حول ثورة اکتوبر ومفهوم اليسار التقليدي العربي!!


رعد سليم
2010 / 11 / 27 - 00:57     

في الاونة الاخيرة، اطلعت على عدد من المقالات في بعض المواقع الکترونية حول ثورة اکتوبر في روسيا بقيادة لينين والبلاشفة و تاسيس الاتحاد السوفيتي. لا اود ان اتطرق الی کافة الجوانب الفکرية او السياسية الواردة في مقالات بعض الکتاب، ولکن استهل حديثي بالاشارة الي بعض الملاحظات العامة او الخطوط الفکرية العامة السائدة علی افکار اليسار العربي حول ثورة اکتوبر و التجربة الاشتراکية في روسيا. وتشمل النظرات التي اسعى لطرح خطوطها العامة هنا علی تلك النظرة الخاصة بتجربة الثورة الاشتراکية في روسيا. اني لا اشاطر اطروحات و تحليلات الاتجاهات المختلفة لليسار في العالم العربي بهذا الخصوص.
ان الکثير من الکتاب و المفكرين من اليسار في العالم العربي، سواء المؤيدين منهم او المعادين لثورة اکتوبر والاتحاد السوفيتي، لديهم تحليلات مختلفة ورؤى مختلفة استناداً الى منظومتهم الفكرية. عندما ينشد جزء منهم تحليل اسباب فشل التجربة الاشتراکية في الاتحاد السوفيتي او تحليل ثورة اکتوبر، فان مجمل انتقاداته ترکز علی مسالة "الديموقراطية" و"غياب الديمقراطية" والية الحکم، وتفسيرهم للاشتراکية لا بوصفها علاقات اجتماعية معينة. ان مجمل اشکال نقدهم لم يکن نقدا اشتراکيا، بل انه نقدا ديموقراطيا تم عرضه بطرق مختلفة و بعضها باشکال راديکالية. وهناك العديد من القضايا التي تمثل الاساس التحليلي لاشکال نقدهم مثل : ترکيبة الدولة بعد الثورة و ضعف الديمقراطية في الحزب وانحرافه، تعامله مع القضايا العالمية و الداخلية (اي السياسة الخارجية)، النظرات الحزبية الخاطئة، البيروقراطية، انتصار التحريفية ..... الخ .اما البعض الاخر الذي يدافع عن ثورة اکتوبر باعتبارها کانت ثورة اشتراکية، ومن خلال تحليلاتهم يحاولون البرهنة على ان الثورة کانت بمجملها ثورة اشتراکية ، ويدافعون عن نهجها الاقتصادي و السياسي و نموذجها، اي راسمالية الدولة، باعتبار المجتمع الذي اقامته کان مجتمعاً اشتراکياً . بيد ان هؤلاء، و اود ان اقول ان اي شخص مارکسي ينتقد او يحلل ثورة اکتوبر من هذه الزاوية، فمن الطبيعي ان يصبح تحليله لتلك التطورات ذاتها ناقصا و مبتورا.
الان ثمة اسئلة کثيرة تطرح نفسها الا وهو: في اغلب هذه التحليلات ، نجد عجز واضح عن ايجاد اجوبة علی معضلات الثورة. هل فشلت ثورة اکتوبر؟ لماذا لم يتم بناء العلاقات الانتاجية الاشتراکية والمجتمع الاشتراکي في الاتحاد السوفيتي؟ هل کان الاقتصاد السوفيتي اقتصادا اشتراکياً ام راسمالية الدولة ؟ هل کانت مسائل البنية الفوقية سببا لعدم تحقيق الثورة لاهدافها؟ وبرايي ان هذه المسائل جوهرية و اساسية لتحليل تجربة ثورة اکتوبر. و بما ان کل هذه المسائل تحتاج لاجابة مفصلة، و ليس بامکاني في هذه المقالة ان اتناولها بتفصيل، ساتطرق لبعض الجوانب الاساسية و بشکل مختصر، مستندا الی ابحاث منصور حکمت بهذا الصدد، لذلك اناشد القراء ان يطلعوا على بحث منصور حکمت حول (تجربة ثورة العمال في الاتحاد السوفيتي، و ابحاثه الاخری حول هده الموضوع في موقع :
(http://hekmat.public-archive.net/
