الماركسية العربية و إشكالية المعرفة


عمار عكاش
2004 / 9 / 15 - 10:45     

( الماركسية العربية و إشكالية المعرفة )
رؤية نقدية
إن الانطلاق من مقولة المركز و الأطراف يقودنا إلى تفهم وقوع اليسار العربي أسير الفكر المستورد و عجزه عن امتلاك وعي مطابق لحاجات الوطن العربي و الجماهير العربية مما جعله فكر موجة سادتْ ردحاً من الزمن لكنها ما لبثت أن انهارتْ مع انهيار المركز، طبعاً لا نعني بهذا الكلام أن نشوء أحزاب يسارية لم يكن له أسبابه العميقة النابعة من صميم الواقع الاجتماعي و السياسي العربي إنما نشير إلى أزمة هذا اليسار على صعيد الفكر و الممارسة، إلا أن النظر إلى المسالة من هذه الزاوية فقط يسقطنا في فخ الجبرية و الركون إلى مقولة الواقع الموضوعي بمعناها التبريري ... إن فهم أزمة اليسار العربي يتطلب بحثاً شاملاً في الواقع القائم في الوطن العربي :
- الواقع الاقتصادي ( نمط الإنتاج و توزع القوى الطبقية ) .
- البنية السياسية القائمة ( الممارسة السياسية و مدى تطورها وحداثتها وامتلاكها البعد المؤسساتي ).
- الإيديولوجية السائدة في الوطن العربي عموماً و ما تحمله من مخلفات العصور الوسطى و التي تنعكس بشكل أو بآخر على الإيديولوجية الماركسية إلى جانب تأثرها بثقافة المركز .
على المستوى الاقتصادي كان رهان اليسار العربي على البورجوازية الصغيرة ذات الاتجاه اليساري القومي الشوفيني و التي نجحتْ في اجتذاب أعداد كبيرة من الجماهير الفلاحية و عمال المدن، على أمل أن هذه البورجوازية الصغيرة ستنجز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية و تحقق ما سمِّي بالتقدم الاجتماعي، إلّا أن هذه البورجوازية الصغيرة لم تكن مخلصةً في مشروعها الاشتراكي و القومي، فأنجزتْ بعضاً من مهام الثورة الوطنية الديمقراطية ( إصلاح زراعي – تأميم الصناعات الكبرى – مجانية التعليم ..)، إلا أنها بفعل طبيعتها و موقعها الطبقي كانتْ علاقتها مع البورجوازية المحلية و العالمية ( الامبريالية ) علاقة مساومة لا علاقة تناقض أضف إلى ذلك افتقارها إلى إيديولوجية علمية و تأخرها على صعيد السياسية كعلم له قواعده و قوانينه فما لبثتْ أن تحولتْ إلى فئات بيروقراطية جعلتْ من القطاع العام مطيّةً لخدمة نهبها و إثرائها الغير مشروع، وبذلك كان ما قامتْ به هذه البورجوازية في المحصلة لا يعدو عملية إعادة تدوير رأس المال و توزيعه لتشكل مع البورجوازية التقليدية ( الاستهلاكية و الكومبرادورية خصوصاً) و بقايا الإقطاع طبقة حاكمة تحالفتْ معاً بعد صدامات كثيرة فيما بينها ( حوادث الإخوان المسلمين في سورية مثلاً ) لتحكم الوطن العربي بقوة الحديد و النار و تغيِّب المجتمع و السياسة و تعمِّق الفوات و التأخر .. فماذا كان موقف اليسار العربي بنمطه الستاليني خصوصاً ؟... لقد كان التحالف معها و ممالأتها بل و التبرير الإيديولوجي لها بحجة ضرورتها التاريخية و التعويل عل عدائها للامبريالية و هو عداء يقوم على المساومة لا التناقض كما ذكرنا، فانتهى الأمر بتماهي هذه الأحزاب مع السلطات الحاكمة و دخولها في موت سريري بطيء في ظل عزلة جماهيرية و جمود عقائدي فغابتْ
هذه الأحزاب مثلما غابتْ جميع فئات المجتمع و منظماته الأهلية و المدنية .
