني أولاً بأن يملك تصورات واضحة لاستقطاب القطاعات الشعبية الفقيرة؛ التي تعاني من الإقصاء الاجتماعي، والمدفوعة إلى حالة أزمة حقيقية. تصورات واضحة للتعامل مع الإجحاف الاجتماعي في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، بالمساواة في المواطنة، بحلول إشكالات الهوية في البلاد العربية، والمعضلات الإثنية، الطائفية، المذهبية المزمنة، والمستولدة حروباً أهلية لا تنتهي بغير حلول جديدة تنتمي إلى عالم العصر الحديث بتقرير المصير والمساواة في المواطنة، وبنزوع برنامجي معاكس يستهدف عودة الدولة إلى مسؤولياتها في الموازنة الاجتماعية، نحو قضايا العدالة والمساواة ومكافحة البطالة، وبناء شبكات فعالة للضمان الاجتماعي، وتقليص الفجوة الهائلة والمتزايدة في توزيع الدخل بين الأغنياء والفقراء في المجتمعات العربية، كما أن العقد الاجتماعي بات مفقوداً، وباتت الحاجة ماسة إلى صناعة توافق فعلي حقيقي بالجوهر والمضمون؛ وهو ما ينبغي أن تأخذه قوى اليسار بعين الاعتبار وبالجوهر.
3 ـ الحريات السياسية والمدنية والفردية وحكم القانون، والفصل بين السلطات الثلاث، ورفع نسب معدلات المشاركة الشعبية في الحياة السياسية العربية، خاصةً في المشاركة بالقرارات التي تتعلق بمستقبلها ومصيرها ومصالحها، وفي القرارات السياسية الهامة والتاريخية، وذلك برفع مستوى وممارسة الحريات السياسية والمدنية والفردية؛ دفعاً للإصلاح الحكومي بالتركيز على القطاعات المتضررة والفقيرة التي تتعرض للضغط الأوسع في حياتها اليومية، ورفع الضيّم والتمييز عن المرأة وتمكينها، برفع مستويات العمل النسائي الاجتماعي والسياسي. وبهذا المضمان يملك اليسار بأطيافه والتيار الليبرالي التقدمي فرص حقيقية لصياغة برامج بديلة، وصولاً إلى البحث عن إمكانية الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، باعتباره أهم مقدمات الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي التعددي الواقعي والجاد، والكف عن صناعة الحالة الواحدية والتوحيدية العربية.
4 ـ إخراج محاولات "تخصيص" الحالة العربية باعتبارها استثناءً معزولاً عن التجارب الثورية في هذا العالم، إخراجها من قميص عثمان الحديدي المثقل على صدرها وتنفسها، نحو رحاب المعالجات والحوارات العالمية بذات الغرض، فالأزمة المالية التي ضربت المرتكزات المالية للنظام الاقتصادي العالمي، وبما أعلنت بوضوح عن نهاية حقبة الليبرالية المتوحشة هي مرشحة للتصاعد، وهي أزمة عالمية بحكم الهيمنة الإمبريالية، وذلك في اختلالاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الطاحنة، وهي بذات الوقت حالة إرهاص إنساني أممي مشترك في تعدد تداعياته.
كما أن مفهوم العدالة والحرية والمساواة والتضامن وحق تقرير المصير هي مفاهيم إنسانية أممية، بما يلزم الإفادة من الترابطات الدولية الأممية المتعددة، ومن الخبرات المالية الاقتصادية في المعالجات العالمية، وقد خصص الكتاب حالة أمريكا اللاتينية ونهوضها نموذجاً.
5 ـ يمر عالم اليوم راهناً بحالة تفكير متجدد، حول النموذج الواقعي الأمثل لدور الدولة وترابطاتها، واليسار بأطيافه معني أولاً بالتجديد وذلك بعموم أطيافه، كما بحكم منطلقاته ولأنه يملك تجربة كبيرة بهذا المضمار، بحكم برامجه وبحكم أدواته المفاهيمية، من حيث رؤيته المستقبلية للعالم ومن موقع تضامن الضمير الأممي.
الركيزة الثالثة: هي أن حواتمة يعبر عن رؤياه كثوري ومفكر ومثقف، من موقع كونه إنساناً أممياً يسكن هذا الفضاء الإنساني الواسع، ويفسره بدلالاته الكامنة عبر معيار وحيد هو قلب نهر الحياة الإنسانية الجارف، وباستقصاء متطلبات التطور، أما مداده كحالة بنيوية عميقة فهو تجربته وتاريخه وموقعه ودوره، وانحيازه ذاته إلى الانخراط الكلي في عالم الجموع العالمي الثوري، في مواجهة السلطات والمهيمنات المركزية العالمية القامعة وتوابعها هنا وهناك؛ وشعاراتها البراقة، وتبرز هنا لغة الشارح والباحث في هذه الأسباب، ولغة المفسر الباحث عن المعاني في ثنايا الخبرة التاريخية الإنسانية الأممية وبمحدداتها التاريخية، ويبرز هنا ما هو من السياسي، بتعميقه الفكري بحثاً عن الحقيقة.