لقد کانت ثورة اکتوبر حدثا تاريخيا مهما .استطاعت الطبقة العاملة الروسية من خلالها وبقيادة الحزب البلشفي ان تستولی علی السلطة السياسية ، لقد تم تشکيل الدولة، و تشکيل حکومة المجالس وقاومت هجمات البرجوازية في الداخل والخارج، وبالاخير حسمت مسالة السلطة السياسية، اي ديکتاتورية البروليتاريا. ولکن، في المرحلة اللاحقة، عندما طرحت مسالة التحويل الاشتراکي للمجتمع، لم تستطع الطبقة العاملة مواصلة ثورتها، وان الطبقة العاملة وحزبها الطليعي لم يتمكنا من قلب النظام الاقتصادي القائم وتحطيم العلاقات الانتاجية السائدة انذاك ، وفي المطاف الاخير، ايدت الطبقة العاملة نمطا اقتصاديا لم تکن نتائجه وعواقبه غير الاخضاع الاقتصادي للعمال و استمرار علاقة العمل – الراسمال کاسلوب ملائم للاساس الاقتصادي، و اختارت نموذجا ااقتصاديا متمثلاً بشکل راسمالية الدولة. لم يؤد استيلاء العمال علی السلطة السياسية الي التحويل الجذري للاساس الراسمالي للمجتمع. ان ‌‌‌هذا النمط الاقتصادي خلق، ولفترة من الزمن، نموذجا ناجحا من الاقتصاد يستند الی تدخل الدولة في الاقتصاد في الاتحاد السوفيتي، وکان هذا النموذج مناسبا لمرحلة من المراحل، اي في مرحلة مابين الحربين العالميتين التي تعاني فيها الدول الراسمالية الاخری من ازمة وکساد و رکود عميق قل نظيره. وکان ‌هدف هذا النموذج خلق الرکائز الاقتصادية و الصناعية وحشد قوی العمل و انتاج فائض القيـمة المطلق عبر جذب اکثر ما يمکن الناس الي ميدان العمل الماجور. لقد واجه اخيرا هذا النموذج ازمة حقيقية بالاخص مع تجلي ضرورة جذب التکنولوجيا الحديثة لانتاج فائض القيمة النسبية. وهو الامر الذي جرى بالضبط في الاتحاد السوفيتي. وهو الذي جعل راسمالية الدولة تسلم امرها لراسمالية اخرى، الا وهي راسمالية السوق. وهو الامر الذي لاربط له بالاشتراكية وارساء المجتمع الاشتراكي المستند على الغاء العمل الماجور.
ان الثورة الاشتراکية هي اساسا ثورة اقتصادية، وعلی هذه الاساس فقط يمکن ان تکون ثورة اجتماعية . وتتمثل رکائز الثورة الاجتماعية في التحويل الثوري للاقتصاد، اي ليس التغير في كمية الانتاج فقط، بل التحويل لعلاقات انتاجية اجتماعية معينة اساساً ومن البديهي ان يرافقه تعاظم انتاجية المجتمع. وان الراسمالية، في تحويلها للانتاج و تبادل السلع الي محور العلاقات المتبادلة بين الناس تصبح الاساس لاغتراب الانسان في المجتمع. ان تغيير نظام اقتصادي راسمالي او اسقاطه ذا صلة بالغاء الملکية الخاصة وارساء الملکية العامة لوسائل الانتاج، وتحديدا الغاء نظام الاجر والنقود کاسلوب اقتصادي، والغاء العمل الماجور وتحقيق المساواة الاقتصادية بين الانسان، بمعنی مساواة مکانة البشر ومكانتهم في عملية الانتاج الاجتماعي. ان نظام اقتصادي اشتراكي يستند الي الملکية الجماعية والمشارکة الجماعية للطبقة المنتجة في العملية الانتاجية ورسم السياسات والغاء نظام العمل الماجور الذي يستخدم فيه الفرد قوة عمله لمصلحة شخص اخر، و ليس الی ملکية الدولة کما کان الحال في راسمالية الدولة. ان هذه هي المارکسية و تفسير مارکس للاشتراکية. اي قلب الراسمالية بوصفها نظاما اقتصاديا و انتاجيا وارساء الاشتراکية بوصفها نظاما اقتصاديا خاليا من الاجور بحيث تسجل فيه الحاجات بطريقة ما، ثم تقرر الوحدات العاملة الواعية القيام بتلبيتها، و شعار "من کل حسب طاقته ولکل حسب حاجتة" بني تماما علی اساس اقرار و ضمان حق کل انسان في تحديد موقعه في الحياة المادية للمجتمع. وان معيارنا لتقيم الثورة الاشتراکية، ومن ضمنها ثورة اکتوبر، هو مدی نجاح الثورة بانجاز هذه المهمة.
کما يؤکد انجلز ان استيلاء الطبقة العاملة علی السلطة السياسية و صيانتها هي الخطوة الاولی في طريق الثورة الاشتراکية، لکن في الخطوة القادمة تستخدم هذه السلطة في الاطاحة باعدائها الراسماليين ، وان تنجز تلك الثورة الاقتصادية التي بدونها فان النصر کله سينتهي حتما بهزيمة الطبقة العاملة.
اود ان ارکز علی هذه النقطة، وبرايي ان هذه هي النقطة الاساسية و الجوهرية لعدم تمکن ثورة اکتوبر من تحقيق اهدافها. يقول منصور حکمت: تاثر تاريخ روسيا بصورة کبيرة، في العقود التي سبقت الثورة، بظهور و تنامي الطبقتين الاجتماعيتين الاساسيتين في المجتمع الراسمالي و هما البروليتاريا ، البرجوازية. طبقتان وجدتا نفسهما لا في صراع ضد بعضمها البعض فحسب، بل مع مجمل الوضعية الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية القائمة. طبقتان تحدتا روسيا القيصرية المتخلفة و بقول لينين نصف اقطاعية، و ترعرتا في احضانها. طرحت کلا الطبقتين صورة "روسيا متطورة و حرة ، صناعية " بدل الواقع القائم. ففي بداية القرن العشرين، کان من الواضح امام اي امرء، بان روسيا ستواجه تحولات جدية. کان من اليقين ان علی روسيا ان تدخل عصرا جديدا. وقد اصبح تخلف روسيا الاقتصادي و السياسي و الثقافي، اذا ماقورن بالبلدان الاوربية الاخری، مصدر لنقد اجتماعي جدي هناك.
بيد ان الذي لعب دورا کبيرا في‌ التطور اللاحق للمجتمع الروسي کان النقد المتزامن لهذا التخلف من وجهتي نظر طبقتين متمايزتين. اذا طرح بديلان امام المجتمع الروسي. بديلان لطبقتين اجتماعيتين و متعارضتين. کانت الراسمالية و الاشتراکية افقين اجتماعين متمايزين لم يطرحا بصورة مجردة ضد بعضهما البعض، بل بصورة اساسية سوية، و بصورة اکثر جوهرية ضد المجتمع الروسي حينذاك. کما تبغي البرجوازية الروسية قاطبة ان تلحق برکب الحضارة الراسمالية و التي تعرض البرجوازية الاوربية مفاخر منتجاتها حينذاك بزهو و حبور. فيما تدعو البروليتاريا الروسية، بصورة متعاظمة، تحت تاثير الاشتراکية الديموقراطية الروسية، الي الاشتراکية.
( منصور حکمت، تجربة ثورة العمال في الاتحاد السوفيتي )
يوفر کل الواقع الاجتماعي في روسيا مثل صلتها بمجتمع البلدان الاوربية، کقوة استعمارية، قدرتها العسکرية و امکانيتها الاقتصادية، الامکانية التاريخية موضوعياً لتحقيق کلا البديلين. ان روسيا المتخلفة، في نهاية القرن التاسع عشر، بوسعها ان تصبح بلدا راسماليا او اشتراکيا في القرن العشرين.
بعد سنوات عدة، تمکنت الطبقة العاملة من فصل نفسها وافقها عن الافق البرجوازي و وقفت کقوة مستقلة بوجهه. وذلك بعد خطواتهم و موقفهم من مسائل عدة من بينها موقفهم من الاشتراکية الشعبوية ، مسالة علاقة الطبقة العاملة بالسطة السياسية، المسألة الزراعية وموقفهم من الحرب و الاشتراکية الديموقراطية الثورية وميولهم الوطنية و القومية المعادية للعمال. علی الرغم من ان ذلك الانفصال الذي جرى کليا علی الاصعدة الايديولوجية و السياسية فيما لم يحصل انفصال تام مماثل في التفکير الاقتصادي والافق الاقتصادي المقبل، اي لما بعد الثورة. ان احد الاسباب الاخری لهذه المسالة کان غياب الاستعداد النظري بالنسبة للعنصر المتقدم من الطبقة في هذه الثورة والذي ادى الي عدم اکمال واجبها بشکل متکامل. کما يقول منصور حکمت اذ لم يتم اثارة اي جدل اساسي قبل ثورة 1917 يتم فيه توضيح اقتصاد مجتمع ما بعد الثورة. کما لم تحدد الرؤية الدقيقة للبروليتاريا حول الاقتصاد بشکل ملموس، کما لم تناقش بمثل تلك الهمة التي نوقشت بها و فصلت نظراتها السياسية.
