ماهية كل من المادة والوعي والطاقة والروح ( 8 - 6 )


مجيد البلوشي
2011 / 1 / 3 - 08:07     

الأخطبوط "بَول"

عندما شاع خبر الأخطبوط بَول بأنه كان يتنبـّأ بفوز هذا الفريق أو ذاك في مونديال 2010 الرياضي لكُرة القدم في جنوب أفريقيا في الشهر الماضي، قلنا آنذاك أن أستاذتنا الفاضلة صاحبة عمود "عالم يتغير" لا بد وأنها تستغل هذه الفرصة وتعتبرها مادة خصبة لتأويلها إلى الغيبيات والميتافيزيقا، ولإثبات فكرتها القائلة بأن هناك كائنات لا دماغ لها تمتلك وعياً وإدراكاً. فهذا ليس أمراً غريباً لدى أستاذتنا الفاضلة، فما دام الماء مادة واعية .. ولديها قدرة على الإدراك (أخبار الخليج، 23 مايو 2010 م) فما بالكـم بالأخطبوط وهو كائن حي يمتلك مُخـاً، مهما كان هذا المُخ صغيراً، وتتكون ثلاثة أرباع جسمه من الماء ولا يستطيع العيش إلاّ في الماء.



وهذا ما حدث بالفعل: فقد كتبت أستاذتنا بهذا الخصوص مقالاً تحت عنوان "الأخطبوط المتنبئ "بول" تقول فيه: أنه "أكسب مونديال 2010 الرياضي في جنوب أفريقيا بُعداً ميتافيزيقياً يتناسب مع الميثولوجيا الإفريقية، وغموض طقوسها، ولكنه دلّ بشكل غامض أيضاً على وعي أو حدس بعض الكائنات غير البشرية، وبشكل مصوّر ومعلن، حتى إنْ لمْ يكُن لديها الدماغ أو العقل الذي لا يعترف العِلميون إلاّ به، باعتباره القادر وحده على إنتاج الوعي، فمن أين جاء الأخطبوط إذاً بحدسـه المفارق وبتوقعاته التي صدقت في كل ما اختبره به الألمان، إلاّ مصادفة وحيدة أخطأ فيها قبل سنوات؟" (أخبار الخليج، 15 يوليو 2010م).



وللرد على ذلك فليسمح لنا الأستاذ الأخ محمد مبارك جمعة أن ننقل هنا ما كتبه عن هذا الأخطبوط في عموده "سوبليكس" في "أخبار الخليخ" بتاريخ 17 يوليو 2010 بعنوان "بين الدجل والمنطق ..!" حيث يقول – لا فُـضّ فـُوه – ونحن نؤيد قوله ونؤكد عليه وهو كما يلي:



" الأخطبوط حيوان بحري رخوي لا يتجاوز حجمه غالباّ قبضة اليد العادية، له ثمانية أذرع ويتغذى على سرطانات البحر والأسماك الصدفية بشكل عام. وجميعنا يعلم أن الأخطبوط لا يمكن أن يتنـبأ بنتائج مباريات كرة القدم، ولا يمكنه أن يخبرنا بمَـن سيفوز ومَـن سيخسـر. إذا كان الإنسان الذي يُعتبر أذكى المخلوقات على وجه الأرض لـمْ يتمكـّن، ولن يتمكـّن، من استقراء المستقبل ومعرفة الغيبيات، وإنْ حدث ذلك فإنه سيكون بكل تأكيد من قبيل المصادفة أو لوجود مؤشرات علمية تجعل الأمور المتنبأ بها خارج نطاق الغيبيات (كمعرفة جنس الجنين اعتماداً على الوسائل العلمية)، فكيف يمكن لأخطبوط أن يفعل ذلك؟ غير أن حكاية الأخطبوط الشهير "بول" الذي يقال إنه تنبّـأ بنتائج عدد من مباريات كأس العالم، تسطر لنا دروساً بليغة في فهم طبيعة النفس البشرية.

حينما يريد الإنسان أن يصدق شيئاً فسوف يصدقه، حتى ولو علم أن ما يصدقه لا يعدو كونه وهمـاً ..." (انتهى قول الأستاذ محمد).



