الشيوعيون المصريون وثورة يوليو (3) تجربة كاسترو ونظرية تحول القائد الوطني إلى قائد ماركسي


محمد سيد أحمد
2002 / 8 / 4 - 04:43     

ثمة تجارب معينة، وربما بالذات تجربة كاسترو في كوبا، قد شجعت القيادة السوفياتية، وبالذات خروتشوف، على ابتداع نظرية جديدة، ذهبت إلى أبعد من مجرد اعتبار بعض القيادات الوطنية في العالم الثالث أصحاب موقف سياسي غير منحاز. لقد أثبت كاسترو أن قائدا وطنيا كفيل بالتحول إلى قائد اشتراكي، بل إلى قائد ماركسي لينيني. وخرج المنظر السوفياتي <<أوليانوفسكي>>، المقرب إلى خروتشوف، بنظرية <<الطريق غير الرأسمالي إلى الاشتراكية>> التي استخلصت دروس تجربة كوبا وغيرها من التجارب في أفريقيا وآسيا، وحددت الشروط التي يتعين توافرها لتحقيق هذا التحول.
وقد رُئي في عبد الناصر النموذج الأمثل في هذا الصدد. فربما كان قاسيا مع الشيوعيين المحليين. ولكنه كان أيضا بالغ القسوة والجرأة مع الإمبريالية العالمية. فكانت هناك تجربة تأميم القناة، ونجاحه في التغلب على كل الصعاب التي وقفت في وجه إتمام التأميم فعلا. وكان هناك بناء السد العالي، استنادا إلى تعاون مع الاتحاد السوفياتي. وربما كان الدرس الأهم الذي رأى خروتشوف ضرورة استخلاصه من التجربة المصرية هو ضرورة العمل من أجل إسقاط أي مبرر لاستمرار وجود نفور بين عبد الناصر والشيوعيين المصريين، ولتشكك عبد الناصر في نواياهم حيال السلطة، وفي ولائهم لمن، وضرورة أن يذهبوا إلى حد حل الحزب الشيوعي المستقل، لو كان الحل كفيلا بضمان كسبهم ثقة عبد الناصر وتبوّئهم وظائف مهمة في الدولة والمجتمع.
ولا أعلم تفاصيل <<الصفقة>> التي عقدت بين الأطراف المعنية في هذا الصدد. ما أعلمه أن جميع الشيوعيين قد أفرج عنهم من السجون والمعتقلات، ودونما نظر إلى الأحكام التي صدرت في حقهم، قبيل وصول خروتشوف بالباخرة إلى الإسكندرية لافتتاح السد العالي في أغسطس 1964، وأعلم أن الخلافات في الرأي التي أفضت إلى انقسام الشيوعيين في السجن إلى منظمتين رئيسيتين لم تكن سببا في خلاف بين المنظمتين بشأن ضرورة حل الحزب، وقد أقدمتا على هذه الخطوة في وقت واحد تقريبا. لقد تمت هذه الخطوة بعد خروج الشيوعيين جميعا من السجن، ما أسقط أية شبهة بأن الحل قد تم نتيجة ضغط. ثم أعلن أن أغلب القيادات الشيوعية قد ضُمت إلى <<التنظيم الطليعي>>، وهو التنظيم السري الذي أنشأه عبد الناصر في قلب الاتحاد الاشتراكي. وهذا كله ينمُّ عن أن حل الحزب قد أنجز نتيجة اتفاق جرى بين قيادة الجانبين السوفياتي والمصري على أعلى مستوى.
والجدير بالملاحظة أن موقف النظام الناصري من الشيوعيين المصريين ظل عدائيا ما دام للشيوعيين تنظيمهم الشيوعي المستقل. كان هناك من قال لي بدهشة بالغة ذات يوم: <<كيف أيدتموه بعد أن عوملتم هذه المعاملة المهينة في السجون؟ أليست لديكم كرامة؟>> قلت وقتذاك: <<من منطلق التسليم بضرورة الاعتراف بالقيادة التي تثبت أنها الأكثر قدرة على مواكبة مقتضيات التاريخ>>! والحقيقة أن سنوات كثيرة مضت قبل أن أدرك أنه كان من حقي أن تحترم آدميتي وإنسانيتي، حتى لو كنت مخطئا في رؤيتي للتاريخ.
وأذكر ذات مرة أيضا أنني سألت علي صبري بعد خروجه هو من السجن، وقبل وفاته بفترة وجيزة: <<لماذا عاملتمونا بهذه القسوة في السجون؟ كنا نؤيدكم>>. وكان رده: <<ليس صحيحا أنكم كنتم تؤيدوننا. ذلك أنه عندما اعتقلنا السادات في مايو 1971، عّين اثنين منكم ليصبحا وزيرين. لقد قبلتم أن تكونوا وزراء في وقت اتهمنا نحن فيه بالخيانة. معنى ذلك أن العداء كان متبادلاً، ولم يكن من جانب واحد>>! طبعا جعلتني هذه الملاحظة التي تفوّه بها علي صبري أفكر كثيرا. فرغم ما بذل من مساع للتقارب، ظل الانطلاق من مواقع متعارضة عقبة في وجه التصالح. وحال دون تجاوزه حدا معيّنا.
