بحث ماركسي جديد لعالم اليوم


حمودي عبد محسن
2010 / 11 / 12 - 00:31     

بحث ماركسي جديد لعالم اليوم
العالم في تغير ، واشتراكية البلدان السابقة انهارت ، بل انهزمت بتجربتها ، فقد رفضتها شعوبها ، ولو أرادتها لقاومت الانهيار ، ودافعت عنها ، وكذلك تغيرت خارطتها السياسية ، وتداعت الأممية التي وحدت شعوبها بمختلف القوميات ، وتنوع الأديان واللغات ، فنشبت الحروب من منطلق وطني أو قومي ، وراح ضحيتها عشرات الآلاف من مواطنيها ، فسقطت الأيديولوجية بفعل تصاعد الصراع الدموي ، أنها تجربة مؤلمة لسبعين عاما منذ ثورة أكتوبر عام 1917 ، فانطلقت العولمة الرأسمالية بنظرياتها بنهاية التاريخ ، وإعلان انتصارها المزيف بأن التاريخ توج بالرأسمالية ، فلم تعد هناك أيديولوجية اشتراكية تنافسها ، وإن تشكيلتها الرأسمالية لن تتحول إلى الاشتراكية ، لن تتحول إلى نظام العدالة والمساواة ، والقضاء على الاستغلال ، لذا لابد أن تصدر تجربتها إلى البلدان ، وتشيع النظام الرأسمالي العالمي ، أن تقام الديمقراطيات ، وتسود حقوق الإنسان ، لكن هذه الدعوة المنمقة التي زخرفها الكثير من الماركسيين المرتدين لابسي قناع التجديد النظري سرعان ما كشفت خداعها في عمر قصير بعد أن كشفت الرأسمالية عن وحشيتها في القتل والتدمير والغزو والاحتلال ، لتكون في لباس الكولونيالية الجديدة . في هذه المرحلة الحرجة الجديدة من تاريخ البشرية تطلب من الماركسي الحقيقي أن يعد خطابا فكريا – سياسيا يتناسب ، ويتامى مع التغير والتطورات ، في رؤية جديدة إلى العالم الذي نعيش فيه سوية رغم اختلاف الانتماء ، وهذا ما جسده الباحث لطفي حاتم بإصداره الرابع الموسوم بعنوان ( موضوعات في الفكر السياسي المعاصر ) الصادر عن الأكاديمية العربية المفتوحة في الدنمارك أواخر عام 2010 ، وبحثه هذا يعتبر جهدا كبيرا في الموقف النظري ، وتفتحا جديدا لطرح آراء جديدة حول عالمنا المعاصر ، ومصيره في المتغيرات الفكرية ، والأسس الأيديولوجية التي تعصف بالمناقشة اليوم ، خاصة تلك التي تدعو إلى تحرير الإنسان من الاستغلال ، وتحرير بيئته من الدمار ، في ظل الفوضى ، والنزاعات ، والحروب ، والتفاوت الطبقي ، لاسيما إن العولمة الرأسمالية عبرت حدود الأوطان ، والقوميات ، وما أفرزته من اضطرابات حادة في السياسة والاقتصاد ، وانحدارات شديدة في المجتمعات ، ومحاولات جدية لإعادة رسم خارطة العالم ، وترادف هذا مع تنوع أشكال أوجه النضال بما فيه الثوري للعمال والفلاحين ، وعموم الجماهير الكادحة في البلدان النامية أو الرأسمالية ، أو متوسطة النمو . هذا الكتاب يتألف من فصلين ، ولكل فصل مبحثين ، إضافة إلى التمهيد والمقدمة والهوامش ، وبديلا عن الخاتمة ، يقع في مئة وواحد سبعين صفحة من الحجم الكبير .
