حضارات أرض الرافدين


بابكر عباس الأمين
2010 / 12 / 30 - 22:29     

تأريخ بلاد الرافدين تاريخ غني، متنوع، وشيِّق إذ يحكي قصة إنطلاق البشرية من البدائية إلي الرقي من حقبة ماقبل التأريخ إلي ما بعده. بدأت أول تجمعات بشرية متفرقة في أودية جبال زاخروس في الشمال قبل حوالي 12 ألف سنة. وقامت تلك الجماعات بتدجين الغنم واستخدام لحومها كغذاء، وصوفها ككساء، وودكها كعلاج وإضاءة، وروثها كطاقة، وعظمها كآلات. ثم تمكَّنت تلك الجماعات في الألفية السادسة قبل الميلاد من اكتشاف أهم ثورة في تاريخ البشرية هي الزراعة، معتمدة علي الأمطار.

ثم نزحت تلك الجماعات حوالي 5500 ق. م. جنوباً إلي المنطقة التي تقع بين شطي دجلة والفرات، حيث استقرت في قري دائمة. وبما أن أمطار هذه المنطقة كانت متذبذبة، فقد تمكنت تلك الجماعات من إختراع أنظمة الري بحفر آبار ضحلة علي ضفاف النهرين، وحفظ المياه في برك. ونسبة لأن المنطقة خالية من الصخور والأخشاب لتشييد المنازل؛ فقد إخترعت اختراع هام آخر هو الطوب. يطلق علماء الآثار والتأريخ علي هذه الجماعة اسم Ubaidians "اليوبيديان." ومن هنا فقد توفرت العوامل اللازمة لانطلاق أهم الحضارات التي ساهمت في رقي الإنسانية.

وفي حقبة لاحقة، وصل السومريون - يُعتقد من الشمال أيضاً - إلي منطقة ما بين النهرين. وبعد عدة أجيال ذابت حضارة اليوبيديان لتنبثق عنها الحضارة السومرية. تمَّكن السومريون من تطوير نظام الري الموروث من اليوبيديان إلي نظام أحدث اشتمل علي شبكة ري وقنوات وسدود، مما أدي لزيادة الإنتاج الزراعي، الذي أدي بدوره لزيادة السكان ونشأة المدن (منها يور مولد النبي إبراهيم). وكان النظام الإداري لحضارة سومر هو المدن-الدولة City-state. وبحلول الألفية الثالثة قبل الميلاد أصبحت سومر حضارة ذات منظومة متكاملة ولها لغتها المسمارية المُعقدة. إخترع السومريون المحراث والعجلة الدائرية التي استخدموها في جر العربات. كما تمكنوا من اختراع البرونز بصهر القصدير مع النحاس واستخدامه في تصنيع الأسلحة. واهتموا بالحساب وهم أول من قسَّم الدائرة إلي 360 درجة، كما وضعوا الكسر الستيني، أساس الدقيقة والساعة. وقد أدي تقلب فيضان الأنهار إلي التفكير في ماوراء الطبيعة ولنشوء أديان ذات آلهة متعددة، وكان لكل مدينة إلهها ومعبدها. إلا أن مدينة نيبور قد كانت المركز الروحي الذي يتلقي فيه رجال الدين التأهيل الديني. ومن ولاء السكان للمعابد بدأ رجال الدين فرض اتوات باسم الخالق، مما أدي لتجمع الثروة والنفوذ لديهم؛ مما أدَّي لنشوء نظام ثيوقراطي تحوَّل لاحقاً إلي نظام ملكي. إنهارت سومر في الألفية الثانية ق. م. حين تكالبت عليها قوي شرقية هي ألمايت Elamite(قوقازيين من الشرق) وامورايت Amorite(شعب سامي من الغرب).

وفي القرن 24 ق. م. وصل الأكاديون واستقروا في بلاد الرافدين. وتعتقد طائفة من المؤرخين أنهم وفدوا من الجزيرة العربية، بينما تعتقد طائفة أخري من ساحل المتوسط. وبرز منهم القائد سرجون الأول، الذي تمتَّع بذكاء وحنكة وكان أول من ابتدع نظام التجنيد الإجباري، وقام بتوحيد المدن السومرية تحت سلطة مركزية. ثم اتجه إلي العالم الخارجي للحصول علي الموارد، فغزا سوريا، كردستان الحالية، الهضبة الأناضولية، ومصر في أول حروب إمبريالية عرفها التاريخ. دامت حضارة أكاد فترة قرنين فقط حيث قضي عليها شعب بربري قدم من الجبال الشرقية يُسمي قوتي.

