ماهية كل من المادة والوعي والطاقة والروح (3 - 8)


مجيد البلوشي
2010 / 12 / 1 - 00:40     

قبل استكمال ردودنا على ما كتبته – وتكتبه – صاحبة عمود "عالم يتغير"، نـودّ هنا أن نعتذر من القراء على أسلوبنا المدرسي الأكاديمي البحت لطرح أفكارنا، وذلك بالاستعانة بالكتب الأكاديمية والموسوعات العلمية الحديثة، فهُم لا بدّ وقد درسوها أو قرؤوها بهذا الشكل أو ذاك. كما أننا نعتذر على تكرار بعض الجـُمل والعبارات التي نوردها هنا، أو أوردناها في مقالاتٍ لنا سابقة، وذلك تأكيداً لِمـا نقول، مؤكدين أيضاً على أننا ملتزمون بالمنهج المادي الجدلي العلمي.



وقد يعتبر البعض أن ما نطرحه هنا ما هو إلاّ "دعاية للفكر الماركسي"، ونقول لهذا البعض: "فلـْيـكُن كذلك، بل اعتبروه دعاية مجانية". فما نطرحه هنا هو أمر لا بدّ منه لكي نوضـّح أفكارنا بكل صراحة وشفافية، وخاصةً لهؤلاء الذين لا يعرفون شيئاً عن الفكر الماركسي، أو يعرفون عنه ولكن ليس بصورة واضحة، علماً بأننا لا نؤمن بسياسة "النعامة" كما يفعلها غيرنا.



المنهج المادي الجدلي

ما هو المنهج المادي الجدلي الذي نقول به؟

إنه – وباختصار شديد - منهج القوانين العامة التي تحكم تطور الطبيعة والمجتمع والفكر الإنساني. إنه النظر إلى العالم كما هو في الواقع، في حركته الدائمة وتغيره المستمر وتطوره المتواصل، وذلك بناءً على التناقضات الجارية في كل جزء من أجزائه التي لا حصر لها ولا عـدّ. والتناقض هو المقولة الأساسية للمنهج المادي الجدلي.



وخلافاً للعلوم الخاصة، كالكيمياء والفيزياء والرياضيات والطب والقانون وعلم النفس والمنطق ... إلخ، والتي تدرس جانباً معيناً من جوانب الواقع (الطبيعة أو المجتمع أو الفكر الإنساني)، فإن الفلسفة المادية الجدلية تدرس القوانين العامة التي تخضع لها جميع ميادين الواقع، فهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالعلم كـكُل. وتاريخ الفلسفة والعلم يبين بشكل واضح أن العلم والفلسفة المادية الجدلية لا ينفصلان البتّة.



والمنهج المادي الجدلي له قوانينه العامة، الخاصة به، التي تعكس استمرارية الحركة والتغير والتطور في الطبيعة والمجتمع والفكر الإنساني، وهذه القوانين مترابطة بعضها بالبعض، ولا يمكن فصلها، بل يمكن اعتبارها قانوناً عاماً واحداً ذا جوانب ثلاثة رئيسية. ولأنها تعكس الواقع الموضوعي، فإنها قوانين موضوعية مستقلة عن وعي الإنسان وإرادته. إلا أن الإنسان- حامل المُخ العظيم - بإمكانه دراستها، والتأثير عليها، وتغييرها، وإخضاعها لصالحه.



ويمكن تلخيص القوانين الرئيسية للمنهج المادي الجدلي كما يلي:

1- قانون وحدة وصراع الأضداد

وهو يبيّن سبب التغيّر، ويجيب عن السؤال: لماذا يحدث التغير؟ وهو لُـب المنهج الجدلي المادي، بل إن قوانين المنهج الجدلي المادي الأخرى تنحدر من هذا القانون أساساً.

ويقول هذا القانون بأن الأشياء والظواهر- وعلى جميع المستويات: الطبيعة والمجتمع والفكر - تتكون من جانبين متناقضين، أو عدة جوانب متناقضة، وتمثل وحدة متناقضات، وأن هذه المتناقضات لا تتعايش بشكل بسيط، وإنما توجد في حالة صراع مستمر فيما بينها إلى أن ينتصر أحد الجوانب على الجوانب الأخرى.

إن صراع الأضداد هو الجوهر الداخلي لتغير الواقع وتطوره. فالأشياء تتغير لأنها تتضمن التناقض في ذاتها، إلاّ أنه قد تكون هناك تناقضات خارجية، أي تناقضات بين الشيء المعين والشيء أو الأشياء المحيطة به، وهي لا تقلّ أهمية من التناقضات الداخلية.