هنا لابد أن نتوقف عند كل مبحث ، ونلقي الضوء عليه ليتسنى للقارئ أن يلم بمحتوى الكتاب :
المبحث الأول :
يتطرق الباحث في هذا المبحث إلى انهيار الاشتراكية ، ودور العولمة الرأسمالية المرتكزة على الأسواق الحرة ، وكذلك دور الليبرالية الجديدة المستمدة نظرياتها من زيف نهاية التاريخ المتوج بسيادة الرأسمالية كأيديولوجية ، وكبناء اجتماعي – اقتصادي ، إلا أن الباحث يكشف حقيقة الرأسمالية المتجددة في الاستغلال ، والنهب لموارد البلدان بالسلم والحرب ، ويعري نزعاتها الكونية ، وشعاراتها البراقة الكاذبة لتضليل الشعوب ، ومحاولاتها في تصدير الديمقراطية الأمريكية لبلدان الشرق الأوسط ، خاصة العربية ، ويدحر أيضا المفاهيم الفكرية لليبرالية الجديدة في صراع وتصادم الحضارات ، والدعوة لتوحيد العالم رأسماليا ، ووحدانية خيار التطور الرأسمالي بغية الحفاظ على مصالح الشركات الاحتكارية ، ويقدم الباحث دراسة نقدية لمراجعة التاريخ ، وانهيار الاشتراكية ، ومجمل الماضي القديم ، ويركز على قضايا مثيرة للجدل منها : إضعاف السيادة الوطنية بالتبعية الاقتصادية للرأسمالية ، والتدخل المباشر في شؤون البلدان ، والغزو والاحتلال ، التي أطلق على محتواها بالكولنيالية الجديدة التي تستخدم قوتها العسكرية للسيطرة على العالم .
ويتناول في هذا المبحث أيضا التيارات الفكرية المتعددة ذات التوجه الاشتراكي أو الرأسمالي ، ويناقش نزعاتها ، وصراعاتها ، التي لم تقدم رؤية واضحة لتوجه البشرية ، ومصير وجودها .
ويتوقف بإمعان عند الليبرالية العربية ، والقوى البيروقراطية ومميزاتها ومصالحها الآنية واللاحقة ، وطبيعة سماتها الأساسية ، وكذلك طبيعة علاقتها بالرأسمال العالمي ، وتمسكها بالسلطة السياسية .
وقد توصل بعد مراجعة تاريخية إلى نتيجة مفادها : ( أن الليبرالية الجديدة لا إنسانية في روحها ، تتشح بالروح الانقلابية وحرق المراحل لتغير العالم بعيدا عن تنوع تشكيلاته الاجتماعية ومستويات تطوره وتعدد ثقافاته الأمر الذي يهدد العالم بحروب ونزاعات متواصلة تحمل التدمير والخراب للمجتمعات الإنسانية ) .
ويتحدث الباحث في هذا المبحث عن أزمة الفكر الاشتراكي وانحساره ، ودور الأحزاب الشيوعية في بلدان الاشتراكية السابقة ، والحركة الشيوعية وتراجعها ، وكذلك تراجع يسار الحركة الديمقراطية ، وبروز تيارات يسارية جديدة ذات برامج واتجاهات فكرية تحظى بالاهتمام .
ويدعو المفكرين الماركسيين إلى تعميق الرؤية الشمولية النقدية لمراجعة التاريخ ، والمضي في خطاب نقدي فكري شامل للتصدي لزيف العولمة الرأسمالية في المرحلة الجديدة من التطور البشري .

المبحث الثاني :
في هذا المبحث يتطرق الباحث إلى طبيعة التوسع الرأسمالي ، وتغير وظائف دولته في المرحلة الجديدة التي لم تتخل الرأسمالية عن نزعتها القديمة في السياسة الحربية ، وتحول دولتها إلى خاضعة للشركات الاحتكارية العالمية ، هذه الشركات التي تفرض شروطها وأهدافها في كينونة الدولة ، لتكون أداة متحركة تلبي مطالب الشركات الاحتكارية بما فيها استخدام القمع للقضاء على التوترات الاجتماعية ، والتدخل في شؤون البلدان عبر مؤسساتها العسكرية والمخاراتية ، وأجندتها المنتشرة في أرجاء العالم بأوجه مختلفة كمكافحة الإرهاب ، وتهريب المخدرات ، وهنا يتحدث عن النزعة الهجومية للدولة الامبريالية ، وحق استخدام القوة من خلال معاهدات واتفاقيات أمنية ، وأيضا يتحدث عن الشركات الأمنية وانتشارها في البلدان ، وتمارس وظائفها في الحفاظ على أهداف الشركات الاحتكارية التي ظهرت بشكل جلي بعد حرب الخليج الثانية واحتلال العراق ، ويتطرق بإسهاب إلى وظائف الدولة الامبريالية وخصائصها الجديدة ، وكذلك التغيرات التي حدثت في بنيتها والتداخل والتشابك بين مهامها لفرض التطور الرأسمالي في البلدان النامية . ويهتم بتحليل واقع الصراع الطبقي من مفهومه التاريخي ، وتغير مضامينه عبر طبيعة التناقضات داخل المجتمع ، وما يفرزه الواقع الجديد ، والطور الجديد من تطور الرأسمالية ، وهنا يدعو إلى صياغة رؤية نقدية لمجمل المفاهيم في هذا الجانب بغية إغناء الماركسية ، بالرغم من أن الباحث قدم رؤيته الخاصة في مفهوم الصراع الطبقي ، وتوصل إلى استنتاجات قيمة .

