رأسمالية السوق الممتاز : الى أين يتجه الوعي الاستهلاكي ؟


الياس حريفي
2010 / 12 / 20 - 05:05     

من البديهي جدا أن نشتري ما نحن بحاجة إليه٬ وهذه الأشياء التي نحن بحاجة إليها ولا نستطيع العيش دونها هي التي يصطلح عليها بالضرورات الحياتية٬ ونحن رغم حاجتنا الملحة الى هذه الأشياء٬ إلا أننا نجتهد في تخفيض كلفتها ونتحرى دائما الأرخص سعرا.
غير أن الغريب فعلا٬ وغير الطبيعي٬ هو أن نشتري أشياء٬ لسنا بحاجة إليها٬ ولا يضرنا أن اقتنيناها أم لا٬ وهذا هو الشيء الغريب٬ أما الشيء الأغرب٬ هو أننا٬ في هاته الحالة٬ لا نتحرى الاقتصاد في الثمن وإنما نشتري هذه الأشياء٬ مهما كانت غالية التكلفة٬ مع العلم٬ أننا لسنا بحاجة إليها بتاتا.
فنحن٬ مثلا٬ ننزعج ونتضرر من غلاء الخبز أو الشاي لكننا٬ في نفس الوقت٬ لا نلقي أي بال للأثمنة الباهظة للساعات والهواتف ودهنات الشعر٬ الى حد نستطيع فيه التضحية من أجل شرائها على حساب الأساسيات.
والملاحظ أن هذه الظاهرة٬ هي وليدة النظام الرأسمالي بشكل عام٬ ووليدة السوق الممتاز بشكل خاص٬ إذ أن هذا الأخير٬ مرجع أساسي لدراسة ظواهر الاقتناء في المجتمع الرأسمالي.
إن لهذا النوع من مراكز التبادل السلعي الرأسمالي ميزة كانت السبب في ضلالنا على الدوام٬ فحين ندخله ٬و نشرع في ملء عربة التسوق بالبضائع٬ نحس وكأننا لا ندفع ثمنه٬ا فالشراء والحال هذه٬ يختلف٬ جوهريا٬ عن نظام الدكاكين "الحوانيت" ومحلات البقالة ٬حيث أنه في الدكان٬ ندفع ثمن كل بضاعة٬ بمجرد اختيارنا لها٬ كما أن البقال هو الذي يحضرها لنا٬ لذلك فنحن نفكر ألف مرة ٬قبل النطق باسم البضاعة كما لا يكون الشراء مقترنا بالتجول٬ و تكون مدته جد محدودة.
أما في نظام السوق "الممتاز"٬ فلا نؤدي الثمن إلا حين الانتهاء من التبضع٬ كما أننا نجمع السلع بأيدينا وكأننا في نعيم فردوسي نأخذ منه ما نشاء بغير حساب٬ إلا أن الأمر٬ على خلاف ذلك٬ فنفاجأ بالفاتورة الغالية في نهاية الأمر٬ والتي ليست٬ أبدا ٬نتيجة خطأ ارتكبته عاملة الصندوق.
