في راهنية الماركسية: النقد


الاخضر القرمطي
2010 / 9 / 25 - 21:42     

ان نعلن راهنية الفكر الماركسي (منذ ماركس حتى اليوم) معناه التدليل على قدرة الماركسية كمنهجية وكرؤية على المحاولة لتقديم اجوبة على الاشكاليات التي يطرحها الراهن. ومتى تبدت لنا هذه القدرة حتى امكننا التكلم عن راهنية النتاج الماركسي.
اين يمكن استشفاف راهنية الفكر الماركسي؟
يمكن القول ان الماركسية في كل مكان وفي اللامكان؛ في تملك جدلي شمولي للواقع، يقتحم الفكر الماركسي اراضي الاقتصاد والسياسية والايديولوجيا، يربط في رباط لا تنفصم عراه هذه الاراضي المقتحمة، يحاور البنى الاجتماعية القائمة، يسافر من النظرية الى الممارسة اليومية وبالعكس، يدخل الى جذور الواقع وما ينتجه ماديًا وفكريًا، ويصنع من ذلك كله شبكة معرفية نضالية تتوج بمقولة "الانسان اثمن رأسمال".
اذا، علينا ان نتلمس قدرة الماركسية في المستوى الاقتصادي والسياسي والايديولوجي، بحيث لا ننسى دومًا ان هذه المستويات لا تتذرر منفصلة، بل تتشابك مترابطة، وذلك من جوهر المنهجية الماركسية في تناول الموجود المادي والروحي.
من موقعي كصديق للفلسفة وبعض شؤونها، حاولت مقاربة الماركسية. واقتصرت هذه المقاربة على وجه من اوجه فكر ماركس الفيلسوف وليس السياسي أوعالم الاقتصاد (رغم صعوبة الفصل عند هذا المفكر بين هذه الميادين). اذً، حاولت مقاربة الماركسية من زاوية الايديولوجيا، وبالتحديد من الزاوية الفلسفية.
انتقل ماركس من الفلسفة إلى الإقتصاد السياسي مروراً بعلم الاجتماع لكنه بقي إلى آخر يوم في حياته فيلسوفاً. سعى ماركس إلى دراسة الرأسماليّة علمياً لكن الفلسفة ظلّت تشكّل خلفيّة فكره. لم يكف يوماً عن الإيمان بأن لتاريخ الإنسانيّة الذي مرّ ويمرّ بعدة مراحل وأنظمة ويسير نحو مجتمع خالٍ من التناقضات مغزى فلسفيا. الإنسان يخلق نفسه عبر التاريخ وتتزامن نهاية التاريخ مع نهاية الفلسفة. الفلسفة التي تحدد الإنسان تحقق ذاتها بواسطة التاريخ. إن النظام الشيوعي الذي يلي الإشتراكيّة ليس نمطاً من الأنماط الاجتماعيّة فحسب، إنه نهاية مطاف بحث الإنسانيّة عن ذاتها. . أهم ما أخذه ماركس عن الفيلسوف الالماني الكبير هيغل هو أن للصيرورة التاريخيّة مغزىً فلسفياً. ليست الشيوعيّة مرحلة تاريخيّة ندركها علميّاً فحسب بل هي هدف الصيرورة التاريخيّة والمرحلة التي يحقق فيها الإنسان طبيعته الحقة.

تشير ابحاث ماركس الفتي منذ كان طالبًا في جامعة برلين الى انطوائها على مؤشرات ضمنية لما سيصبح عليه هذا الفتى الذي تنبأ اساتذته بانه من سيوجه الضربة القاضية للفلسفات الدينية القروسطية المنتشرة آنذاك في المانيا. وإن كان تعاليم ماركس الفلسفة الرئيسية قد تبلورت في الفترة الممتدة من "مخطوطات 1848" الى مجلدات "رأس المال"، وان كنا لا نستطيع استيعاب اعمال ماركس الا على ضوء النتائج التي افضت اليها اي على ضوء الاعمال المتأخرة، بحيث ان النتيجة تعطي دومًا معنىً للمقدمات، الا انه لا يجب اهمال وجود عنصر فلسفي جامع يسري في الفكر الماركسي منذ بداية النشاط الفكري حتى نهايته. هذا العنصر هو النقد.