ويكفي هذا القول السديد لنرد على ما كتبته أستاذتنا عن الأخطبوط "بول" في جانبه الأول من مقالها وهو محاولة إثبات قدرة الأشياء كلها على الإدراك والوعي، بل وعلى الحدس والتنـبؤ لدى بعضها كما هو الحال مع "بَول"؛ أما الجانب الآخر فهو استعجاب كاتبتنا الفاضلة من تصديق الشعوب المذهل في الأغلب للتنبؤات، "بمن فيها شعوب أكثر الدول الغربية علمانية (بفتح العين أو كسرها) بل ممارسة لعبة التوقعات علناً وتصويرها لتلفزيونات العالم ...".



العَـلمانية:

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما علاقة العلمانية – كمذهب فلسفي-سياسي - بهذا الحدث؟ ثـم مَـن قال لأستاذتنا الفاضلة بأن شعوب الدول العَـلمانية لا تؤمن بالغيب أو بالميتافيزيقا أو بالدين عموماً؟ خُذوا مثلاً شعب الهند، وهي أكبر دولة عَـلمانية في العالم من حيث السكان، حيث توجد مختلف الأديان والمذاهب كالهندوسية والبوذية والإسلام والمسيحية والسيخية ... ويكفي أن نشير، مثلاُ، إلى مهابهارَة Mahabharata ورامايان Ramayana، وهما الكتابان المقدسان لدى الهندوس، ومفعمان بالميتافيزيقا والخيال والخرافات، ويؤمن بهما الهندوس بمختلف فئاتهم كالرؤساء والوزراء والعلماء والسياسيين والقضاة والمحامين والمهندسين والعمال والفلاحين ...إلخ.



لا، ليس ذلك فحسب بل خـُذوا السيد جورج بوش، الإبن، الرئيس السابق لأكبر دولة علمانية في العالم من حيث القوة والنفوذ، وهي الولايات الأمريكية المتحدة، والذي شـنّ حرباً شنعاء على العراق بحجة أنه كان يمتلك أسلحة الدمار الشامل. فما هي قصة صاحبنا "بوش"؟



فلنقرأ بعض ما جاء في كتاب "لو كررتَ ذلك على مسمعي فلن أصدقه" لمؤلفه الصحفي الفرنسي جان كلود موريس الذي كان يعمل مراسلاً حربياً لجريدة "لو جورنال دو ديماش" للفترة من عام 1999 إلى عام 2003، والذي يتناول في هذا الكتاب المحادثات الهاتفية بين الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، الإبن، والرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك.



يقول المؤلف جان كلود موريس: "إذا كنتم تعتقدون أن أمريكا غزت العراق للبحث عن أسلحة الدمار الشامل، فأنتـم واهمون جـداً، وأن اعتقادكم ليس في محله. فالأسباب والدوافع الحقيقة لهذا الغزو لا يتصورها العقل، بل هي خارج حدود الخيال، وخارج حدود كل التوقعات السياسية والمنطقية، ولا يمكن أن تطرأ على بال الناس العقلاء أبداً. فقد كان الرئيس الأمريكي السابق (جورج بوش، الإبن) من أشـدّ المؤمنين بالخرافات الدينية الوثنية البالية، وكان مهووساً منذ نعومة أظفاره بالتنجيم والغيبيات، وتحضير الأرواح، والانغماس في المعتقدات الروحية المريبة، وقراءة الكُتب اللاهوتية القديمة، وفي مقدمتها "التوراة"، ويجنح بخياله الكهنوتي المضطرب في فضاءات التنبـّؤات المستقبليـة المستمدة من المعابد اليهودية المتطرفة، ويميل إلى استخدام بعض العبارات الدينية الغريبة، وتكرارها في خطاباته، من مثل:

- القضاء على محور الأشرار

- بؤر الكراهية

- قوى الظلام

- ظهور المسيح الدجّال

- شعب الله المختار

- الهرمجدون Armageddon (المكان الذي تجري فيه المعركة الفاصلة بين قوى الخير وقوى الشرّ وهي المعركة المنتظرة التي خططت لها المذاهب اليهودية المتعصبة)

- فرسان المعبد

وهي عبارات جاءت في التوراة والإنجيل. بل ويدّعي السيد جورج بوش، الإبن، أنه يتلقـّى يومياً رسائل مشفـّرة يبعثها إليه "الرب" عن طريق الإيحاءات الروحية والأحلام الليلية.