قبل أن ننتقل إلى الحديث عن نتاج اليسار العربي الإيديولوجي و الثقافي لا بد من أن نذكر أن الماركسية تتعرض لإجحاف كبير بعد التحوّل من الموجة الاشتراكية إلى الموجة الليبرالية حيث يتم التنكر لكل إسهامات الفكر الماركسي في الثقافة العربية و بالمقابل بدلاً من أن يقوم الماركسيون بعملية مراجعة نقدية لإرثهم الثقافي يستترون بنرجسية مرضية تبرّر عزلتهم الجماهيرية بعدم نضج الوعي الطبقي و التزييف البورجوازي الإعلامي لنضالاتهم .
و لكي نقيّم الماركسية تقييماً واعياً لا بد من العودة إلى البدايات إلى المخاض و الولادة،... نشأتْ الماركسية مع رواد النهضة الأوائل و ترعرعتْ في خضم النضال ضد السيطرة الاستعمارية، فأسهمتْ في تعميق الفهم للمحتوى الاجتماعي للنضال الوطني، فلم يعد هناك مكان للنظرة الميتافيزيقية الكليانية للوطن من خلال تمييزه إلى طبقات متصارعة لها مصالحها، و تجلّى الإسهام المعرفي الأكبر في إعادة قراءة التاريخ و التراث الفكري العربي لا سيما من خلال المقاربات المنهجية و الفرضيات التي قدمها : د . حسين مروة – د . طيب تيزيني، و ظهر منظّرون ماركسيون عرب وصلوا إلى العالمية من خلال تنظيرهم لواقعنا الاقتصادي كدول طرفية و سُبل فك الارتباط مثل ( د . مهدي عامل – د . سمير أمين ) و لعل المنجز الأكبر للماركسيين في فكر النهضة ما أضافوه في الحقل الاقتصادي، بل يذهب الدكتور عبد الإله بلقزيز إلى أن المقالة الاقتصادية العربية لم تنشأ إلا على يد الماركسيين ... هذا إضافةً لإسهامات الماركسيين المتنوعة في الفكر السياسي و الأدب كتابةً و نقداً .... و بالمقابل فإن للمسألة وجهاً آخر. فقد عانتْ الماركسية أمراضاً كانتْ بمثابة أورام سرطانية كفيلة بأن تلتهم الجسد المعرفي كله، أخطر هذه الأمراض كانت الاتباعية و الدوغمائية التي جاءتْ كنتيجة لارتباط المفكرين بتنظيمات حزبية أو وقوعهم أسرى تيارات فكرية عالمية كانتْ مهيمنة حينها، فمارس هؤلاء غالباً وظيفة التبرير و الدعاية لهذه التيارات فكان شللهم الفكري و قصورهم في عملية الإنتاج المعرفي هذا الأمر ينسحب على كافة نسخ الماركسية العربية ( الأوربية – الصينية – السوفييتية )، فمن خلال الانطلاق من هذه القوالب بدأ المثقفون الماركسيون بتشكيل الواقع بما يوافقها بدل أن يستنبطوا أفكارهم من الأوضاع الاجتماعية القائمة لتنقلب ماركسيتهم إلى ماركسية ميتافيزيقية غيبية فهم كما قال عنهم الأستاذ المرحوم ياسين الحافظ كانوا يخرجون التاريخ من رؤوسهم بدل أن يخرجوا رؤوسهم من التاريخ، و هكذا اقتصرتْ النظرية الماركسية في الوطن العربي على اجترار العموميات دون النفوذ إلى عمق المجتمع العربي و تشريح بناه أفقياً و عمودياً، فبقيتْ الماركسية في إطار المفهوم النظري العام و نُبِذتْ التجريبية التي من خلالها يُعاد إنتاج المفاهيم وفق الواقع الملموس و يتحقق جدل المنطقي و التاريخي فارتدّتْ الماركسية إلى شكلها المكتوب و تحولتْ إلى ضرب من اللاهوت، وبقيتْ الأحزاب الشيوعية العربية دون مستوى الإبداع النظري و العملي، طبعاً كان لهذا الأمر أسبابه الموضوعية إضافةً إلى العامل الذاتي فمجتمعنا العربي ربما عرف بوادر النهضة لكن قيماً كالحداثة و العلمنة ظلّتْ قيماً غريبة عنه فخرجتْ الأحزاب الشيوعية العربية بأعضائها من معتقد لاهوتي يتمثل بالميراث السلفي السائد في المجتمعات العربية إلى عقيدة إيمانية جديدة فالإلحادية الماركسية في الوطن العربي لم تكن مبنية على أسس علمية و عقلانية و دنيوية لذا سرعان ما تحول عدد كبير من أعضاء الأحزاب الشيوعية بعد انهيار المعسكر الاشتراكي أو بعد فترات الاعتقال الطويلة إلى السلفية و الدين ( 1 ) فهذه الأحزاب كانتْ ذات عقيدة مادية علمية من تحت و عقيدة دينية غيبية من فوق، وبلغتْ الأزمة ذروتها حين فقدتْ مدّها الاجتماعي مع انهيار المنظومة الاشتراكية، و بفقدانها جماهيريتها فقدتْ حركيتها و ديناميكيتها و التصاقها بحركة الحياة و التاريخ لتنتصب الماركسية صنماً و تغدو مقولة ماركس عن ديكتاتورية البروليتارية و حتمية الثورة الاشتراكية تعويذةً تصيب الرأسمالية بالتصدع و الانهيار، فالانهيار المدوي للمعسكر الاشتراكي بدل أن يكون بدايةً لمراجعة طويلة للماركسية نُظِر إليه على أنه نكوص مؤقت فهناك جوهر خالد اسمه الاشتراكية سيتجلّى في نهاية المطاف ليملأ الكون تماماً كما يحلم المؤمن بأن الجوهر الإلهي سيحل و يغمر برحمته عباده المؤمنين و يسكنهم فسيح جنانه .
و كان لطغيان الهاجس النضالي اليومي الآني على الثقافي - بدعوى أن الأفكار تتحول إلى قوة مادية حين تحملها الجماهير – دوره الكبير في تحول الخطاب الماركسي إلى نوع من التبشير و تحول الإنتاج الفكري للأحزاب الشيوعية إلى نوع من الميتافيزيقيا تقولِب الواقع وفق هواها هذا إضافةً إلى اختزال التصوّر المادي الجدلي للتاريخ إلى تصور اقتصادوي يُرجِع كل ما في المجتمع من ظواهر إلى بنيته التحتية و لا يولي الكثير من الاهتمام للانقسامات العمودية في النظام الاجتماعي فأمور مثل العشائرية و الطائفية و العصبوية بأشكالها المختلفة كان أحرى بالماركسيين أن يدرسوها بعمق لما لها من دور كبير في تحديد مناحي الصراع الاجتماعي في الوطن العربي بدل الاكتفاء بربطها بالصراع الطبقي و النظر إليها كمجرد أداة بورجوازية لتعمية الصراع الطبقي و بالتالي فالاشتراكية هي الحل السحري الذي سيشفي هذه الأمراض كما سيتكفل بكل إشكاليات الواقع العربي .... إن جملة العوامل السابقة تضافرتْ لتنزع عن الماركسية علميّتها و عقلانيّتها و تجعلها تحلق في فضاء النظري و المجرد بعيداً عن الواقعي و العياني يبدو هذا الأمر أكثر من أي شيءٍ آخر في التعاطي مع المسالة القومية كمنتج بورجوازي رجعي مموِّه للصراع الطبقي تيمّناً بالنظرة الستالينية إلى المسألة القومية متناسين أن الطبقة العاملة لا يمكن أن تتحرر ما لم تتشكل كأمة كما يقول لينين، و لم