ومع ذلك، أقول: إن هذا هو الذي يدعوني إلى الجزم بأن حل الحزب كان يقتضي اتفاقا كان خروتشوف شخصيا طرفا فيه. كان حل الحزب منطقا يتمشى مع فكرة توسيع دائرة الشيوعية، كى تضم حركات التحرر الوطني. كان خروتشوف يؤمن بأن موازين القوى الدولية بصدد أن تتحول من هيمنة الاستعمار عالميّا إلى أن تكتشف الشيوعية طريقها إلى هيمنتها هي ولو بالتدريج. ولذلك، فلا ينبغي تخويف القوى الوطنية التي تحمل في طياتها إمكانية التحول إلى الماركسية اللينينية، ولو في الأمد الطويل. هكذا حدث مع كوبا. حدث مع كاسترو الذي تحول من قائد وطني إلى ماركسي لينيني. وكان الأمل معقودا على أن يحدث شيء مماثل مع عبد الناصر كذلك.
صحيح أن عبد الناصر كان مناهضا قويّا للشيوعية في الداخل. ولكن عبد الناصر كان قائدا لا يقل عن ذلك جرأة في ما تعلق بالمواجهة مع الاستعمار والإمبريالية. كان تأميم القناة، والتعرض لهذا التحدي، والانتصار حيثما فشل غيره من قبل، إنما دعا خروتشوف إلى أن يرى في عبد الناصر مرشحا بارزا لهذا التحول، بغض النظر عن عدائه للشيوعية.
وبالفعل تحسنت العلاقات بين النظام الناصري والماركسيين المصريين بشكل ملموس بعد حل الحزب. وأصبحت مجلة <<الطليعة>> لسان حال هذه المصالحة. وأصبح الشيوعيون يستعان بهم في الإعلام، وفي الاتصالات الدولية، وفي الصحافة والإذاعة، وفي مواقع كثيرة لا يملكون فيها القرار. لقد تمسك عبد الناصر دائما بفكرة مركزية القرار، وقد تمثلت هذه الفكرة في عبارته: <<الماركسية عنصر إثراء وتصحيح>>، <<تصحيح>> بمعنى أنه ينطوي على عنصر <<تنبيه>> لأخطاء يتعين تجنبها، و<<إثراء>> بمعنى أنه يثري الحوار <<القومي>> بإكسابه بعدا <<أمميّاً>>. والحقيقة أن عبارة عبد الناصر كانت تحمل أيضا ضمنيّاً معنى أن الماركسية لا ينبغي أن تكون، في أي الأحوال، <<عنصر قيادة>>. أي ينبغي أن تكون <<أفكارا>> لتصحيح المسار وترشيده فقط، وألا تتجسد هذه الأفكار في صورة <<تنظيم مستقل>> يوجه الصراع الطبقي، ويحوله إلى قوة فعالة تزاحم قيادة الدولة في تقرير مصير المجتمع.
ومع ذلك، ينبغي لنا أن نقول إن قاعدة <<الثورة>> الحقيقية ظلت المؤسسة العسكرية التي بقيت هي المهيمنة. غير أن مؤسسة الضباط، مع تعاظم شأن مقامها في المجتمع، نالها الضمور كجيش محترف. وحدث ما حدث في حرب 1967. وأصبح عبد الناصر بعد ذلك مطالبا بإزالة آثار العدوان، قبل الانشغال بأن يكون نموذجا لنوعية جديدة من القيادة التقدمية في البلدان النامية. وظهر شيوعيون جدد، انتموا إلى جيل آخر من اليساريين الشباب. وبدا الجيل السابق وكأنما قد سلم لعبد الناصر زمام القيادة، وتخلى عن رسالته التاريخية. وأصبحنا بصدد معطيات جديدة، مختلفة. ولم تعد هناك قضية مواجهة بين الشيوعية والثورة، وإنما أصبحنا بصدد ثورة لم تعد ثورة، وشيوعية لم تعد شيوعية.
أما بعد..
فقد اتهم الشيوعيون من جيل الأربعينيات والخمسينيات بالرضوخ لعبد الناصر قبيل هزيمة 1967. وبدا هذا الجيل وكأنما كان له دور أكثر بروزا في طمس شخصية الشيوعية المصرية من دوره في إعلاء شأن هذه الشخصية وتقرير ملامح باقية لها. لقد وظفته قياداته اليهودية في مرحلة أولى، ثم وظفته حركة الجيش في مرحلة تالية. وهكذا فاته القطار، رغم تفاني الكثير من كوادره في تضحيات، بلغت حد الاستشهاد في أكثر من مناسبة.