في هذا المبحث يتوقف عند العولمة الرأسمالية والقضية القومية بشكل واسع ، ويتابع تطور مفهوم القومية الذي أرست نشوئه من خلال العلاقات الاقتصادية الرأسمالية ، وتدرج من موجة أولى إلى ثانية ، ثم ثالثة ، والتي فجرت حربين عالميتين : الأولى ، والثانية ، ويتوقف عند الموجة الثالثة بإسهاب ، ودور العولمة الرأسمالية في إرسائها على أسس رأسمالية ، وتوحيدها مع الاقتصاد العالمي .
ويبدي وجهة نظره بقضية حق تقرير المصير ، وارتباطه بالسيادة الوطنية ، والكيانات القومية التي تسعي إلى استقطابها وفق مصالحها ، وتوجهاتها ، إلا أنها في نفس الوقت تتنامى حركات اجتماعية لمناهضة العولمة الرأسمالية ، لا سيما في إيران ذات التوجه الإسلامي بنزعة القومية الفارسية ، وكذلك النزعة القومية التركية ، وهنا يسهب الباحث في معالجة القضية العربية ، ويتحدث عن تراجع الفكر القومي العربي في بناء الدولة العربية الموحدة ، التي كرست جهودها للخصوصية القطرية ، وسيادة الدولة المركزية ، وتعرض أيضا إلى القضية الفلسطينية ، وتدويلها ، وقيام الدولة العبرية ذات النزعات التوسعية . ويتطرق إلى تداعيات العلاقات بين الدول العربية ، والفارسية ، والتركية ، والعبرية .

يستمر الباحث برؤيته إلى السلطة السياسية أي سلطة الدولة ، ويتعرض إلى المفهوم الماركسي لها والليبرالي ، وماهية الفروقات بينهما ، وكذلك يتناول الباعث التاريخي لنشوئها ، خاصة الدولة القطرية ، ثم دولة التحرر الوطني ، ويبحث في توجهات العولمة الرأسمالية لإقامة الدولة التابعة لمصالحها الاقتصادية الفاقدة للسيادة الوطنية ، وتفكيك البنية الاجتماعية للدولة القطرية بغية الهيمنة على نفوس البشر ، فيتميز بحثه في طبيعة الدولة الاستبدادية ، وينحصر في الدولة العراقية كمثال لأهمية هذا البلد في موقعه ، وموارده النفطية ، وتاريخه الحافل بالنضال الجماهيري ، وكونه منبع الحضارة البشرية الأولى ، ويتعرض اليوم للاحتلال الأمريكي ، وشهد أبشع دكتاتورية في التاريخ ، ويعطي مفهوما متميزا الذي يطلق عليه – آليات – وهي آليات الدولة الاستبدادية سواء كانت إرهابية ( سياسية ) أو اقتصادية أو اجتماعية .
في المطلب الثالث من هذا المبحث يتطرق إلى الفكر الاشتراكي في هذه المرحلة من التوسع الرأسمالي ، ويصوغ رؤيته التي يطلق عليها اليسار الاشتراكي ، ومضامينها الفكرية السياسية التي جعلها في مراحل ثلاث : الأولى – مرحلة التحرر الوطني ، الثانية مرحلة السيادة الوطنية ، المرحلة الثالثة – المرحلة الراهنة من العولمة . وهذه المراجعة التاريخية تحتاج إلى وقفة جدية من الباحثين والمفكرين الماركسيين ليسهموا في معالجتها على المستوى الايدولوجي والسياسي لما تتمتع من أهمية لتجاوز حالة الركود الفكري التي عبر عنها الباحث .