ان الاشتراکية الديموقراطية الروسية کانت لديها السمات الاساسية العامة حول الغاء الملکية الخاصة و احلال التخطيط المرکزي الاقتصادي، مرکزة الانتاج وتطور القوی المنتجة، انتقادها للراسمالية فيما يخص مسالة فوضی الانتاج، تؤمن بان بمعونة التخطيط، يمکن وضح حدا لهذه الفوضی. ان رسم تمايز العامل و الاشتراکية الديموقراطية الروسية لم يتم بدقة عن الافق الاقتصادي للبرجوازية الروسية، وبقيت اوجه مشترکة عديدة في الافاق الاقتصادية للبرجوازية وللبروليتاريا علی حالها.
ومن جانب اخر يقول منصور حکمت : دفعت اللينينة و البلشفية الطبقة العاملة الي الميدان کقوة مستقلة بالضد من کلا من البرجوازية و القيصرية. وقد تحققت هذه الاستقلالية الطبقية بوضوح في مسالة السلطة السياسية و حتی في مسالة بنية جهاز الدولة، و اصبحت سمة عضوية و راسخة للحرکة البروليتارية الروسية. و سمحت تلك الاستقلالية الکبيرة للعمال الروس، في ظل قيادة البلاشفة، ان تعطل الخطط من اجل التطور البرجوازي الديموقراطي للابنية الفوقية السياسية و الرسمية في روسيا، لاقامة سلطة العمال المستقلة عبر الثورة البروليتارية. بيد ان الطموحات الشعبوية لتجاوز تخلف الاقتصادي الروسي القومي و الافکار الاقتصادية المبتورة السائدة في الاشتراکية العمالية العالمية حرمت الطبقة العاملة وحزبها الطليعي، الحزب البلشفي، في اکثر مراحل الثورة الروسية حسما، من تشکيل افقها المستقل حول القضية الاساسية للمجتمع الروسي، اي نمط الانتاج الاجتماعي و التطور الاقتصادي. (اصبحت الثورة ضحية التشوش الحاصل في اهدافها الاقتصادية). لم يمثل هذه التشوش معضلة فکرية او نظرية فحسب، بل واقعا اجتماعيا. فيما لم يستقطب المجتمع الروسي بشکل کاف حول الافق الاقتصادي لتطوره. حيث تقهقر الحزب العمالي الذي يفتقد الي الرؤية واضعة للتحويل الثوري لعلاقات الانتاج، والذي يعاني وطاة الضغوطات الاقتصادية و السياسية للمجتمع الراسمالي عالميا و محليا، الي الارضية المشترکة للموافقة الاقتصادية مع تطلعات البرجوازية. وحل بدلا من التحويل الثوري للنظام الراسمالي، اصلاحه عبر توسيع ملکية و تخطيط الدولة لغرض تراکم رؤوس الاموال و تقسيـم العمل. ونظرا لعدم تخطيها هذه المرحلة، سمحت ثورة العمال بسلب مجمل مکتسباتها تدريجيا مرة اخری تحت ضغط وقائع الاقتصاد البرجوازي وحاجاته. وقد غابت اللينينة و الاستقلالية الطبقية للبروليتاريا في کل جبهه و معرکة في الوقت الذي کان يحسم فيه مستقبل النظام الاقتصادي للمجتمع الروسي. فقد کان الشعار ( الاشتراکية فه‌ بلد واحد) راية لتقهقرها لصالح الاقتصاد البرجوازي-القومي في روسيا. الراية التي يعود سبب رفعها، علی وجه الدقة، الي غياب الراية اللينينية لبناء الاشتراکية في روسيا كارقی نظام اقتصادي يستند الي الملکية العامة و الغاء العمل الماجور.
(تجربة ثورة العمال في الاتحاد السوفيتي)
و الجدير بالذکر بان الافق التصنيعي و القومي للبرجوازية الروسية، والاتجاه القومي لفکرة ستالين غطى البرنامج الاقتصادي السوفيتي مابين 1924-1928، و تراجع قطب الشيوعي العمالي داخل التيار الاشتراکي امام الافق والسياسات القومية . وکان ذلك البرنامج بمثابة انتهاء الثورة، حيث انتهت حصيلة الثورة، اقتصاديا ، الي مجرد فرض اصلاحات معينة علی تطور الراسمالية في الاتحاد السوفيتي دون القيام بالتحويل الاشتراکي.