2- قانون تحوّل التغيرات الكمية إلى التغيرات النـوعية

وهو يبيّن مراحل التغير، ويجيب عن السؤال: كيف يحدث التغير؟

في جميع الأشياء والظواهر تتلازم التغيرات الكمية والكيفية في حدود معينة مضبوطة. فالتغيرات الكمية، والتي تكون غير ملحوظة في البداية، تتراكم وتتراكم بصورة تدريجية إلى أن تصل حداً معيناً حيث تحدث بعده الطفرة leap فتظهر التغيرات الكيفية. وهذا هو "الحد" أو "المعيار"mere ، وهو كمٌّ كيفيّ qualitative quantity ، أي أنه الكمية التي تبدأ بعدها مباشرةً التغيرات الكيفية في الشيء.

"لا شيء يبقى كما هو، ولا شيء يبقى حيثما هو". (إنجلس)



3- قانون نفي النفي

وهو يبيّن مصير التغير ويجيب عن السؤال: إلى أين يتجه التغير؟

إن التغير يتحقق بواسطة نفي القديم من قبل الجديد، نفي الأدنى من قبل الأعلى. إن الجديد، إذ ينقض القديم، ويحافظ على ملامحه الإيجابية ويطورها، يكسب التطور طابعا تقدميا. ولكن الجديد نفسه يصبح قديماً مع مرور الزمن بسبب تناقضاته الداخلية والخارجية، فينفيه جديد آخر. وما ينطبق على الجديد السابق، ينطبق بالمثل على الجديد اللاحق، وهكذا دواليك.

إن النفي في المنهج المادي الجدلي هو إلغاء ما سبق، وهو يختلف عن الإلغاء الميكانيكي الناتج عن قوة خارجية، وإنما هو إلغاء داخلي ناتج عن التناقض الموجود في داخل الشيء.



تلك هي قوانين الجدل (الديالكتيك)، قوانين الحركة والتغيّر والتطور. إلا أن التطور لا يتم على شكل مستقيم، بل يتم على شكل حلزوني حيث تتكرر في الجديد بعض ملامح وجوانب القديم التي لا تعيق تطور الجديد، كما قد يواجه الجديد بعض العقبات أو بعض النكسات المرحلية والتراجعات الوقتية، ولكنه، كاتجاه عام، يمضي قُدما إلى الأمام.



وأساس التغير والتطور في الطبيعة والمجتمع والفكر الإنساني هو وحدة هذه القوانين الثلاثة وتداخلها.



ولنأخذ، كمثال على وحدة هذه القوانين، أحد أبسط العناصر المادية الموجودة في عالمنا هذا (وعددها حتى الآن هو 118 عنصراً)، وهو عنصر الهيدروجين hydrogen atom (H)، فمن المعلوم أن ذرة الهيدروجين تتكون من بروتون proton واحد موجب الشحنة الكهربائية يدور حوله إلكترون electron واحد سالب الشحنة. وهذان الجُـسيمان المتناقضان، أي البروتون ذو الشحنة الموجبة والإلكترون ذو الشحنة السالبة، موجودان معاً طالما أن ذرة الهيدروجين موجودة كذرة هيدروجين، ولا يمكن فصلهما إلاّ بالتفاعلات الكيميائية. وعندئذٍ لن يبقى الهيدروجين هيدروجيناً. وهذا هو وحدة الضدين، أي وحدة البروتون الموجب الشحنة والإلكترون السالب الشحنة. وذلك بالرغم من محاولة الإلكترون الانفلات من البروتون، ومحاولة البروتون جذبه نحوه بصورة مستمرة. وهذا هو صراع الضدين. وهنا يتضح قانون وحدة وصراع الأضداد. وسيحدث هذا الانفلات حتماً ولكن عند وجود الظروف المهيئة له ونضجها، أي عند التفاعل الكيميائي بين هذه الذرة وذرة من عنصر آخر، كذرة الأكسجين مثلاً. فعند تفاعل ذرتين من الهيدروجين مع ذرة واحدة من الأكسجين (من المعلوم أن ذرة الأكسجين تتكون من 8 بروتونات موجبة الشحنة تدور حولها 8 إلكترونات سالبة الشحنة) يتم انفلات - والأصح انتقال وتبادل - الإلكترونات الدائرة في المدار الخارجي لذرتي الهيدروجين وذرة الأكسجين، ومعه يتم اتحاد الذرات الثلاث. وهذا هو التغيّـر الكمّي، أي ذرة واحدة + ذرتان = ثلاث ذرات. وينتج من هذا الاتحاد مادة جديدة تختلف صفاتها عن صفات كل من غازي الهيدروجين والأكسجين اختلافاً كُليـاً. وهذه المادة الجديدة هي جزيء الماء الذي هو سائل. وهذا هو التغير النوعي.



