الهجوم على دولة الرفاه في اوربا و ضرورة تشكيل أحزاب شيوعية عمالية لقيادة الهجوم المضاد


نادية محمود
2010 / 12 / 16 - 11:48     

تتعرض المكتسبات التي حققتها الطبقة العاملة في بريطانيا - كما في الدول الراسمالية الاخرى في العالم - الى هجمة جديدة منذ شرع نظام "دولة الرفاه" بالعمل منذ 65 عاما، ان مصادرة هذه المكتسبات هو احدى النتائج المترتبة على الازمة الاقتصادية العالمية الاخيرة. هذه الازمة شرع بحلها، كباقي الازمات، على حساب امن و حياة و "رفاه" الجماهير في هذه الدول. وهذه ليست المرة الاولى التي تتعرض فيها دولة الرفاه الى هجمة، فمع كل ازمة اقتصادية للرأسمالية خلال العقود الستة المنصرمة رافقتها هجمة على تلك الحقوق، بحيث بدأت تتقلص و تتعرض للمصادرة ازمة بعد ازمة.

لست هنا في وارد الخوض بكيفية مجيء ذلك النظام الى الوجود، الا ان اشارة سريعة اليه ستفيد بالقاء الضوء على ما يتعرض له هذا النظام لاحقا. من المعلوم ان "دولة الرفاه" جاءت لتطرح نفسها كنظام للعيش في ظل الانظمة الرأسمالية بموازاة "النمط الاشتراكي" في الاتحاد السوفيتي سابقا و الكتلة الشرقية و هو طرح الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية، لتحسين صورة النظام الرأسمالي باعتباره نظام قابل للعيش فيه وتحسينه التدريجي دون الحاجة الى التغيير الثوري والعنفي. ان هذا النظام يقوم بتحديد مستوى المعيشة، نظام السكن، ضمان البطالة بحيث تصبح تحت سيطرة الدولة. ان هذا النظام هو من اجل فرض السيطرة الاجتماعية على الجماهير في هذه الدول الذي اسموه بنظام الرفاه. في حقيقة الامر ليس هنالك رفاها في دولة الرفاه. بل هنالك مقاييس اقتصادية محددة يعيش وفق اطرها المواطن، و التي تقوم على اساس قيام القوى العاملة بدفع كلف حياة القوى المعطلة عن العمل، انه نظام جعل الطبقة العاملة منها تدفع نفقات القسم العاطل عن العمل، سواء عاطلين عن العمل، كبار سن وغير ذلك . هذا النظام قدم على اساس انه نظام للرفاه في هذه المجتمعات.

هذا النظام الذي جاء للوجود من اجل تكريس بقاء و تحسين و جه النظام الرأسمالي، يتعرض اليوم الى هجمة شرسة. ليضيق الخناق اكثر فاكثر على المواطنين وحياتهم، و يدخلهم في حالة من الخوف من المستقبل على مصيرهم وعلى مصير اطفالهم. الامر الذي يوضح هشاشة هذا " الرفاه" الذي يحلم به المواطن في اوربا، ناهيك عن بلدان مثل الشرق الاوسط.

نظام دولة الرفاه يقوم على اساس فرض الضرائب على القوى العاملة والتي تشكل القسط الاكبر من الدخل القومي. لقد جرى تنظيم المجتمع في هذا النظام بحيث يدفع العامل 17% (وفي بلدان مثل السويد يصل الى 35%) من أجره الى الحكومة، لتقوم الاخيرة بتسديد نفقات الخدمات التي تقدمها له من القطاع العام. فاذن دولة" الرفاه" ترغم اولا القوى العاملة على دفع تكاليف معيشة القوى العاطلة عن العمل، لا الحكومة و لا الرأسمالية تدفع هذه النفقات، والرأسمالية بالغة الحذق، نظمت النظام الرأسمالي و ادارته و سوقته ايضا للعالم باعتباره نظام للرفاه، في الوقت الذي يعتمد كليا على قوة العمال والارباح التي يولدوها من سرقة جهودهم. ثانيا، جعل الطبقة العاملة تدفع كلفة الخدمات التي تقدمها الدولة للمواطنين بالاضافة الى تمويل نفقات الحكومة و شن الحروب. انها مبالغ تشكل البلايين من الدولارات كل عام، الامر الذي يضع تحت تصرف الحكومات الرأسمالية مبالغ ضخمة تحت تصرفها، لذلك تمكنت الحكومات الغربية من دفع بلايين الدولارات للبنوك حتى لا تنهار. دفعت الولايات المتحدة 700 بليون دولار من اموال دافعي الضرائب الى البنوك.