وفي سلسلة تطور حضارة الرافدين انطلقت حضارة بابل من قاعدة حضارتي سومر وأكاد. اهتم البابليون بدراسة الفلك ورصد الخسوف والكسوف، وكانت شهورهم وسنتهم تتبع دورة القمر. كما اهتموا بالطب فأسَّسوا لتشخيص الأعراض والوصفات العلاجية للأمراض. وكان لبابل مكتبات في المدن والمعابد. كان أشهر ملوك بابل هو حمورابي (1792 - 1750) ق. م. الذي أسَّس سلطة مركزية قوية ونظاماً مستقراً له جهازه البيروقراطي، بما فيه الضرائب. وكان التطور المدهش لحضارة بابل هو قانون حمورابي؛ الذي كان نظام قانونياً متكاملاً بالمعني الحديث للقوانين، ومصنَّف إلي 282 قسماً شملت الزواج والطلاق والميراث والعقود وسعر الفائدة والايجار والأجور. وقد ذكر حمورابي أنه وضع قانونه لرفاهية الشعب وتحقيق العدالة ومنع الأقوياء من إضطهاد الضعفاء. وكان من ضمنها القصاص، واعدام البنَّاء الذي يبني بيتا فيسقط ويقتل ساكنيه. لذا، لم تكن العقوبات البابلية كعقوبات الفراعنة، لأن الأخيرة كان يقررها الفرعون دون مرجعية قانونية؛ وبالتالي لم تكن متوقعة. أما القاضي الذي لا ينفِّذ القانون فكان مصيره الطرد من المهنة والغرامة. كما نظَّم قانون حمورابي المِهن وقسَّمها، فكان العامل الذي يبدع في مجاله يحصل علي مكافاة أكبر. أدي تنظيم المهن لتحسين الأداء، مما أدي لإزدهار الحضارة البابلية. وقد ذكر الإنجيل شأن بابل وعظمتها. وفي القرن السادس عشر ق. م. وكانت نهاية بابل علي يد شعب مجهول الأصل يُسمي كاسايت Kassite.

كانت آشور احد أقاليم سومر فأكاد الشمالية. ثم تطورت كحضارة مستقلة في القرن الثالث عشر ق. م. كمدينة-دولة قرب الموصل الحالية. ثم أصحبت دولة عسكرية لها جيش نظامي شرس وقادة عسكريين بارعين. وفي القرنين الثامن والسابع ق. م. غزا الآشوريون كل من فلسطين وسوريا وأرمينيا ومصر والهضبة الأناضولية، وأسسوا نظاماً فيدرالياً لإدراة امبراطوريتهم. إهتم الأشوريون أيضاً بدراسة الحساب والعلوم والفنون والنحت والتاريخ. إلا أن نزاعاً حول الحكم قد تسبب في حرب أهلية أدت إلي ضعفها. ثم تحالف الكلدانيون (عرب رعاة من الجنوب) وميدي Medes (شعب آري من الشمال) للقضاء عليها حيث سقطت عاصمتها نينوي عام 612 ق. م.

اتخذ الكلدانيون من بابل عاصمة لهم. وكان أشهر قادتهم نبوخذ نصر الذي شيَّد حدائق بابل المعلقة؛ احدي عجائب الدنيا السبع، وفتح القدس وأسر اليهود. ثم أخذت تضعف بالتزامن مع صعود لاعب جديد هو الإمبراطورية الفارسية التي سيطرت عليها عام 539 ق. م. اُعجب الفرس بنظام وجمال مدينة بابل وحدائقها المُعلقَّة فجعلوا منها عاصمتهم الإدارية. ثم أصبحت بلاد الرافدين مسرحاً لصراع القوي بين الشرق والغرب، فسيطر عليها الإسكندر الأكبر عام 330 ق. م. أثناء حربه مع الفرس. ثم سادت المنطقة دولة الغساسنة التي امتدت من عام 50 ق. م. إلي القرن الثاني بعد الميلاد.

بعكس الحضارة الفرعونية فإن حضارة الرافدين تمتاز بتنوع اللغات والاثنيات، مما أدي لثراء ثقافي مازال موجود في العراق (اللغات الآشورية والكلدانية والسريانية). وكانت حضارة الرافدين عولمة عصرها إذ سهَّلت إنتقال الناس والأفكار والسلع والإبتكارات بين الشعوب. ويوجد في أساطير حضارة الرافدين قصص شبيه بقصة طوفان نوح، مما يرجِّح أنها كانت مهبط ديانة النبي نوح. لقد كانت حضارة الرافدين ثورة الشرق الأدني في الحكم والاقتصاد والثقافة والعلوم، وأصبحت إرثاً للإنسانية نهلت منه حضارات الشرق (السند) والغرب. استعانت الامبراطورية الرومانية بالنظم السياسية والإدارية لتلك الحضارة. كما أن الحضارتين الهيلينية والأغريقية قد نهلتا من علومها ومعارفها والنظام الإداري .city-state ويحتوي المتحف البريطاني حالياً علي ثروة معارف باللغة المسمارية.

لقد كان مشهد القوات الأمريكية - أثناء غزو 2003 - وهي تراقب نهب متحف بغداد دون اكتراث تجسيداً لمحاولة أمريكا سلخ الإنسان العراقي عن هذا التاريخ الغني. والأسوأ أن المنطقة التي تحتوي علي آثار مدينة بابل قد مُنحت كقاعدة لوحدات الجيش النمساوي التي ساهمت في الغزو والاحتلال.