انه لو أردنا احصاء الأشياء التي يحتويها السوق الممتاز٬ والتي لا نستطيع العيش بدونها٬ وإقصاء كل ما هو ثانوي٬ لفرغ السوق الممتاز من محتوياته٬ ولتبقى فيه جناح واحد أو جناحان٬ فالميزة الثانية له٬ متمثلة ٬في الموقع المتميز الذي تحظى به الأشياء الثانوية٬ ولكن٬ الى جانب هذا الموقع للمواد الضرورية دور أساسي مع قلتها النسبية ٬لأنها مبرر ارتياده٬ ووجود الثانويات بطريقة عرض مغرية الى جانب الأساسيات يؤدي من جهة٬ الى امتزاج ماهيتيهما ٬وهذا الامتزاج٬ يتجسد في محو الفرق بين الأساسي والثانوي٬ ينتج عنه٬ تمثل بتجوهر البضاعة: هي جوهر واحد٬ تضم الضروري٬ والإضافي معا٬ فيهوي الخط الفاصل بينها٬ الى دائرة اللامعنى في الوعي الاستهلاكي٬ وهذا التمثل٬ يتأصل تحديدا٬ في الاعتقاد بأن كل بضاعة نملك قيمتها التبادلية هي بضاعة ضرورية٬ والثانوي هو ما لا نملك ثمنه٬ أو باستمرار خط المنطق الذاتي لهذا الشكل من الوعي الاستهلاكي٬ "كل شيء ضروري" وهذا التجوهر الذي يلحق بالسلعة٬ يحتم علينا اقتناءه٬ا فلو أدركنا ما نحتاجه فعلا لكانت العلاقة بين الأساسي والثانوي٬ علاقة بين جوهرين مستقلين قائمين بذاتيهما٬ بدل أن يكونا عنصرين في وحدة واحدة ٬أي صورتين لتعدد هو واحد٬ أما من جهة أخرى فلو كان السوق الممتاز يحتوي على المواد الضرورية فقط (وفق تمييزنا المنهجي الغائب في الوعي الاستهلاكي للطبقات الكادحة) سيؤدي في ظل نمط الإنتاج المسيطر٬ الى افتقاد معنى الاستهلاك لهما معا ٬فوجود الثانويات الى جانب الأساسيات٬ يضع هاته الأخيرة ٬كمبرر ذاتي يقترحه المستهلك على نفسه كي يذهب للسوق الممتاز٬ وفي نفس الوقت هذه الإضافة تميزه عن التجارة السلعية الدكانية وعن المقصد الشرائي المحض٬ فوجود البضائع مجتمعة ٬يشكل مبررا نصطنعه٬ للكذب على أنفسنا٬ وعلى غيرنا٬ للاقتناء من السوق الممتاز.
وهذه تعد مسألة طبيعية في المجتمع الرأسمالي عامة٬ والمجتمع المغربي بالخصوص٬ وان كانت هذه الخصوصية ليست إلا في كولونيالية نمط الإنتاج السائد٬ هذا المجتمع٬ القائم على التباهي٬ والشراء التفاخري ٬والاستعراضية حيث أن نقطة قوة الرأسمال التجاري المغربي تتركز في هاته القضية إذ أن المنتجات الثانوية تحتل موقع المحور٬ في الوعي الاستهلاكي٬ من حيث هي حاجة نفسية هامة للبروليتاريا المغربية (لنلاحظ بهذا الشأن٬ العقبات الكبرى التي يتخطاها البروليتاري المغربي من أجل شراء أضحية العيد هاته الشعيرة التي تحولت من طقس ديني الى عادة اجتماعية اقتصادية) فقيمة مقتنيات الشخص ٬صارت تعادل قيمته هو نفسه٬ وربما فاقتها أحيانا٬ حيث نلاحظ٬ على سبيل المثال٬ فئة من الناس٬ يغسلون سياراتهم بشكل متكرر في الأسبوع الواحد٬ بينما لا يستحمون إلا كل شهر٬ فإغراء الشكليات ٬إذن٬ هو الذي قوى السوق الممتاز وزاد من نفوذه٬ أو قل٬ بالأحرى٬ إن قوة السوق الممتاز ونفوذه٬ هما اللذان قويا إغراء الشكليات٬ هي علاقة جدلية إذن يجمعها إطار نمط الإنتاج الرأسمالي٬ وتبرز في هذه الظاهرة٬ وإذا لاحظنا فالمواد الثانوية (والبعض يسميها الكمالية) تشكل حيزا مهما٬ من عربة التسوق بينما لا تمثل الأساسيات الحياتية إلا نسبة قليلة.
إن هده العربة٬ هي بذاتها مكيدة٬ فهي من جهة٬ كبيرة الحجم٬ مما يجعلنا نظن٬ أنه مهما بالغنا في الشراء فان مقتنياتنا تظل قليلة جدا٬ ولو وزعنا البضائع على أكياس عادية٬ كما في حالة البقال لتبين لنا أننا اشترينا سلعا كثيرة جدا ودون حاجة حقيقية إليها أصلا.
ومن جهة أخرى فان عجلاتها٬ ومقبضها٬ وسهولة قيادتها٬ تعمينا بشكل كلي عن الوزن الحقيقي للسلع فمن الأسباب التي تجعلنا لا نحصي ما نشتريه هو أننا لا نحمله بأيدينا ٬ولا نعرف وزنه الفعلي٬ هي أيضا العربة تلعب دور إدماج طفولي٬ يبرز كما يمكن أن نسميه نكوصا للشخص البالغ نحو مرحلة الطفولة واللعب باللعب ذات العجلات.