في هذا كله؛ الذي يعالجه الكاتب ويتصدى له الكتاب، يكشف بأن له في العقل العربي سوابق ومقدمات تاريخية مديدة، في اعتماد تعطيل العقل والنقل. والراهن هو انعكاس مرآة صافية لروح التاريخ العربي قهقرياً، يقدم المعيار الموضوعي للتمييز في تطبيقاته النقدية، كاشفاً عن الدلالات المطمورة فيه، بالمعنى المتقدم على الشكل إطلاقاً، قاصراً جهده على مخاطبة العقل الذي يمثل أعلى الملكات للنفسية الإنسانية، مقارناً الموجودات المحسوسة التي هي بدورها انعكاساً للتَمَثُلْ والأفكار "الرواسب" في بواطن الأعماق، باحثاً عن الجمال الإنساني في رقيّه الكفاحي وجمال الروح.
وفي سياق بحثه عن مخارج لمآزق تاريخية مذمومة في ثقافتنا وفكرنا، بتقرير مصير الأشمل بين الحقيقة والواقع، بين الذات والتاريخ، وجميعها في الكتاب تحيط بين إبراز المعضلة والمعاناة؛ والموهبة المتسمة بروح العصر والنهوض فيه، ومسؤولياته التي تفتح أبواب التاريخ العربي المتلاحمة الصدئة، وعليه فالكتاب كناية عن بيان عربي لمشروع التنوير والحداثة، ومشروع نقدي مكتمل بين فصله النظري وتطبيقاته بالفصول الأخرى؛ بالمعالجات والأفكار الجريئة المتقدمة للواقع العربي الآسن إجمالاً، والمعالجات هي التي تعبر عن قيمة الكتاب، والذي سيكون ناقصاً بما أثاره؛ إن عجز عن تبرير صلته بالموضوع، وهو التغيير والتقدم اليساري ... ولليسار دُرّ ...
أما موضوعة "الرؤيا" بالعنوان، فحين يكون التحليل نبضاً صادقاً للتاريخ والواقع، فعلى الكاتب أن يكون الرائي للمستقبل، وكما يراه في كتابنا هذا، فإن الرؤية تبدأ بأعمال النقد في تقاليد التفكير والكتابة والتعبير والهوية وموضوعة المساواتية التي لا تعترف بأي مرتبة أو سلطة، حين تفصل المبنى عن المعنى بسواه من نقد أو أية ذوات اجتماعية، وهنا يعبر حواتمة عن أصالة الوجود وعمق التجربة التاريخية وصدقها ... في عمق النقد والتشريح ...
بيان في مشروع النهضة والتنوير العربي
إن مشروع النهضة العربية هو مشروع يرتبط أولاً بمرتكزات بناء دولة عربية حديثة راسخة ذات مشروع سياسي تاريخي؛ تُسهم في ترسيخ قيم المساواة وحرية الإنسان وكرامته، نحو خلق استجابات مجتمعية عامة لمتوالية التطور في كل شيء بما فيها الفنون والجمال، في إنتاج ثقافي ومعرفي وجمالي متعدد المصادر؛ بروح لرؤية إنسانية عقلانية منفتحة على العلم والعالم، لا مكان فيه لآليات الإقصاء والاختزال والطمس والحذف في النسق البنيوي للثقافة، وفي صيرورة تمركزها في منظومة الهوية المعبرة عن الاجتماع والاجتماعي.
وعليه؛ فإن مشروع سياسي تاريخي حديث، يبدأ أولاً بالخروج من "مأزق الديمقراطية العربية" التي تعطل الحراك السياسي، وتراكم إعادة إنتاج الإخضاع عبر القوالب الجاهزة المقطوعة الصلة بالواقع، فإن الحال تفضي إلى توليد تطرفات قصوى انحطاطية، واستقطابات حادّة للديني اليميني المذهبي السياسي، وللقومية والإثنية العرقية في الهويات الفرعية.
إن هذا المشروع السياسي ـ الثقافي النقدي هو ما يكشف عجز الفكر العربي الرسمي الراهن في توارثاته، وفي تصوره وتمثله عن إنجاز الاجتماع البشري باعتباره اجتماع مدني؛ يستند على مقولة المواطنة والمساواة والحقوق المدنية، في ارتكازه المنقطع على الحالة المغلقة بالتمثيل الحصري لجماعات محددة، وارتكازها على العنف والإقصاء لكسب الشرعية السياسية، في متوالية إنتاج مفرخة توليد إرهاب دموي أعمى في متواليات التاريخ ... نتاج الأفكار السوداء وفقدان الأمل الناجم عن الافتقاد المدني للدولتي، وإنتاج سلطات قيم "بدوية" بطرياركية متخلفة ...
كما تُبرز المسألة السياسية الراهنة الأساس في مواجهة المشروع التنويري العربي؛ هو بارتباط وكما هي الدين بالدولة، وما تفرزه من أصوليات شعبوية عدمية سياسية في إشكالية ومأزق البنية الثقافية العربية، وارتباطاتها بالمجال السياسي، وتوليد ما يطلق عليه: "العُرف" ...