بديلا من الخاتمة :
يتطرق الباحث هنا إلى الاحتلال الأمريكي للعراق ، وما أثاره من تساؤلات كثيرة ، ونتائج سياسية مرتقبة في المنطقة ، وما تتوخى منها العولمة الرأسمالية ، وتحدث أيضا عن التكتلات الاقتصادية ، والنهضة الأسيوية كما سماها ، وازدواجية الهيمنة في هذه المرحلة الانتقالية ، ومصير البلدان والشعوب، ومصير كوكبنا البشري .

هذا الكتاب هو اجتهاد ذاتي ، وبحث متميز في الفكر والسياسة ، يغني المعرفة ، ويضفي معلومات مهمة في السجال الدائر بين الماركسيين ، فيه نظرة متجددة لعالم اليوم ، قد يجيب على الكثير من التساؤلات التي تهم المفكرين والمناضلين ضد الوحشية الامبريالية ، هؤلاء المناضلين الذين يسعون إلى التحرر من التبعية الظالمة للرأسمالية ليسود العالم السلام ، وليقام المجتمع العادل الخالي من الاستغلال ، مجتمع الحرية والإخاء بين الشعوب.
هذا الكتاب لمؤلف رمته سلطة الاستبداد في سجن نقرة السلمان الرهيب ، وهو صبي يافع يدافع عن الفقراء والكادحين ، ويرسم في مخيلته هذا الكون الجميل الذي يجب أن يعيش عليه البشر بتآلف دون استغلال ، لذلك واصل نضاله في السجن ، فقرأ لماركس ولفلاسفة ولثوريين ضد الظلم والإرهاب ، وقرأ الأدب العالمي من رواية وقصة وشعر ، قرأ وتعلم وناضل ، وهو يحلم في تحرير الإنسان ، وواصل نضاله خارج السجن لينضم إلى رتل رفاقه في كردستان ، يواصل النضال ضد أبشع دكتاتورية ، تصاحبه زوجته النبيلة الكريمة ، وطفلته المحبوبة ، لم ينزع ردائه مثل الماركسيين النفعيين والانتهازيين والمتصلقيين ، ولم يتخل عن هموم شعبه ، ولا عن نضال ثوري العالم ، بل تمسك بماركسيته مجتهدا في الدراسة والبحث ليقدم من خبرة وتجربة نضاله الطويل التي استمرت خمسين عاما ، ومن جهده الفكري استنتاجات تفهم وتفسر وتحلل ما آلت إليه البشرية ، فهو منشغل اليوم في صياغة الواقع الذي يشارك مع المثقفين في رسم حقائقه وتحليلها وتكوين أراء مساهمة في تقيم هذا الواقع من خلال المعرفة النضالية والنظرية ليخوض صراعا من أجل الحرية والمساواة والعدالة ومكافحة الظلم وقهر الشعوب ، فالباحث غير متفرج أو مراقب أو معزول عما يجري في واقع اليوم ، أنه منهمك في قول الحقيقة بوجه المرتدين عن قضايا الجماهير الواسعة ، وهو هذا المحفز الوحيد له لخوض الصراع الفكري ، فهو يتحدى بكتاباته التقاليد السائدة في العبودية للأيديولوجية الجامدة ، فهو باحث وناقد لا يغريه الخداع الفكري أو الصمت أو التسوية السياسية ، فخياره أن يقول الحقيقة بنزاهة ، بصراحة ، بحرية ، ليكون ناقدا واقعيا في عالم اليوم المليء بالإغراءات البرجوازية لكسب المثقف إلى جانبها ضد الشعوب المقهورة كما فعل الكثير من المثقفين للاصطفاف إلى جانب العولمة الرأسمالية ، وأيدوا الاحتلال من أجل المال والمناصب والسلطة ، فسقطوا أخلاقيا أمام شعوبهم ، وصاروا هامشيين في مجتمعاتهم ، هذا الهجر والانسلاخ من الفكر النبيل لم يعرفه الباحث لأنه تخرج من مدرسة نضال الكادحين والفقراء . هكذا كون الباحث شخصيته ، وحضوره في الفكر والسياسة بالدفاع الجريء تجاه الشعوب المقهورة والمضطهدة .