ان نقطة اخری مهمة للغاية ، کانت الثورة تحت تاثير مباشر للنتاج النظري للاممية الثانية ويتمثل بتقليص مفهوم الاشتراکية، اي الملکية العامة والغاء العمل الماجور، الى ملکية و اقتصاد الدولة. وحسب تعريف مارکس للاشتراکية ان ملکية و اقتصاد الدولة لا يعادلان الاشتراکية . ويعتبر مارکس انتاج فائض القيمة الاساس الراسمالي لاستغلالها. وفي هذه العملية تتحول قوة العمل الي بضاعة وسيادة العمل الماجور. وان الغاء الملکية الراسمالية والعمل الماجور وارساء الملکية العامة لادوات الانتاج عاملا وحيدا لانهاء الاستغلال و بناء المجتمع الاشتراکي.
ان کثيرون من قادة الثورة مؤمنين بان امکانية بناء الاشتراکية و الغاء الملکية البرجوازية و اقامة الملکية العامة مرهونة بالامکانات الصناعية. يقول منصور حکمت ان هذه النظرة تناقض روح البيان الشيوعي و جوهر الايدولوجيا الالمانية. ففي المؤلف الاخير، ثبت مارکس عصر الهيمنة الراسمالية کانه امر مفروغ منه ، اعلن امکانية بناء الاشتراکية قبل ستين عام من انکار زينوفيف لهذه الامکانية في روسيا. و تمثل مثل هذه النظرة داروينية اجتماعية وحتمية اقتصادية مبتذلة ترفض ملاحظة القوة الفعلية للبروليتاريا الثورية، و التي، بدلا من ذلك، تولي الاهتمام لمستوی القوی المنتجة و التطور الصناعي بوصفه ضوء اخضر لاحلال الاشتراکية.
(تجربة ثورة العمال في الاتحاد السوفيتي، منصور حکمت )
ذکرنا فيما يخص مسالة "الاشتراکية في بلد واحد" و مسالة التحويل الاقتصادي للمجتمع تحت قيادة ديکتاتورية البروليتارية، ان هذه مسالة حسمت من قبل ستالين في نهاية العشرينيات. بيد ان هذه مسالة تحتاج توضيح اكثر، يقول منصور حکمت : من الضروري ان نشير ، في المسالة (الاشتراکية في بلد واحد) بوضوح الي العديد من النقاط:
اولا، براينا، نظريا، وبغض النظر عن مسالة الاتحاد السوفيتي . ان اقامة الاشتراکية في بلد واحد، اي اقامة العلاقات التي تستند الي الملکية العامة و الغاء العمل الماجور، اي ما تصوره مارکس ان تکون الخطوط العامة للمرحلة الدنيا من الشيوعية، هي امر ممکن جدا. ليس ذلك وحسب، بل انه اساسي لتحديد مصير الثورة العمالية. لهذا تعتبر اقامة الاشتراکية المهمة المباشرة و الحيوية لکل طبقة عاملة تنجح في انتزاع السلطة السياسية في بلد ما. وتعتبر تلك النظرات مرفوضة و غير مارکسية تلک التي تشطب، ولاي سبب سواء اکان ( ضرورة الثورة العمالية) او ( تخلف روسيا) ام ( التمايز مع الستالينية و النزعة القومية) وغيرها، من جدول اعمال البروليتاريا التي‌ استلمت السلطة في بلد واحد ما مهمة ارساء الاقتصاد الاشتراکي الذي يستند الي الملکية العامة و الغاء العمل الماجور و تقوم بتاجيله الي مرحلة اخری.
ثانيا، براينا ان التمايز الذي حدده مارکس بين کلا المرحلتين من الشيوعية جلي و صحيح جدا و الذي يخص مباشرة المهام الاقتصادية لديکتاتورية البروليتاريا. نحن لا نعتبر الشيوعية ( المرحلة العليا) امرا ممکنا في بلد بمفرده. و يتمثل السبب في ان السمات المميزة الاساسية لهذه المرحلة و التي هي: الوفرة الاقتصادية، التطور الهائل لقوی الانتاج، التثوير الاساسي لمکانة الانسان في المجتمع و معها التحويل الجذري لقوانين الاخلاق القائمة، اضمحلال الدولة .... و غيرها هي ظروف لا نعتقد بامکانية تحقيقها داخل حدود اي بلد معين. علی سبيل مثال، مادامت الحدود القومية قائمة و ضرورة وجود خطوط فاصلة بين المجتمعات الاشتراکية و الراسمالية، لا يعتبر اضمحلال الدولة مسالة عملية، ولکن الاشتراکية، کمرحلة دنيا من الشيوعية ، ليست عملية ممکنة فحسب، بل ضرورية کما قلنا.