أقول: ربما قام جيل آخر، في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، بمحاولة إعادة رفع الراية. فإن حالة ما بعد هزيمة 67 كانت حالة <<ثورية>> واجبة الاستثمار، لا النظر إليها على أنها حالة شاذة واجبة الاحتواء في أسرع وقت ممكن.. وقد تعددت الأسباب لمناهضة سياسات السادات، لا في معركة <<عبور القناة>> عام 1973، وقد التفت حوله الأمة بحذافيرها وقتذاك، وإنما عندما ذهب بالعبور في نوفمبر 1977 إلى حد الهبوط في مطار بن غوريون! فلقد قامت، في مواجهة زيارة القدس، معارضة من منطلق وطني، وأخرى من منطلق قومي، وأخرى من منطلق ديني.. وأخرى من منطلق شيوعي. وقد التقت وقتذاك رموز لهذه المنطلقات في لقاءات <<جبهوية>> شتى، وأيضا في صورة حزب هو <<التجمع الوطني التقدمي الوحدوي>> المعارض. لقد واصل التجمع التقليد الذي أرسته مجلة <<الطليعة>> في عهد عبد الناصر، وهو السعي إلى تجميع القوى التقدمية تحت راية الماركسية لا راية الشيوعية، استثمارا للقدرات <<التصحيحية>> و<<الإثرائية>> للفكر الماركسي، بعيدا عن تنظيم يكون مقصورا على الشيوعيين وحدهم. غير أن المكوّن الشيوعي في هذا التجمع الأوسع حرص على إبراز نقاط الالتقاء مع القوى الأخرى المناهضة لسياسات السادات، وبالتالي لم يسهم كثيرا في إبراز ما هو متميز للشيوعيين في جبهة قوى المعارضة، وبالذات البعد الأممي كأحد مرتكزات أي فكر شيوعي.
غير أن مرجعية الشيوعية قد أصابتها ضربة قاصمة بانهيار الاتحاد السوفياتي. كانت <<بيريسترويكا>> غورباتشوف قد كشفت عن ثغرات كثيرة في البناء الشيوعي العالمي، وعن الحاجة إلى مواكبة متطلبات العصر من خلال مراجعة شاملة لوضع بلغ مع زوال الدولة السوفياتية حد محو النظام العالمي الثنائي القطبية من الوجود. وكان من أثر هذا التحول الأساسي أن فقدت الماركسية موقعها المركزي كفكر خليق بالتأثير في المدارس الفكرية الأخرى، كفكر لا مناص من التسليم بمرجعيته.
ومع ذلك، فإن للتجربة الشيوعية في مصر (التي تعرضنا لها) أثراً باقياً إلى اليوم. أثراً قد لا يكون مدرَكاً تمام الإدراك حتى في وعي الذين ما زال يستبدّ بهم هذا التأثير. فإن البعض ممن كرسوا حياتهم للتجربة قد يتجه حنينهم وأكاد أقول ولاؤهم إلى المرحلة الأولى في تاريخ الحركة الشيوعية، المرحلة التي كان للقيادات اليهودية فيها دور بارز، ليكون لهم تفهم لمتطلبات عملية السلام مع إسرائيل قد لا يدركها على نحو مماثل من يظل حنينه للمرحلة الثانية، مرحلة تأثر الحركة الشيوعية المصرية بالفكر القومي العربي. لقد أظهرت الخلافات التي أبرزها ما عرف بعملية <<كوبنهاغن>> أن للماركسيين المصريين مرجعيتين على طرفي نقيض: مرجعية أكثر تأثرا بالفكر الذي ساد في ما وصفناه بمرحلة القيادات <<اليهودية>> في تاريخ الحركة الشيوعية المصرية، وأنصار هذا الاتجاه يحبذون حوارات مفتوحة مع اليسار الإسرائيلي، ومرجعية ربما عكست تجربة الذين أحسوا بأن وجود قيادات يهودية على رأس المنظمات الشيوعية في مرحلة تأسيسها قد أجهض التجربة برمتها، الأمر الذي يستدعى حيطة وحذرا إزاء اليسار الإسرائيلى عموما، حتى لا تصبح عملية السلام مع إسرائيل سببا مستجدّا للوقوع في <<فخ الشيوعية اليهودية>>.
هذه المشكلة التي لم تختف رغم اختفاء المنظمات التي ولّدت هذا الخلاف منذ أكثر من ثلث قرن وإنما تؤذن بأن الخلاف ستكون له امتدادات ومضاعفات في المستقبل، ذلك أنها مشكلة ستلازم محاولات التوصل إلى تسوية في الشرق الأوسط، حتى بعد رحيل جيل الشيوعيين المصريين الذين خاضوا التجربة.
(ينشر بترتيب مع <<الكتب وجهات نظر>>
جريدة السفير