وهذا كله يعني مصادرة الأسس الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية لإقامة مشروع تنويري عربي فعّال؛ في تغييب كامل للاشتراطات الموضوعية والوسائل والحاجات؛ ضمن دولة تعددية صاهرة للُحمة قومية تستند على الديمقراطية ...
إن هذا التلخيص المشبع بالقراءة للتاريخ العربي ومجتمعاته، يرمي إلى الوصل بالتاريخ، ويرمي إلى إحداث قطيعة مع الثقافة التداولية بامتلاك مفاتيح التطور وآلياته، قطيعة مع الإيديولوجيات المسبقة التي تفتقر إلى العلمية السياسية وعلم الاجتماع الإنساني، نحو الرهان على إنتاج معرفة تتكرس في الإنتاج الفلسفي العقلاني للنُظم الاجتماعية ولأنساقها القيميّة، وإبعاد أية تهويمات و "توليفات مطلقة يقينية" تدعى "الكمال"، وتسعى إلى النبذ والانغلاق وإثارة العصبيات بالرفض المستديم للآخر، برفض الاندماج بالحداثة العالمية، ورفض الشراكة والتعدد في بناء الدولة الوطنية المدنية.
إن هذه المناهج والمفاهيم النقدية هي بمواجهة أيضاً مع كل مقيدات التسييس؛ خاصةً تلك التأطيرات الشعبوية السلطوية السياسية ـ الإيديولوجية، التي تقف بالمواجهة من عمليات "الدولنة"، ومواجهتها بإطلاق هويات فرعية انحطاطية مذهبية سياسية، ثم إطلاقها وإفلاتها من عقالها، بهدف احتواء قطاعات من المجتمع الأهلي وتحويله حالة طوائفية، بدلاً من ترسيخ ثقافة إنسانية مصدرها الإنسان كوجود وتحديث الولاءات، بالتعاقد الاجتماعي المنفتح للتنوع وللخصوصيات المحلية، وبسحب الدولة المدنية من الحقل والمجال الديني ـ السياسي.
ضمن هذه السيرورات يمكن بناء مجتمعات قوية غير قهرية وهشّة، تلك تؤسس ذاتها على العنف بتلاوينه، المفتقدة للتنظيم العقلاني، مجتمعات هشّة تابوية تتحكم فيها الأنساق البطرياكية الطائفية السياسية والعشائرية والخرافية بثقافاتها الرثّة الملتبسة، التي تعمل على انهيار عناصر المدنية والتحضر الإنساني. وتنفي مفهوم المجتمع كنسق سوسيولوجي، تعجز في التعبير عن الإرادة العامة ودمج المجتمع في إطار سياسي متين من الاستقرار مادياً وروحياً وأفكاراً سياسية حديثة، مرتكزات دولة مدنية حديثة راسخة ذات مشروع سياسي تاريخي، تقرأ تاريخها ومستقبلها كجزء من التاريخ العالمي الأممي، وليس بوصفه حالة منقطعة معزولة، وبما يتطلب إمعان الفكر والبحث في الصيرورات التاريخية والأبحاث والدراسات التاريخية والاقتصادية والمنهجيات المعرفية الحديثة، ونقد الجذور للتمثلات العتيقة البالية المهترئة، الخلاصة الموضوعية لنهاية أشكال الرؤية الأحادية في النسق البنيوي المركزي في الثقافة العربية.
وفي الختام يمكن اشتقاق ركائز أخرى من المهتمين؛ فالكتاب وميض لأكثر من شعلة؛ ولأن نعمة الكشف والانبعاث هي مهمة التنويريين، بتمزيق حجب ونقاب الحياة العربية المانعة للرؤية ...
إننا نعيش زمناً عربياً غدت به الحال في كينونته ذاتها مهددة، ونعيش صدمة الانسداد التاريخي ... صدمة "الأضداد" حين تفعل فعلها المزمن ... صدمة الضاد والناطقين بها ... كما نرى من الماء إلى الماء، وحين يهرب أهل الماء عطشاً إلى الرمضاء.
وفيما نحن نرى الوجه والخلف؛ البناء الفوقي والتحتي، نرى وبالأعماق الأبنية التحتية الانحطاطية ... كما نرى العتمة والضوء ... الحقيقة والكذب ... لا نكتفي بأن نصرخ، بل نبدأ بكشف الغطاء ... أن نحاول التجسيد في قلب مجرى الحياة، في تجذير أنساق الحياة ... الحياة، ومعرفة الكيفية التي ننتزع بها الطلاء، فالتحدي الأول عربياً هي الحداثة ... والتحدي الأخير هي الحداثة، عبر معرفة استيلاد أفكار عملية بكلام حيّ ومن أرض الواقع ...
هذا هو انفتاح اليسار الديمقراطي العربي على رؤيا النهوض ... على فضاء النهوض التاريخي ...