في بريطانيا تم تحويل 850 بليون باوند حتى نهاية العام المنصرم الى البنوك، ولازالت هنالك احتمال دفع المزيد من الاموال الطائلة الى البنوك. هذه الاموال هي اموال الجماهير و يجب ان تعود لها، الا ان حكومة دول الرفاه، ممثلة الطبقة الرأسمالية و المالية و الصناعية. ولتسديد النقص المالي الذي وجدت حكومة المحافظين نفسها فيه شرعت و بعد استلامها السلطة بخمسة اشهر بالهجمة المنظمة على مفردات " الرفاه". في يوم 20 اكتوبر- تشرين الاول من هذا العام، اعلنت الحكومة حاجتها الى الاموال و لتعويض ال 850 بليون باوند. بدأت بايقاف البرامج الاقتصادية و تقليص النفقات، و الطرد من العمل، مبتدئة اولا بقطع النفقات المخصصة للاطفال، و غير القادرين على العمل، رفع كلفة الدراسة في الجامعات ثلاثة اضعاف في قرار صوت عليه البرلمان البريطاني في يوم 9 كانون الاول، تغيير قوانين السكن، تغيير قوانين تقديم الدعم للجامعات - تقدمه للدراسات الطبيعية و تحجبه عن الدراسات الانسانية، لانها لا تدخل مباشرة في زيادة الارباح- رفع سن التقاعد الى 62 و تخطط الى رفعه الى سن 68. مفتتحة هذه السياسات بصرف نصف مليون عامل في القطاع العام، ليحالوا الى البطالة التي بلغت 2 مليون ونصف و ليتنافسوا على فرص العمل القليلة اساسا. حيث ان الاقتصاديات الراسمالية تستبدل الايدي العاملة بالمكائن، اينما توفرت الامكانية لها لعمل ذلك.

نتيجة هذه الهجمة، والصدمة التي تولدت عنها، دخل المجتمع البريطاني في حركة اعتراضية واسعة: تظاهرات طلابية ساهم بها الى جانبهم طلاب الثانويات واساتذة الجامعة. بدأ الطلاب باحتلال ألجامعات، اضرابات عمالية، ندوات في الجامعات، مؤتمرات محلية، و عمت التظاهرات في عموم بريطانيا. و قد كسرت تظاهرات طلاب بريطانيا تقليدا اصبح الان قديما، الا هو عدم استخدام العنف في التظاهرات، معلنة " ليس للشرطة وحدها الحق في استخدام العنف" ليسجل شباب بريطانيا صفحة جديدة في تقاليدهم النضالية.

اسفرت هذه الحركات عن تشكيل الائتلاف الطلابي العمالي تحت اسم( ائتلاف المقاومة) الذي اعلن عن وجوده في المؤتمر الاول في 27 من شهر نوفمبر- تشرين الثاني الماضي. و ضع المؤتمر على جدول اعماله سلسلة من الاعتراضات الجماهيرية تتراوح من الاضرابات الى اعلان العصيان المدني التي ستبدا هذا العام و ستستمر للعام القادم. الاهداف التي يتحرك لتحقيقها( ائتلاف المقاومة) هو ارغام الحكومة على ايقاف قطع النفقات، التصدي لخصخصة خدمات الرفاه، التصدي للبطالة و تقوية المنظمات المدافعة عن حقوق العاطلين، طرح بدائل اخرى لحل المشاكل الاقتصادية مؤكدة على التصدي لكل النزعات العنصرية بمعاداة الاجانب.

لتحقيق هذه الاهداف وضع الائتلاف على اجندته عددا من الاعمال: اعلان اسبوع كامل من الاحتجاجات في شهر شباط 2010، و تظاهرة في يوم 26 اذار يخطط لها ان تكون اكبر من التظاهرة التي نظمت احتجاجا على الحرب ضد العراق. التنسيق مع البلدان الاخرى للتحرك بشكل مشترك و موحد من اجل التصدي لسياسات الحكومات الاوربية. عقد مؤتمر في عام 2011 تحت شعار( لا قطع و لا اجور دراسة).

ان وجود هذه التحركات على اجندة هذا الائتلاف و القوى المنضوية تحته يعكس حيوية الناس للدفاع عن انفسهم و عن حقوقهم، الا ان هنالك امر جوهري لم تتطرق له تلك التحركات و الحركات الاعتراضية المعادية للهجمة على "دولة الرفاه". الا وهو امر التصدي الى قلب وفحوى النظام الرأسمالي نفسه، المولد الرئيس و الدائم لهذه الازمات.

