ماهية كل من المادة والوعي والطاقة والروح (4 - 8)


مجيد البلوشي
2010 / 12 / 2 - 13:15     

قلنا – في مقالنا السابق – أن ذرة الهيدروجين هي أساس تكوّن جميع ذرات العناصر الأخرى الموجودة في عالمنا هذا. فاندماج نواتين من الهيدروجين أدّى إلى تكوّن ذرة الهيليوم، وهو ثاني عنصر في الجدول الدوري للعناصر الكيميائية.



وعند اندماج نواة واحدة من ذرة الهيدروجين (ذات بروتون واحد) ونواة واحدة من ذرة الهيليوم (ذات بروتونين) تكوّنت ذرة الليثيوم lithium (Li) ذات ثلاثة بروتونات تدور حولها ثلاثة إلكترونات. وعنصر الليثيوم هو ثالث عنصر في الجدول الدوري. وهو أخف فلز رخوي إطلاقاً، ويتفاعل مع الماء ويطلق غاز الهيدروجين. وعلى نفس المنوال تكونت جميع العناصر الكيميائية الأخرى الموجودة في عالمنا، أي أنها تكونت من اندماج عدد معين من أنوية ذرة الهيدروجين في بعضها البعض. وهذا العدد هو الذي يميز عنصر ما عن عنصر آخر. فعنصر الحديد iron (Fe)، مثلاً، تتكوّن ذرته من اندماج 26 نواة من ذرة الهيدروجين، إذ من المعروف أن ذرة الحديد تتكون من 26 بروتوناً موجبة الشحنة يدور حولها 26 إلكتروناً سالبة الشحنة. والفرق بين الهيدروجين، وهو مادة غازية خفيفة، والحديد، وهو مادة صلبة ثقيلة، كالفرق بين السماء والأرض.



وهكذا نرى أن ذرات جميع العناصر الموجودة في عالمنا الذي نعيش فيه والمختلفة في صفاتها اختلافاً كليـاً، ما هي إلا عبارة عن أعداد محددة من أنوية الهيدروجين وقد اندمجت في بعضها البعض اندماجاً كلياً. هذا بالنسبة للعناصر، أما المواد التي لا حصر لها ولا عـدّ في عالمنا، كالماء والهواء والتراب والخشب وأجسام الكائنات الحية والنباتات والحيوانات ... إلخ هي كلها تتكوّن إما من عنصر واحد (كالألماس: الكربون) أو عنصرين (كالماء: الهيدروجين والأكسجين) أو عدة عناصر (الخشب: الكربون والهيدروجين والأكسجين ...)، وذلك باتحاد هذه العناصر في بعضها البعض اتحاداً كيميائياً. وهذا ما يعرفه طُلاّب شعبة العلوم في مدارس الثانوية العامة والجامعات. ألا يعني هذا أن التغيرات الكمية تؤدّي، عند وصولها إلى حدّ معيّن، إلى تغيرات نوعية كما تقول المادية الجدلية؟



ولا غرو في أن عنصر الهيدروجين هو من أكثر العناصر وفرةً وانتشاراً في الكون، بما في ذلك الشموس والكواكب والأقمار والشهب والسحب السديمية الواقعة في المسافات بين الأجرام السماوية. وأشهر مركّبات الهيدروجين على كوكبنا الأرضي – بعد الماء – هي مركّبات الهيدروكربونات hydrocarbonates التي تتكون منها أجسام الكائنات العضوية والنباتات والحيوانات، وكذلك النفط. فذرة الهيدروجين هي الأصل: أصل نشوء الكون، وأصل كل العناصر وأصل كل المواد. باختصار: هو أصل كل الموجودات في عالمنا المادي.



ومرة أخرى نعتذر للقارئ إذا أضعنا وقته في سرد أمور قد تكون معروفة لديه، وهي فعلاً أمور يدرسها طلاب العلم في المدارس والجامعات.