لهذا أتوقف عند بعض النقاط الأساسية التي تمس هذا الكتاب ، علها – تسهم في تفاقم النقاش والحوار والجدل حول مواضيع تخص الماركسية ، ونضال الماركسيين :
أولا : ما أراده ماركس :
إن فلسفة ماركس ارتبطت بالتغير بشطريها المادي التاريخي والمادي الديالكتيكي سواء كان ذلك يخص الكون أي الطبيعة أو المجتمعات البشرية ، بفعل صراعات وتناقضات تارة محتدمة وتارة خافتة ، ولابد أن تصل إلى ذروتها بفعل عوامل موضوعية وذاتية أو خارجية وداخلية ، وتحمل عناصرها في أحشاء الواقع الذي بفعل تفاعلاته المتصارعة تؤدي إلى ولادة جديدة على أنقاض القديم أي أنها الحركة المتوترة سواء كانت داخل المادة أو المجتمع التي تغلي للانفجار أو الثورة ، فكل شيء متغير غير ساكن ، فالجديد يصبح تقدميا على أنقاض القديم الذي يصبح رجعيا ، ولا يمكن الرجوع إليه ، كما حدث في التشكيلات الاجتماعية كالتحول من المشاعية البدائية إلى العبودية ، فالإقطاعية ، فالرأسمالية ، فثورة سبارتاكوس لم تكن إلا غليان داخل المجتمع العبودي ، والثورة الفرنسية عام 1789 لم تكن أيضا إلا زلزال لتقويض أركان مجتمع قديم ، ما زالت البشرية لم تحقق شعاراتها بالرغم من مرور أكثر من مائتين عاما على اندلاعها . فالحركة والتغير ليست إرادوية بفعل فرد أو جماعة أو حزب ، إنها حتمية شمولية ، تؤدي إلى زوال القديم . وقد اعتمد ماركس في جدله هذا على جذور الفلسفة الألمانية ، والاقتصاد السياسي الانكليزي ، والاشتراكية الطوباوية الفرنسية ، لتكتسب الماركسية حقيقتها ووحدتها في النظرة إلى العالم ، ومصيره .وقد حدد ماركس أيضا القوى الثورية التي تسهم في التغير ، ففي المجتمع الرأسمالي الذي ينقسم إلى طبقتين أساسيتين ، والقائم على الاستغلال تكون الطبقة العاملة ( الأكثرية ) هي الثورية في التغير ، فهي تبيع قدرة عملها إلى الرأسمالية ( الأقلية ) ذات الثراء ، وصاحبة الثروات الضخمة ، وكذلك غير مالكة لوسائل الإنتاج ، تنتابها الفاقة ، ومهددة أن تفقد عملها ، وتدفع ثمن الأزمة الاقتصادية ، فهي حفارة قبر الرأسمالية كما وصفها ماركس ، لذلك فالطبقة العاملة والرأسمالية نقيضان متصارعان متناحران على الدوام ، فهنا توجد حركة الصراع بين الطبقتين ، التي تؤدي بالضرورة إلى التغير وإلغاء الاستغلال الذي تقوده الطبقة العاملة بفعل ثوريتها ، وهذا الاكتشاف الماركسي قابل للتطوير ، إذ لا يمكن مقارنة الزمن بين إصدار البيان الشيوعي عام 1848 ، والوقت الحاضر الذي يشهد أكبر ثورة تقدمية وهو الانترنيت ، فجوهر الماركسية يمكن إيجازه بالنقاط الآتية :
1 –الماركسية ثورية تاريخية ... فقد سخرها لينين في ثورة أكتوبر عام 1917 بالرغم من ملاحظات بليخانوف على طبيعة الثورة ، وكذلك روزا لكسمبورغ ، إلا أن هذه الثورة التي حررت ملايين الروس من الفقر المدقع لا يمكن شطبها من التاريخ ، فقد أدخلت البشرية في عهد جديد ، وساعدت الشعوب على التحرر من الاستعمار.... هذا ... وإن ماركس لم يتحدث عن الاشتراكية في روسيا ، بل تحدث عن قيام الثورة الاشتراكية في ألمانيا ، وانكلترا ، وفرنسا . وإن ما حدث في روسيا هي اشتراكية لينين ، وليست ماركس ، لذلك سقطت بعد سبعين عاما ، وانهارت ، ولم يدافع عنها شعبها .