ما تحتاجه هذه الحركة، حاجتها للهواء و الماء ليضمن لها تحقيق اهدافها، هو ظهور الرد المعادي للنظام الرأسمالي بــ"رفاهه" و بـ"هجمته" على الرفاه. لم يكن نظام دولة الرفاه هو " رفاها" للمواطن في ظل المنافسة الشديدة على فرص العمل عليه ان يصارع من اجل ان يجد فرصة عمل، ومن اجل ان يحافظ على عمله. في نظام اقتصادي راسمالي يعتبر وجود جيش من العاطلين عن العمل ركيزة من ركائزه.، ففي الوقت الذي يعمل فيه المواطن 35 ساعة عمل او 42 او حتى 48 ساعة في الاسبوع، في الوقت الذي يبحث فيه الناس عن اية فرصة عمل. ليس من مصلحة النظام الرأسمالي تقليص ساعات العمل و تشغيل عدد اكبر من العاطلين، و لا زيادة عدد ايام العطل للعاملين و تشغيل العاطلين الى جنبهم، ليس من مصلحة النظام الرأسمالي حل مشكلة البطالة، بل وجود البطالة يضمن له مصدرا للعمالة الرخيصة و ليضمن منافسة القسم العاطل للقسم العامل من الطبقة.

ان نظام الرفاه هو نظام السيطرة الاجتماعية على الجماهير، والتي يفرض فيها على الملايين امر تدبير معيشتها بما تحصل عليه من اجر او من بدل بطالة، وان تسدد فواتير الباهظة للشركات الجشعة: شركات الماء و الكهرباء و المواصلات و الاتصالات وغيرها.

لقد اعطت الحركات الطلابية روحا ودماءا ساخنة للاعتراضات الاخيرة في بريطانيا، مقتدية بالنموذج الفرنسي، من حيث استخدام العنف ولاول مرة في التظاهرات اولا، و ثانيا، تغير لغة المنظمين للحملة من حيث تبنيهم لعبارات العصيان المدني، و تصعيد الروح المقاتلة في التصدي لهذه الهجمة. الا ان السؤال الذي يطرح باي تجاه و لتحقيق اي هدف بالتحديد تجري كل هذه التحركات. هل يمكن تحقيق تلك الاهداف بالتظاهرات الطلابية على سبيل المثال بايقاف مضاعفة اجور التعليم الجامعي؟ في يوم 20-10 اعلنت الحكومة ميزانيتها بقطع نفقات الدولة و رغم كل التظاهرات في اشهر تشرين الاول وتشرين الثاني و كانون الاول، صوت البرلمان البريطاني في التاسع من هذا الشهر لمضاعفة اجور التعليم ثلاث مرات عما يدفعه الطلبة الان.

فما العمل؟

ان الازمات سمة ملازمة للنظام الرأسمالي. وبالقدر الذي تقدم الطبقة العاملة على الدفاع عن نفسها و عن مصالحها، يمكن لها تامين، تامينا حذرا، قابلا للمصادرة في اية لحظة، اي مكتسب من مكتسباتها سواء كان تامين فرص العمل، التعليم، الصحة، الخدمات او غيرها. الا ان الضمانة الوحيدة والنهائية لاخراج البشر من هذا التلاعب بحياة الجماهير، هو انهاء النظام الرأسمالي نفسه. انها المقولة الماركسية القديمة و التي جاءت في البيان الشيوعي قبل 150 عاما، و تمتلك صحتها و حيوتها انذاك و اليوم مرة اخرى. لقد اظهر النظام الراسمالي حقيقته واكد عليها المرة تلو المرة بان هذا النظام هو نظام الهجمات على البشر، و ليس نظام اشباع حاجات البشر. ان التناقض بين الملكية الخاصة و الطابع الاجتماعي للانتاج يظهر باسطع اشكاله. فمن جهة تنخرط الملايين في الانتاج، الا ان فئة قليلة تتحكم بالبلايين من انتاج ملايين العمال.