يأجوج ومأجوج



وكشف الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في حديث مسجـّل له مع مؤلف الكتاب المذكور آنفاً عن أسرار جديدة للغزو الأمريكي للعراق، قائلاً: "تلقيتُ من الرئيس بوش مكالمة هاتفية في مطلع عام 2003 م، فوجئتُ فيها بالرئيس بوش وهو يطلب مني الموافقة على ضمّ الجيش الفرنسي للقوات المتحالفة ضـدّ العراق، مبررّا ذلك بتدمير آخر أوكار "يأجوج ومأجوج"، مدّعيـاً إنهما مختبـئان الآن في الشرق الأوسط قـُرب مدينة بابل العراقية القديمة، وأصرّ على الاشتراك معه في حملته الحربية، التي وصفها بالحملة الإيمانية المباركة، ومؤازرته في تنفيذ هذا الواجب الإلهي المقدس، الذي أكـّدت عليه نبوءات التورة والأنجيل".



ويقول جاك شيراك: " هذه ليست مزحة، فقد كنتُ متحيراً جداً، بعد أن صعقتني هذه الخزعبلات والخرافات السخيفة، التي يؤمن بها رئيس أعظم دولة في العالم، ولم أصدق في حينها إن هذا الرجل بهذا المستوى من السطحية والتفاهة، ويحمل هذه العقلية المتخلفة، ويؤمن بهذه الأفكار الكهنوتية المتعصبة، التي سيحرق بها الشرق الأوسط، ويدمر مهد الحضارات الإنسانية، ويجري هذا كله في الوقت الذي صارت فيه العقلانية سيدة المواقف السياسية، وليس هناك مكان للتعامل بالتنبّـؤات والخرافات والخزعبلات والتنجيم وقراءة الطالع حتى في غابات الشعوب البدائية ... ".



هل قرأتم كا ذلك؟ هل عرفتم مدى تأثير الأفكار التي يتم تلقينها للإنسان منذ نعومة أظفاره، وخاصةً الأفكار الدينية، وبالترغيب والترهيب، بالوعد والوعيد، سواء أكان هذا الإسنان رئيس دولة عظمى كالرئيس بوش أو حتى الرئيس أوبـاما وغيره، فما بالكم بأستاذتنا صاحبة عمود "عالم يتغير"؟



معنى العَـلمانية

إن العلـَمانية لا تعني نبـذ أو إلغـاء الفكر الغيبي أو الميتافيزيقا أوالدين، أيـاً كان هذا الدين، بل إنها تعني فصل الدين عن المدرسة والدولة، أي جعل الدين مسألة فردية بحتـة تخص الشخص المؤمن بما هو يعتقد أنه ربـّه وخالقه. وهذا الـ"مـا" الذي يؤمن به الفرد قد يكون – كما قلنا في إحدى مقالاتنا السابقة - هو الإلـه "بوذا" (عند البوذيين) أو الآلـهة "رام" و "كرشنا" و "يشومتي" ... (عند الهندوس)، أو "الإلـه يهوذا" عند اليهود، أو "الرب المسيح" (عند المسيحيين)، أو "الله" عند المسلمين، أو غيره. ولا يحق لأحد أن يتدخّل في هذا الإيمان، سواء أكان هذا الأحد فرداً أو جماعةً أو دولة، وإلاّ اُريقت دماء كثيرة، وتاريخ الأديان خير دليل على ما نقول، بل وحوادث القتل والحرق وبتر أعضاء الجسم ... إلخ والتي تمارسها حركة "طالبان" الإسلامية في أفغانستان وباكستان أو "حركة الشباب الإسلامية" في الصومال وغيرها من الدول الأفريقية، أو حركة "القاعدة" الإسلامية المنتشرة في كل مكان.



الدكتور مجيد البلوشي
[email protected]