2 – تكمن ثورية الماركسية في التحرر من الاستغلال ، وبناء المجتمعات العادلة ، والقضاء على البؤس والفقر ، وتحويل الملكية الخاصة إلى ملكية اجتماعية ( عامة ) ، بإقامة نظام اشتراكي صوب الشيوعية .
3 – إن الاغتراب يشمل جميع الفئات في المجتمع الرأسمالي باستثناء حفنة صغيرة من البرجوازيين ، فتجليات تاريخ الرأسمالية ، وواقعها في دنيا الحياة اليومية تغدو الأكثرية الجماهيرية في خدمتها وسطوتها وهيمنتها ، وتسخرها في تلبية حاجاتها في الربح الفائق بزخ السلع في الأسواق الحرة ، الرأسمالية تلغي الوعي الاجتماعي والجمالي والذوق الحسي سواء بدعاية ثقافة العنف أو فوضى التهتك ، لذلك قدمت الماركسية رؤية نقدية ثورية لهذا الاغتراب التاريخي الذي يقوم على أساس الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ، فدعت إلى التحرر من الاستغلال وبناء الاشتراكية ليتعايش الفرد في مجتمعه بتآلف ومندمجا في ذوقه الحسي ، والكفاءة ، والإبداع بتلاحم الأفاق صوب الشيوعية ، وقد برع كافكا المأساوي المتشائم في تجسيد الاغتراب في الرأسمالية في روايته القصيرة – المسخ - .

4 – أن العالم مادي في تطوره تاريخيا ، مر بمراحل التشكيلات الاجتماعية على أساس الفهم ، والتفسير الجدلي لتحوله من تشكيلة إلى أخرى ، فإذا كانت روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية ، ومركز عبوديتها ، فهذا لا يعني عدم وجود بقايا تشكيلات اجتماعية ذات نمط المشاعية البدائية في مناطق قد تكون نائية عن روما ، وهذا يسمى الانقطاع في سياق التاريخ ، وهو ليس حاسما فيه ، وكذلك نفس الشيء في بلاد سومر الذي امتاز نظامه بالملكية العامة لوسائل الإنتاج في حقبة تاريخية معينة حيت كانت توضع في معبد الآله كملكية اجتماعية يستخدمها الجميع خاصة في السقي والإرواء . من هذا يتضح لنا أن التشكيلة الاجتماعية تخرج منها أنماط أخرى غير محسوبة كما ظهر نمط الاشتراكية الديمقراطية في البلدان الإسكندنافية والذي عارضته الأحزاب الشيوعية ، واعتبرته تحريفا عن الماركسية ، وقد أثبت مصداقيته في العدالة والمساواة .لكن الانقطاع الحاسم الذي تدعو إليه النظريات البرجوازية هو التوقف عن دور التاريخ في سيرورته المعقدة في سياق قضية التواصل ، ونهايته في الرأسمالية . لابد التذكير هنا أن الرأسمالية الأمريكية تملك من القنابل الفتاكة كفيلة بتدمير العالم عشرة مرات ، وما تملكه روسيا كفيل بتدمير العالم مرتين ، هذا بالإضافة إلى ما تملكه فرنسا ، وبريطانيا ، والصين ، والهند ، وباكستان ، وإسرائيل من قنابل فتاكة ، ما معنى هذا التصارع والتزاحم لامتلاك الآلة المدمرة لكوكبنا البشري ، هذا ما حذر عنه ماركس في البيان الشيوعي : ( أن الشبح الشيوعي يهدد الرأسمالية ) ، كان يقصد في ذلك الابتعاد عن الآلة المدمرة ، وتسخير كفاءة البشر من أجل العدالة ، والسلام ، والحفاظ على البيئة ، والتعامل معها من أجل البقاء ...هل ستستخدم الرأسمالية أسلحتها المدمرة للقضاء على البشرية حينما تشعر أن البرولياريا سترميها في قبرها ؟! هذا ما يقلق الكثير من الماركسيين على حد سواء . لكن هل ستخرج أنماط جديدة للتشكيلة الاجتماعية ، ونحن نعيش وحشية الرأسمالية ، وهي تمر باحتدام أزماتها الاقتصادية ، وتفاقم الصراعات الدولية ، واشتداد الحروب ؟! إن التاريخ الذي تحدثنا عنه أعطى إجابات واضحة عن إمكانيات جديدة .