حين انهار نظام رأسمالية الدولة في الاتحاد السوفيتي و اسقط جدار برلين، تعالت اصوات وسائل الاعلام الرأسمالية لتتغنى بموت الشيوعية، و لكن هذه الرأسمالية تنهار بنوكها وشركاتها، الا ان الحكومة تهب لنجدتها سارقة عرق و شقاء الملايين من البشر، لتسكبه في جيوب الرأسمالية. مع هذا لم تتعالى الاصوات بانهيار و بفشل النظام الرأسمالي من قبل القوى و التظاهرات العمالية و الطلابية و لم تتحدث فيه بصوت قوي و واضح عن عدم وجود اي رجاء و اي امل في هذا النظام و ضرورة بزوغ قوة اخرى تزيل هذا النظام.

لقد نظمت الجماهير وتظاهرت في مدن بريطانيا واوربا و عقدت المؤتمرات و طرحت لنفسها اجندة عمل، الا ان ما تحتاجه هذه الحركة هو الافق الاشتراكي، و الافق الشيوعي لتنظيم و قيادة هذه الحركة. هذه الحركة بحاجة الى قيادة شيوعية و الى حضور شيوعي والى شعارات شيوعية، رغم ان فعالي الحركة الشيوعية جزء لا يتجزء من هذه الحركة الاعتراضية. لم يحضر ماركس بقوة كما شهدت العودة اليه في بدايات الازمة في اعوام 2007 و 2008، و هذه الحركة بدون الافق الماركسي و القيادة الماركسية سيكون مصيرها نفس مصير الحركة المناهضة للحرب، حيث خرجت الملايين الى الشوارع، الا ان الحرب وقعت رغم ارادة الملايين التي تظاهرت.

الجماهير بحاجة الى ان ترى قوتها الحقيقية و قدراتها الحقيقية. بحاجة الى حزب سياسي ، و طرح و برنامج عمل، يختلف نوعيا عن فقرات تلك القائمة المطروحة على مؤتمر ( ائتلاف المقاومة) في نوفمبر، ستتصرم هذه الحركات مثل الحركات التي سبقتها ان لم تنظم في اطار حزب سياسي طبقي عمالي و شيوعي. ان ائتلاف المقاومة، لن يختلف عن ائتلاف ضد الحرب، و كما ان ذلك الائتلاف لم يحقق اهدافه بمنع الحرب، فان ائتلاف المقاومة للتصدي لسياسات القطع، ستتعرض لنفس المصير.

الشبح الشيوعي يجب ان يجول في اوربا مرة اخرى. هذا الشبح يجب ان يظهر بقامة حزب شيوعي عمالي متموقع في قلب نضال الطبقة العاملة ضد الرأسمالية رافعا شعار اسقاط الحكومة الرأسمالية و تشكيل حكومة عمالية. هذه ليست بالمهمة المستحيلة. الا ان تقاليد الحركات الاعتراضية و الاصلاحية ابعدت هذا الهدف و جعلته وكأنه في عداد المستحيل. ان هذا هو الطريق و لا امل اخر غيره.
هذه المهمة مطروحة امام القوى الاشتراكية، اي مهمة ظهور التيار الشيوعي داخل هذه الحركات باطار حزبي. الاتحادات العمالية و الشبابية والطلابية و منظمات حقوق الانسان، و الشخصيات كلها مكونات مهمة لهذه الحركة، الا انه بدون حزب سياسي يؤطر هذا المنظمات، بدون افق و راية اشتراكية، بدون حل المعضلات التي تواجه هذه الحركة، لن يكتب لها النجاح كما لم يكتب النجاح للحركة المناهضة للحرب.
خلاصة ما اريد قوله ان الصراع السياسي يخاض باحزاب سياسية، و بنضالات سياسية تبدأ بالرأس و ليس من الاطراف. انها تبدأ اولا و قبل اي مكان اخر من مكان السلطة السياسية، و ليس من اي مكان اخر. السلطة السياسية يجب ان تنتزع من الرأسمالية. كيف؟ هذا هو السؤال الذي يتوجب الرد عليه، كون المهمة صعبة وعسيرة، في ظل مهارة الرأسمالية و خبرتها في التمسك بالسلطة عبر عقود من السنين، وبعد ان رأت بعينها الفزع من الشيوعية، لا بد ان تلك مهمة صعبة، لكن صعوبتها لا توفر مبرر التنصل منها.
الطبقة العاملة و التيار الشيوعي العمالي داخل الحركة المناهضة للهجمة على "دولة الرفاه" يجب ان تضع على عاتقه مهمة مناهضة النظام الرأسمالية، الحكومة الرأسمالية، و تأسيس حزبا للقيام بهذه المهمة، مهمة انقاذ البشر من جشع الرأسمالية سواء في بريطانيا او فرنسا و في كل مكان في العالم الرأسمالي.