كما أن هناك خدعة متعلقة بتعداد البضائع على الرفوف٬ نستطيع كشفها آن ملاحظتنا للأعداد الهائلة من الوحدات للمنتج الواحد٬ مما يوهمنا أننا لما نأخذ وحدة من منتج٬ ما فإننا لا ننقص كثيرا من العدد المتوفر٬ وقد نخال٬ أن المنتجات لن تنفذ في نهاية اليوم٬ مما يدفعنا الى شراء أكثر من وحدة من المنتج الواحد أو وحدات متعددة من النوع الواحد تكون مختلفة نسبيا من ناحية النوعية واسم الشركة وذلك بدافع الفضول٬ وهذا الفضول٬ يكون ثمنه غاليا جدا.
كما توجد سلع من نوعية خاصة٬ لا يستطيع المستهلك العادي٬ معرفتها٬ دون ولوج هذا العالم٬ مثل القهوة الخالية من الكافيين٬ والجبن" الأحمر" ٬وخبز مرضى السكري٬ والفواكه الاستوائية٬ مما يؤدي بالمستهلك الى شراء منتجات إضافية لم يجربها قبلا٬ وشراؤها هذا هو للتجربة المحضة ٬كما توجد مميزات أخرى غير متعلقة بالمنتجات وطرق عرضها وقيمها الاستعمالية٬ وإنما هي مرتبطة بالسوق الممتاز كمجتمع رأسمالي مصغر ٬قائم ببنية علاقات الإنتاج السائدة٬ فإذا لا حظنا٬ أن الملابس التي يذهب بها المستهلك لدى ذهابه للسوق الممتاز غير الملابس التي يذهب بها لبقال٬ الحي والأشخاص من الجنسين يفرطون في التزين قبل ولوجه لدرجة تجعلنا على يقين بأنهم ذاهبون لشيء آخر غير التسوق٬ فالتباهي الاجتماعي والتفاخر الطبقي٬ يجعلان الشخص يتعامل مع السوبر ماركت ٬كما يتعامل مع أي منتجع سياحي٬ وهو في ذلك الحين يجهل أو يتجاهل "يمكن للقارئ أن يرجع الى دراسة سابقة لنا بهذا الصدد بعنوان التفاوت المادي والارتقاء الطبقي" أن الأشخاص الذين يرتادون المكان نفسه ينتمون لنفس الطبقة الاجتماعية والاختلاف الذي بينهم٬ هو اختلاف في الدرجة فقط ٬وما يحكم هذا الاختلاف النسبي الدرجاتي٬ حسب منطق السوق الممتاز٬ هو نسبة امتلاء العربة ٬وقيمة محتوياتها٬ الذي هو بدوره تفاوت نسبي٬ أما التفاوت الفعلي (أو القريب من أن يكون فعليا) هو بين هؤلاء وبين الذين لا يستطيعون دخوله أصلا.
أما الحافز الأكثر فاعلية فهو ذو طبيعة جنسية٬ وهذه هي دلالة تشغيل عاملات الصندوق وعاملات الأروقة وفق معايير محددة في طليعتها الفتوة والجمال٬ هذا من جهة٬ أما من جهة أخرى٬ فنجد لباس العاملات الذي يظهر بوضوح مراكز الإثارة الجنسية ٬في مقدمتها الأثداء والجزء السفلي من الجسم وأقصد هنا الفرج والفخذين اللذان يساهم في إظهار شكلهما بوضوح السروال الثوبي٬ المعد خصيصا لهذا الغرض٬ وهذا ما يعني بالطبع حضور عامل المتعة الجنسية النظارية كعامل أساسي من عوامل اندلاع هوس السوق الممتاز.