ورجوعاً إلى مقالات صاحبة عمود "عالم يتغير" نتساءل: ماذا تقصد أستاذتنا بقولها بأن "خلف المادة ماهيات وكينونات وأسرار تستحيل على العلوم الدنيوية لأنها خارج نطاق الاستيعاب البشري، فتنتسب المادة إلى قوة أكبر خلقتها، وخلقت معها اسرار الصلات والعلاقات التجريدية فيها، ولذلك فهي لا تكتفي بالحواس الخمس الظاهرة، بل تكملها بالحواس غير الظاهرة وتجد تفاسيرها في الدين وفي العلوم الغيبية ... (أخبار الخليج، 18 أبريل 2010 م) ؟. وهل هناك فعلاً علوم غيبية، أم أن هناك مجرّد تأملات أو تكهنات أو تنبؤات ... إلخ؟ وهل هذه التكهنات والتأملات والتنبؤات تتعامل مع الواقع والأشياء المادية، كمكونـات الذرة، مثلاً؟ ثم: هل بإمكان الدين – أياً كان هذا الدين - أن يفسـّر لنا مكونات المادة كالذرة ومكوناتها الدقيقة التي ذكرناها فيما سبق كالهادرونات والباريونات والليبتونات والكواركات ... وغيرها من الدقائق المادية؟ هل تفسير ذلك موجود، مثلاً، في الـ"مها بهارَت" أو "راماين" ، وهما الكتابان المقدسان لدى الهندوس، أو في التوراة أو في الإنجيل أو في القرآن؟ أو في أي كتاب ديني آخر؟



والحق أن صاحبة عمود "عالم يتغير"، ومعها الكثيرون من الكتاب الذين يحاولون محاولة يائسة الإنتقاص من الفكر المادي والفلسفة المادية الجدلية (المنهج الجدلي) المرتبطة أساساً بالعلم إرتباطاً عضوياً، والتي تزداد قوةً وغنىً يوماً بعد يوم مع ازدهار الاكتشافات العلمية بصورة متزايدة، ليس بمقدورهم أن يجدوا شيئاً إلاّ التشبـّث بالأمنيات والأوهام والتخيلات التي يحاولون إلصاقها بالعلم، والعلم منها بريء، وذلك بالرغم من إيمانهم المطلق بأن العقل (العلم والمنطق) والنقل (النصوص الدينية) لا يمكن أن يتفقا أصلاً، فالعقل يتعامل مع الأمور الواقعية، الملموسة منها وغير الملموسة، بينما النقل يتعامل مع النصوص الدينية الجاهزة والثابتة زماناً ومكاناً.



ولذا نكرّر ونقول للكُتاب الدينيين المتشبثين بالعلم، ومنهم صاحبة "عالم يتغير" : لا تحاولوا المساواة بين العلم والدين، وهما مجالان مختلفان تماماً ولا يمكن أن يلتقـيا أبـداً، وإلاّ أضررتم بالدين إضراراً كبيراً.



ماهية الوعي

إن الوعي consciousness بمعناه الفلسفي المادي - وباختصار شديد - هو مقولة فلسفية للدلالة على قدرة المُـخ البشري على عكس العالم المادي الموضوعي. وهو أعلى أشكال انعكاس الواقع الموضوعي في ذهن الإنسان، وكامن في الإنسان وحده باعتباره – أي الإنسان – أطور وأرقى أشكال المادة الحية في هذا العالم. فهو حامل مادة معقدة وعالية التطور، هي المخ البشري.



ولكن هل بإمكان الأشكال الأخرى للمادة أن تعكس الواقع الموضوعي المحيط بها؟ وهنا نكرّر وبنوع من التفصيل ما قلناه سابقاً وهو ما يجيب عنه لينين في كتابه "المادية والمذهب النقدي التجريبي". فانطلاقاً من منجزات العلوم الطبيعية في أوائل القرن العشرين، وانجازات الفلسفة المادية السابقة، بيّن لينين أن مفهوم "الانعكاس" أوسع من مفهوم "الوعي"، ذلك لأن الوعي ما هو إلا أرفع مراحل تطور الانعكاس تاريخيا من شكل إلى آخر.

والانعكاس مرتبط ارتباطاً وثيقاً بخاصية داخلية أخرى للمادة، ألا وهي خاصية التأثير المتبادل Interaction، أي تأثير الأجسام المادية على بعضها البعض.