ثالثا، علينا ان نؤکد علی کون شعار( الاشتراکية في بلد واحد) في المجادلات الاقتصادية التي جرت اواسط العشرينيات داخل الحزب البلشفي، الاطار و الراية لتصاعد النزعة القومية البرجوازية بالمعنی الذي اشرنا اليه سابقا، ذلك انه يمثل الراية لسيادة البديل البرجوازي لتطور المجتمع في ميدان الانتاج انحراف، و مع ذلك فان( الاشتراکية في بلد واحد) راية حرکة معينة، في فترة معينة، و في مجتمع معين کانت الشاخص للحرکة الضخمة المناوئة للعمال و دليل توقف الثورة الروسية و هزيمتها. نحن نشجب هذه الحرکة کرافعة لواء البديل البرجوازي في المجتمع الروسي. قبالة هذه التيارات، احتمی خصومها، الذين لاحظوا بوضوح اعادة احياء النزعة البرجوازية القومية تحت هذه الراية، بفکرة ( الثورة العالمية)، و يطرح هذا الاصطفاف نقاط تسرعي الانتباه. فمن الجدير بالذکر والملاحظة اشتراك کل من عصبة ستالين و المعارضة، علی الرغم من اختلافهما، باسس مشترکة مهمة جدا. ففي المرتبة الاولی، لا يترکز، في الواقع، الاختلاف في الراي علی کلمة" الاشتراکية"، بل علی عبارة "في بلد واحد" مما يشير الى ان صيغة"الاشراکية" بالنسبة للمعارضة لا تختلف في صيغتها عن تلك التي يتبناها الخط الرسمي لستالين.
(تجربة ثورة العمال في الاتحاد السوفيتي، منصور حکمت )
و في الختام، اود ان اقول ان ثورة اکتوبر کانت ثورة عمالية عظيمة ، وکانت ثمرة النضال الطويل للحرکة الشيوعية العمالية، لکن في المطاف الاخير واجهت هزيمة مريرة علی ايدي البرجوازية بعد سنوات قليلة. كما ان التجربة السوفيتية بمجملها، کانت اختبارا غير موفق لثورة اکتوبر العمالية. تمکنت الثورة من انتزاع السلطة السياسية من يد البرجوازية و الانتصار علی المساعي السياسية و الاقتصادية المباشرة التي بذلتها الطبقات الحاکمة في روسيا لاعادة النظام القديم. الا انه عند هذه المرحلة و ما تلاها اصبح مصير الثورة العمالية مرتبطا ارتباطا مباشرا بالتغير الثوري للعلاقات الاقتصادية القائمة و بتطبيق البرامج الاقتصادي الاشتراکي للطبقة العاملة، وفي هذا يكمن تخلف الثورة الروسية عن الاستمرار في تقدمها فقد حلت سيطرة الدولة علی الراسمال وملکية الدولة لوسائل الانتاج محل قضية تشريک جميع وسائل الانتاج و تحويلها الي ملکية جماعية للمواطنين. و بقيت الاجور، العمل الماجور، النقد، القيمة التبادلية، و انفصال الطبقة العاملة المنتجة عن وسائل الانتاج علی حالها. و لهؤلاء الذين يحللون فشل الثورة اکتوبر من زوايا البنية الفوقية، کمسالة عدم وجود الديموقراطية او الحرية و وجود الديکتاتورية والفردية الستالينية ..... الخ ، ليسوا مدرکين تماما للاشتراکية کنظام اقتصادي معين، فيما ان النظام السياسي للاتحاد السوفيتي کان بناء فوقيا سياسيا و حقوقيا لنظام الاقتصادي معين لم تکن له‌ صلة بالاشتراکية او شيوعية مارکس و لينين . وان هٶلاء الذين يدافعون عنها على كونها ثورة اشتراکية، فانهم يدللون على ان فهمهم و تفسيرهم مختلف تماما عن فهم مارکس عن الاشتراکية.