ثانيا : الماركسيات المتعددة :
إن الفكر السياسي للرأسمالية قد طغى على العديد من القادة الشيوعيين الذين ارتدوا عن انتمائهم لأحزابهم الشيوعية ولبسوا الفكر البرجوازي الليبرالي ، فقادوا حركة تمرد داخل أحزابهم الشيوعية ، وأسهموا بعودة الرأسمالية إلى بلدانهم كالاتحاد السوفيتي المنهار الذي لعب أعضاء مكتبه السياسي وسكرتيره الأول في تدمير ما بنته وحققته شعوب الاتحاد السوفيتي المنهار ، فبدلا أن يصححوا مسيرة الخيار الاشتراكي قاموا بتخريب منجزات سبعين عاما ، ولحق بهم قادة الأحزاب الشيوعية في أوربا الشرقية في عودة الرأسمالية ، ولتكون بلدانهم أسواقا حرة لمنتجات الغرب الرأسمالي ، ويتفشى الفقر والعوز والتدهور . أما بعض الأحزاب الشيوعية التي تمسكت باسمها وتاريخها النضالي ، فقد حاولت التكيف مع الأوضاع الجديدة بتوفير الغطاء لها بالتمسك بالماركسية ، فجردت الماركسية من جوهرها بحجة أن العولمة فتحت عصرا جديدا ، ولابد التأقلم مع الظروف المستجدة ، هكذا ظهرت ماركسيات متعددة بأوجه مختلفة في عالم الفوضى ، تتغلف بغلاف الماركسية الظاهري خافية أعماق الصراع الأيديولوجي ، وقد امتازت برامجها بالنقاط الآتية :
1 – إلغاء التجربة اللينينية التي هي تراث غني يهم الشعوب في بناء دولة الحزب الواحد ، بتحالف العمال والفلاحين ، وشغيلة الفكر واليد . الحزب الذي عبر عنه لينين إنه أداة بيد الطبقة العاملة للوصول إلى الاشتراكية ، وبناء المجتمع الاشتراكي .
2 – إلغاء الصراع الطبقي ، والاستغلال ، والدعوة إلى السلام الطبقي ، أو التوافق الطبقي .
3 – إلغاء الأممية ، والانحدار في القومية كما في الحزب الشيوعي الصيني الذي يدعو بالتمسك بالتقاليد الكونفشيوسية والتاوية القومية .

بعد كل هذا العرض لكتاب المؤلف لطفي حاتم واللمحة التاريخية عن الماركسية تتبادر لنا أسئلة ملحة بعد انهيار النظام السوفيتي وهيمنة الرأسمالية الأمريكية على العالم ، هل أن انهيار الاتحاد السوفيتي هو مجرد نكسة مرعبة ضخمة ، لا تعرقل سيرورة التاريخ البشري نحو الاشتراكية ، فالشيوعية كما أكدها ماركس ؟! هل أن خيار الماركسية الاشتراكية ما زال قائما أم إنه حلم اليوتوبيا كحلم الفرنسيين الذين وصف ماركس حلمهم بالاشتراكي الطوباوي ، ثم هل أن الماركسية ملائمة لعصرنا ، وتجيب على أسئلة العصر ؟! ما هو التحرك لوقف الخراب والتدمير الذي تمارسه الرأسمالية الاحتكارية ، وهل تلوح بالأفق حياة أفضل على كوكبنا البشري ؟! ربما – الباحث الماركسي لطفي حاتم وضع مشروعا فكريا سياسيا آخر لإعادة مراجعة الأيديولوجية والتاريخ للإجابة بشكل تفصيلي على هذه الأسئلة التي تهم الجميع .

حمودي عبد محسن
11 / 11 / 2010