وداعا الرفيق أبراهام السرفاتي


عذري مازغ
2010 / 11 / 19 - 23:52     

كم يعز علينا فراقك يا صديق العمال، أبراهام السرفاتي، ذلك الرجل المارد، الجبل الشامخ الذي صمد في وجه المتاعب، في وجه العواصف، رفيق الزنازن والسجون المغربية، وصوتها المجلجل في نفس الوقت، الذي ضحى بكل حياته في سبيل كرامة هذا الوطن، الرجل الذي أبى أن يساوم في وطنيته، الرجل الذي لم تغريه عباءة الصهيونية، ولا أغراه مجرد الصمت، كان الرفيق أبراهام، في الوقت الذي كان الكثير من جيله قد باعوا وارتشيوا وخانوا رفاقا لهم من نفس الدرب، بالصمت وحده كان أبراهام سيتربع على مجد هذه الكائنات التي باتت تستحم في حيض السياسة الوطنية، على مجد هؤولاء القادة التاريخيين لمغرب الخيانات، بالصمت وحده كان أبراهام سينتهي كما انتهت، منذ زمن طويل حياة هذه المخلوقات التي مازالت بحنكتها التي تبعث فينا التقزز، تجر قاطرة المغرب إلى زمن رجعي لا ينتهي، لترفع فخرا انتماءها التاريخي، إلى نجاسة العصور المظلمة، لكنك يارفيق العمال، رفضت أن تصمت كما رفضت أن يصمت فيك ضمير الوطن، لقد رفضت ذلك وظل تاريخ المغرب يصرخ فينا، وسيظل صراخك حيا فينا وأنت تغادرنا في صمت آخر رهيب، صمت آخر غير صمت المزابل التاريخية، صمت الرفيق الذي يغادر دون رجعة، صمت الوداع الأخير...
كنا مازلنا نناضل في مناجم جبل عوام عندما وصلتنا أصداء عودتك من المنفى، وكنا جموعا من العمال المطرودين الذين لايعرفون عن أبراهام سوى أنه رجل سياسي خطير، لقد وصلتنا للتو أخبار تصريحاتك الصحفية الأولى عند درج الطائرة التي نقلتك والتي أبشرت بزيارة المواقع الدينامية الحية في المغرب، ومن الوهلة الأولى لم تكن خطاب المساومة والتسوية السياسية، كانت واضحة وضوح الشمس، كانت أصداؤها محرجة للكثير ممن ساوموا في المنفى على العودة، ولم نسمع عنهم بعد عودتهم، سوى أصداء الصمت المزبلي، قليلون منهم من ماتوا بكرامة، أما الكثير منهم، فقد ساوموا تجربتهم التاريخية، فما أصعب أن تضرب تجربتك التاريخية في الصفر المطلق كما يقول الفيزيائيون، أن تقول ببساطة: كل ما فعلته كان خطئا عظيما، فيا لها من ورطة تضرب تجارب الإنسان في الصفر المطلق، كانت تصريحاتك محرجة أيضا حتى للذين تسيسوا بالفطرة في مغرب ترفض نقاباته السياسة، كانت محرجة لنا نحن الذين قاومنا بكل الأشكال: من مخيم اعتصام إلى مسيرات عارمة إلى إضرابات عن الطعام ثم، وبعد أن استنفذنا كل الأشكال النضالية اعتصامات بطولية في أنفاق بمئات الأمتار تحت الأرض، كنا نسمي كل هذا المجهود الخارق، عملا نقابيا محضا، وكنا في الحقيقة وفي عمق أعماقنا نعي أنه عمل سياسي جبار في الوقت الذي تداعت كل الأقلام الصفراء تنعت العمال بالزهوانيين الجنسيين، والفوضويين، وكل أشكال النعوت القدحية، فكيف إذن لعمال سذج أن يستقبلوا رجلا سياسيا خطيرا وهم ليسوا سياسيين؟؟
لازلت أتذكر تلك الزيارة بكل تفاصيلها، بكل تناقضاتها، بكل خبثها السياسي أيضا، ولا زلت أتذكر شهادتك الصريحة والواضحة في ذلك اللقاء والتي اختزلت فيها كل هذه التناقضات: «عمال المناجم وعمال البحار هم أذكى الطبقات العمالية ».
كانت كلمة تختزل كل المكر السياسي فينا، وعندها فقط تعلمنا اننا نمارس السياسة، حين نطالب باحتلال المنجم مادام سيناريو الشركة المتعددة الجنسيات تمارس مكرا آخر معنا، تعلمنا في ذلك اليوم وحده فلسفة الدرهم الرمزي في سيناريو إفلاس شركة عملاقة، وتعلمنا أننا كنا نمارس السياسة حين طالبنا بإلحاح أن نستغل المناجم مادام أصحابها يبيعونها بدرهم رمزي. تعلمنا أيضا أننا نستطيع أن نستقبل رجلا خطيرا مثلك وننسى صخب التحذيرات.
لازلت أيضا أتذكر ذلك الحوار الذي دار بيني وبينك حول العمل المنجمي، حوار المنجميين بالتحديد، حوار الدعابة المتمفصلة حول الشغل والتي يتقنها كل المنجميين، بلغة الوطن، أتذكر جيدا لغتك المغربية ذات اللكنة الشالومية، لغة مفعمة بجبل من التاريخ، الذي لا يمكن أن يحمله إلا رجل مارد من طينتك.
في ذلك اللقاء كانت وفود كثيرة قد أقبلت على القرية المنجمية لملاقاتك، رفاق من الأمام، وآخرون من كل الطيف اليساري، وكانت أسئلتهم المتدفقة تحوم حول مستقبلك السياسي، وكثيرون منهم كانوا يؤاخذونك على مواقفك التي صاحبت عودتك، من تمجيد العهد الجديد وما إلى ذلك من افكار تفتح نافذة الأمل في العهد الجديد، وأتذكر أنك قلت ما معناه: لقد هرمت ووضعي الصحي لا يسمح لي بالعمل السياسي، ومن حقي أن أرتاح قليلا فيما تبقى من عمري.
كانت فلسفة وعبرة للذين يتمسكون بالقيادة إلى أن يرحلوا، أولئك الذين لا يشعرون بوطأتهم الباهظة على دماغ هذه الأجيال الجديدة، فتحية لروحك القدس وعزاء كبير لرفيقة العمر كريستينا التي تركتها لوحدها تجر ربيعها لسنوات أخرى في الثمانين.