يكن التعاطي مع المسألة الدينية أفضل حالاً حيث غاب التحليل السوسيولوجي العلمي الذي يتتبع تطور الدين وفق تطور الظروف التاريخية .. كان لا بد من تفكيك أدوات هذه الإيديلوجية معرفياً و إدراكها في سيرورتها التاريخية وصولاً إلى إدراك الحيز الكبير الذي تحتله في الثقافة الجمعية لعموم الشعب العربي نذكر في هذا الصدد كتاباً يتيماً للدكتور صادق جلال العظم بعنوان نقد الفكر الديني أثار عاصفةً كبيرة من الجدل في الوطن العربي لا لشيء إلا لأنه تناول شيئاً عيانياًُ ملموساً فيما يخص الدين الإسلامي و المسيحية الشرقية بدل الاكتفاء بتكرار ببغائي عمومي لنقد ماركس الشاب للدين و نقد إنجلس لفيورباخ، لقد اعتبر الماركسيون أن العالم برمته يسير نحو العلم و العقل و الاشتراكية، لكن الذي حدث الآن هو نهوض تيار سلفي عارم يسيطر على الساحة السياسية العربية كنتيجة طبيعية لسياسات الاستبداد التي اعتمدتْ دوماً المناورة مع الحركات الدينية و مع ذلك يردد الماركسيون أنها ردة فعل فقط لا تلبث أن تزول، و نقول أخيراً إن المهام الراهنة للماركسيين كبيرة أهمها التواصل مع تراث مفكري النهضة الأوائل و هو ما كان على الماركسيين أن ينجزوه منذ زمنٍ طويل فقد نمتْ في أوائل القرن العشرين لدى نخب النهضة المثقفة البذور الأولى لقيم العلمنة و الحداثة في وجه التخلف و الحرية الفردية و حقوق الإنسان والديمقراطية في وجه الاستبداد، و بالكاد حظيتْ هذه النخب بدعم محدود من البورجوازيات الوطنية التي ما لبثتْ أن أفصحتْ عن نزوعها الكولنيالي و جذورها الإقطاعية المحافِظة، و للأسف بدل أن يتواصل الماركسيون مع هذا التراث بالمعنى النقدي الخلاق وجدوا أن الإشكالية الأساسية في الوطن العربي هي إشكالية الانتقال إلى الاشتراكية و ليستْ إشكالية النهضة ( 2 ) و اليوم يتبدّى أكثر ما يكون أن إنجاز مهام الحداثة و الدخول إلى العصر و النضال ضد بنى المجتمع التقليدي هي المهمة الأكبر التي تواجه الماركسيين و ذلك من خلال تعبئة القوى الاجتماعية التي جعلتها هذه الأوضاع تتهمّش و تقف خارج إطار الفعل التاريخي .
عمار عكاش - حلب [email protected]









الهوامش:
1 - نذكر بهذا الصدد روايةً مهمة للروائي السوري حيدر حيدر بعنوان شموس الغجر .
2 - كان الدكتور طيب التيزيني أحد أبناء تلك المرحلة قد ألف كتاباً بعنوان من التراث إلى الثورة و مؤخراً حين سئل عن كتابه هذا قال بأن العنوان الأنسب للكتاب من التراث إلى النهضة .
المراجع :
1 – بلقزيز ، د . عبد الإله : نحو مراجعة فكرية لتراث الماركسية العربية . مجلة الطريق . بيروت . العدد الخامس 1998 .
2 – الشريف . د . ماهر : كيف يمكن للماركسية العربية الإسهام في إطلاق نهضة جديدة . مجلة الطريق . بيروت . العدد الخامس 1998 .
3 – دراج ، د . فيصل : غرامشي و سؤال الثقافة . مجلة النهج . مركز الدراسات الاشتراكية في العالم العربي . العدد : 19 . السنة الخامسة : 1988 ) .