فالأرض، مثلاً، تؤثّر على القمر ، فتجذبه نحوها ، وتمنعه من الانفلات من المدار الذي يدور فيه، بل أن هذا المدار ما هو إلا نتيجة لهاتين العمليتين، عملية الانفلات وعملية الانجذاب، الدائمتين. والقمر أيضاً يؤثّر على الأرض بدورانه حولها، فيسبـب لها ظاهرتـَي المدّ والجزر.

وما ينطبق على الأرض والقمر، ينطبق بالمثل على بروتونات الذرة والإلكترونات الدائرة حولها، وكذلك التأثير المتبادل بين الذرات المختلفة، مما يؤدي إلى تحوّلها من عنصر إلى آخر، ومن مادة إلى أخرى. علماً بأن عمليتَـي الانعكاس والتأثير المتبادل كامنتان في حركة المادة بجميع أشكالها.



وأشكال الإنعكاس تختلف وتتدرج من الأبسط إلى الأعقد على النحو التالي:

- الانعكاس الميكانيكي Mechanical Reflection: وهو أبسط أنواع الانعكاس، وتتميز به الأجسام المادية غير الحية، كإنعكاس الأجسام في المرآة التي أمامها، وامتداد المعادن بالحرارة، وانكماشها بالبرودة، وظاهرتَي المدّ والجزر.



- الانعكاس الاستئثاري (الاستثارة) Affectional Reflection: وتتميز به الكائنات العضوية والنباتات، كحركة قنديل البحر نحو النور، وكذلك حركة عبّاد الشمس نحو الشمس.



- الإحساس Sensation [الانعكاس الحسّـي Sensational Reflection]: وتتميز به الحيوانات وحدها لأنها تمتلك جهازاً عصبياً Nervous System، كإحساس الحيوانات بالحرارة أو البرودة، واحساسها بالألم pain والارتياح relief.



- الإدراك Perception: وهو القدرة ليس على عكس الأشياء والظواهر الخارجية ذاتها فحسب، بل وعكس ما بينها من روابط أيضاً. وتتميز به الحيوانات ذات الجهاز العصبي المركزي Central Nervous System، أي المُـخ (الدماغ) Brain، المتطور نسبياً، وأجهزة الحواس المتخصصة (البصر، والسمع، والشمّ، واللمس، والتذوّق)، كاحساس الكلب أنه مستهدف للضرب بالحجرة التي يلتقطها شخص وهو مار بقربه.



- الارتكاس Response: وهو الاستجابة لحركة الأشياء والظواهر كرد فعل، وهو يعكس الارتباط بين الأشياء والظواهر، وبينها وبين الحيوانات. والارتكاس يتشكّل من الغريزة Instinct لدى الحيوانات.



- الوعـي Consciousness: وهو أعلى درجات الانعكاس وأكثرها تطوراّ، ويتميز به الانسان وحده باعتباره صاحب جهاز عصبي عالي التطور، وهو المخ الإنساني. وبفضل هذا المخ يستطيع الإنسان أن ينتقل من الاحساس المباشر إلى الفكرة المجردة أو المفهوم.



وقد لعب العمل دوراً أساسياً في تطوير المخ الإنساني، ذلك العمل الهادف والموجّه لانتاج الخيرات المادية، والذي أدى إلى ظهور المجتمع الإنساني، ومن ثـم إلى ظهور اللغة كأداة للتفاهم، وإلى تكوين مفاهيم مجردة، أي الانتقال من المحسوس concrete إلى المجرّد abstract.



وتجدر الإشارة هنا إلى مذهب "حيوية المادة" Hylozoism القائل بأن المواد [الأشياء] كلها حية وتمتلك وعياً، بالضبط كما تقول صاحبة عمود "عالم يتغير". فالحجر، مثلاً، أيضاً يفكر (يعي)، والماء كذلك، والتراب والهواء ... إلخ، ولكن بصورة أضعف مقارنة بالإنسان. ومن أبرز ممثلي مذهب حيوية المادة هوالفيلسوف المادي روبينـيه Robinet, Jean-Baptiste (1735 – 1820) .



وقارنوا هذا المذهب مع قول صاحبة عمود "عالم يتغير" بأن "كل شيء يمتلك إدراكـاً ووعيـاً" (أخبار الخليج، 27 مايـو 2010 م) !!



يتـبع ...