ثم أن الماء لن يبقى في حالته السائلة إلى ما لا نهاية، بل أنه، وبتأثير من الظروف الخارجية التي يمر بها، ونتيجةً للتأثير المتبادل بينه وبين هذه الظروف، سوف يتحول إلى كيفية أخرى، هي الحالة الجامدة، أي الثلج. فعندما تصل درجة حرارة الماء درجة الصفر المئوية، تنكمش جزيئاته وتتجمّع، فيتكون الثلج. وهنا نفي النفي ، أي أن الحالة الجامدة نفت – أي ألغت - الحالة السائلة التي كانت قد نفت الحالة الغازية لمكونات الماء (الهيدروجين والأكسيجين). أما إذا وصلت درجة حرارة الماء إلى درجة مائة درجة مئوية، فإن جزيئاته تتفكك وتنتشر فيتحول إلى الحالة الغازية، أي بخار الماء. وهذا الأخير لن يبقى على حاله، بل لا بد وأن تتعرض جزيئاته بدرجات الحرارة المنخفضة، فتنكمش جزيئاته وتتجمع مكونة الحالة السائلة، أي الماء. وهنا أيضاً نفي النفي.



تلك هي بإختصار شديد وحدة قوانين المنهج المادي الجدلي الرئيسية.



ولكن مهلاً، فقد قلنا آنفاً أن عنصر الهيدروجين هو أبسط العناصر المادية الموجودة في عالمنا هذا، أي في مجموعتنا الشمسية، ومنها كوكبنا الأرضي. وقولنا هذا هو جزءٌ من الحقيقة، أما الجزء الآخر والأهمّ هو أن عنصر الهيدروجين هو أساس جميع العناصر الأخرى المدونة في الجدول الدوري الحديث للعناصر الكيميائية، بل هو أساس كل المواد (الأشياء) الموجودة في الكون المحيط بنا، علما بأن كل مادة تتكون من عنصرين أو أكثر من هذه العناصر.



ذرّة الهيدرون هي آدم الذرات

فذرة الهيدروجين هي أساس كل ما هو موجود في عالمنا من العناصر والمواد، أو كما قال الكاتب المرحوم عبد المحسن صالح في إحدى مقالاته في مجلة "العربي" الكويتية في الثمانينات من القرن الماضي أن "ذرة الهيدروجين هي آدم الذرّات"، أو كما يقول العالم الألماني هويمارفون ديتفورت Hoemarvon Ditfort "في البدء كان الهيدروجين" وهو القول الذي اتخذه عنواناً جانبياً لكتابه "تاريخ النشوء"، وذلك بدلاً من قول الإنجيل المقدس "في البدء كانت الكلمة".



فحسب ما تؤكّد عليه النظريات الحديثة حول نشوء الكون، ومنها نظرية الانفجار العظيم Big Bang (بالرغم من المآخذ العلمية الكثيرة عليها)، أن نشوء الكون بدأ قبل بلايـين السنين، بتفاعلات جارية في غيمة سديمية nebulous cloud كانت تتكون من مجموعة من ذرات الهيدروجين، وهي – أي الغيمة السديمية - كانت في حركة دائرية سريعة أدت إلى تكوين جاذبية في مركزها. وأدت هذه الجاذبية بدورها إلى تجاذب ذرات الهيدروجين، وإلى تفاعلات كيميائية عديدة، نتج عنها إندماج نووي nuclear fusion، أي اندماج أنوية الهيدروجين في بعضها البعض، فتكوّنت نظائر isotopes الهيدروجين المختلفة التي تتكون ذراتها من النيوترونneutron ذي الشحنة المتعادلة بالإضافة إلى البروتون والإلكترون، كنظيره الديوتيريوم deuterium الذي يحتوي على نيوترون واحد، والتريشيوم tritium الذي يحتوي على نيوترونين، مولدةً ضغطاً مرتفعاً ودرجة حرارة عالية جداً تساوي أكثر من 50 مليون درجة مئوية. وعند اندماج نواتي نظير الهيدروجين ديوتيريوم، إحداهما في الأخرى، تكوّنت ذرة الهيليوم helium (He). والهيليوم عنصر جديد يختلف عن الهيدروجين. وهو ثاني عنصر في الجدول الدوري للعناصر الكيميائية، وتتكون ذرته من بروتونين موجبي الشحنة يدور حولهما إلكترونان سالبا الشحنة. وهذا ما يحدث في شمسنا حالياً. علماً بأن درجة الحرارة على سطح الشمس تساوي 6 آلاف درجة مئوية، بينما تساوي درجة الحرارة في مركز الشمس 14 مليون درجة مئوية. وعملية اندماج الذرات لا تـتمّ إلاّ في مثل هذه الدرجات الحرارية العالية.

وملخص القول هو أن عنصر الهيليوم ليس إلا نفس عنصر الهيدروجين الذي اندمجت ذرتان منه في ذرة واحدة.

يتبـع ...