كما نجد في الأسواق الممتازة بالمغرب (والبلدان العربية عموما) ميزة فريدة٬ وهي متاجرتها بشتى أنواع الخمور المحلية منها والمستوردة وهذا من أخطر أنواع الإيقاع بالمستهلك فهو أولا يظن بأن السوبر ماركت فردوس٬ يجد فيها كل ما يشتهي بدون قيود٬ وثانيا هو يفسح المجال لمستهلكي الخمور من أجل شرائها دون الذهاب الى "البار" ومواجهة خطر الاعتقال٬ وهذا طبعا في الأوساط السكنية(أو قل بالأحرى التكدسات) البروليتارية التي لا تحتوي على ملاه ليلية وإنما هاته الأخيرة٬ توجد وسط المدينة بالأحياء السياحية البرجوازية٬ مما يجعل السوق الممتاز مرتبطا في أذهان البعض ارتباط الالتصاق بالكحوليات٬ وتفرده عموما يكمن في تعدد أوجهه الاستهلاكية٬ إذ أن جميع الفئات العمرية والاجتماعية٬ تجد فيه ما تحتاجه٬ أو قل٬ للدقة٬ ماتظن أنها تحتاجه.
وبالإضافة الى هاته المؤثرات التنظيمية والاجتماعية والنفسية والجنسية٬ توجد مؤثرات أخرى فيزيولوجية تجعلنا نشتري أكثر فأكثر٬ فمساحة السوق الممتاز الكبيرة وأروقته المتعددة المتاهية تجعلنا مجبرين على التجول داخله كاملا ومسحه شبرا شبرا مما يزيد من إحساسنا بالجوع ٬وما منع الأكل داخل الأروقة بإجراء بيئي٬ "غرضه النظافة" وإنما هو حماية للسوق الممتاز من إحساس المستهلك بالشبع٬ حتى ولو كان ما يأكله خارجيا عن منتجاته فالإحساس بالجوع يؤدي الى زيادة الانجذاب للألوان والروائح وبالتالي زيادة الاستهلاك ٬ويدعم هذا الإحساس عدة مؤثرات فيزيولوجية أخرى تبعث على الراحة والارتخاء العصبي٬ مثل انخفاض درجة الحرارة في أروقة الأطعمة ومشتقات الحليب٬ والإضاءة بالضوء الأبيض٬ والأصوات الناعمة التي نسمعها من حين لآخر تتردد في بوق المتجر٬ ناهيك عن مراكز تذوق الجبن والدجاج واللحم التي تشرف عليها عاملات إناث بدورها فيكون مركز التذوق مزيجا من التأثيرين الفيزيولوجي والجنسي.
ومساحة المتجر الكبيرة لا تؤدي فقط بالفرد الى الإحساس بالجوع وإنما أيضا التشيؤ أمامه والانصهار في مزيجه من قبيل أنه صغير جدا داخل هدا العالم ولكي يكبر هو لا بد أن تكبر مشترياته.
هنالك مسألة أخرى تتعلق بطرائق عرض المنتجات داخل المتجر وهي تعتمد أساسا على عدم إظهار السعر الحقيقي للمنتج عبر تخفيضه سنتيمات قليلة كعرض منتج على أساس أن ثمنه تسعة عشر درهما وتسعون سنتيما وفي الحقيقة ثمنه عشرون درهما٬ والغرض من هذا أن يوهم المستهلك أن سعر المنتج لا يزال يدخل ضمن مجال العشرة دراهم ٬وحتى لو لا حظ ذلك فالخمس سنتيمات أو العشرة أو الخمسون في بعض الأحيان سيدفعها المستهلك٬ شاء أم أبى٬ حتى لو كان هذا الفرق "بين ثمن السلعة الشكلي الاسمي وثمنها الفعلي" يساوي درهما كاملا.
وهو "السوق الممتاز" يلعب دورا هاما في علاقات الإنتاج الرأسمالية وهو بميزته الجوهرية (تنوع السلع) مؤهل لقيادة الرأسمال التجاري الكولونيالي وتوجيهه٬ بتحوله الى مؤسسة رأسمالية أخطبوطية تقضي على أصحاب محلات البقالة بشتى اختصاصاتها فيتحولون من موقعهم في البرجوازية الصغيرة الى التبلتر في إطار عملية التراكم الأولي لرأس المال٬ وذلك في مواجهة طرق العرض المغرية التي يستعملها رأسمالي المتجر الكبير إلا أن حركة التراكم الأولي هاته تكون من هاته الناحية بطيئة نسبية وتزداد سرعتها لما ينقص الفرق بين ثمن السلعة في الدكان وثمنها في السوق الممتاز أي بكلمة التزايد العددي للشرائح الاجتماعية المستهلكة لمنتجاته.