- ليس من باب الصدفة ان تُذكر كلمة "نقد" في معظم عناوين مؤلفات ماركس. سمة الماركسيّة الأولى النقد، سواء اعتبرناها فلسفة أو منهجاً. ويكفي تعداد عناوين بعض مؤلفات ماركس لإدراك أهميّة مفهوم النقد: نقد فلسفة الحق عند هيغل (1843)، "نقد النقد النقدي" [العنوان الفرعي لـالعائلة المقدسة] (1843)، "نقد الفلسفة الإلمانيّة.. والإشتراكيّة الإلمانيّة.." [العنوان الفرعي للأيديولوجيّة الإلمانيّة] (1845)، نقد الإقتصاد السياسي [هذا عنوان أحد مؤلفات ماركس] (1859) والعنوان الفرعي لكتاب رأس المال (1867).
- "يجب الشك في كل شيء"، في مقولة ماركس المفضلة هذه دلالة على القيمة العليا التي يعطيها ماركس للشك وبالتالي للنقد المستمر، والشك بداية النقد. كتب ماركس عام 1843: "ما يشكل ميزة النزعة الجديدة هو أننا لا نريد أن نستبق العالم بشكل دوغمائي ولكن إن نكتشف العالم الجديد بواسطة نقد العالم القديم فحسب... وإذا كان بناء المستقبل وتحقيق التاريخ ليسا محوري اهتمامنا، فإننا نعرف بشكل لا يقل ثقة ما علينا القيام به حاضرا: نقد لا يتهاون للنظام السائد؛ ولا يتهاون هذا النقد بمعنى أنه لا يخاف نتائجه ولا يخاف التصادم مع السلطات القائمة".
- ماذا عنى ماركس بالنقد؟ لا يعني النقد عند ماركس الرفض، او مجرد محاولة اظهار ان وجهة نظر ما خاطئة واستبدالها بأخرى صحيحة. يسعى النقد كما فهمه ماركس الى العثور على جذور هذه الوجهة من النظر او تلك، اى الوصول الى ما يؤسسها، ذلك ان وجهة النظر هذه تؤسس لسلوك حياتي معيّن، ومن هنا خطورتها. ان النقد يصبح ههنا نوعًا من الحضير لتثوير طريقة الحياة الحقيقية الحاضرة، وتحويلها الى حياة انسانية حقيقية، تفسّر نفسها بنفسها.
- ولذلك لا يبقى ماركس وآلته النقدية في الميدان النظري التأملي، ولا يحصر نفسه في دائرة المفاهيم، بل يقيم دائمًا نوعًا من التواصل الجدلي العلائقي بين الفكر والواقع الاجتماعي، فالفلسفة ليست الا خلاصة عصرها،" ان انتاج الافكار والتصورات والشعور مرتبط ارتباطا مباشرا ووثيقا بالنشاط المادي للبشر انة لغة الحياة الواقعية".النقد الفلسفي ليست نقدًا الا بمقدار ما يظل "على الارض" في الواقع المادي الاجتماعي وشروطه الانسانية التاريخية والطبيعية. "كلّ حياة اجتماعيّة هي حياة عمليّة بصورة جوهريّة. وتجد جميع الأسرار التي تحرِّف النظريّة نحو الصوفيّة حلها العقلاني في الممارسة الإنسانيّة وفي فهم هذه الممارسة"(الاطروحة 8).
- ان النقد الماركسي يتخطى بأشواط النقد الكانطي المتعالي،او الهيغيلي، او النقد النيتشوي، او النقد العدمي، ذلك انه بالضرورة جدل الواقع والتأمل، الفكر والمجتمع، النظرية والممارسة. يقول في هذا المجال:" لقد نزع النقد عن السلاسل الزهورَ الوهمية التي كانت تغطيها، لا لكي يحمّل الانسان قيودًا غير مزخرفة، بل ليقذف بالسلاسل بعيدًا ويقطف الزهور الحية"..ان النقد بهذا المعنى يحمل رسالة تحريرية، تفضح شروط القيود وتعريها، وتضرب المطرقة لتنزع الوهم، ولتعلم الشعب الذعر كي تعطيه الشجاعة ليحقق الفلسفة التي تجد اسحلتها المادية في البروليتاريا، وهذه الاخيرة في الفلسفة المادية الجدلية النقدية تجد سلاحها الفكري. ، "العقل الحرّ قيصر هذا العالم. وما"استخدام العقل الحر" غير الفلسفة."
- لكن أيّاً من كنط وهيغل لم يقد المشروع النقدي إلى بلوغ غايته. لم يدرك كنط أهمية التاريخ والمعطيات التاريخيّة فضلاً عن أنه أعاد بنا الميتافيزيقا في أخلاقيّاته. أما هيغل، فرغم نزعته النقديّة، عاد فدفن الإنسان في نظام كلّي متماسك: دفنه في التاريخ الذي ظنّ هيغل أنه انتهى؛ ودفنه في الدولة التي رأى هيغل في نابوليون والدولة البروسية التي عصرنت إدارتها تجسيدها النهائي؛ دفنه في الدين المسيحي الذي صهر كلّ الأديان السابقة؛ ودفنه أخيراً في المعرفة المطلقة التي فهمت التاريخ والدين والدولة على حقيقتها وحققت، في آن، وحدة الذات والموضوع.
- يكمل النقد الماركسي مسيرة هيغل وينقدها في آن معاً. يرفض كلّ ركون إلى اليقين ويؤكّد على أهميّة التاريخ لكنّه يقوم يثورة كوبرنيكيّة جديدة شبيهة إلى حدّ ما بثورة كنط: ليس العقل صانع التاريخ وأداته، هو انعكاس ظروق ماديّة تنتجه وتكيّفه.
- يتجوّل هذا النقد الجذري من الفلسفة الى الدين الى السياسة الى الادب والى الاقتصاد السياسي، في دلالة على الثراء الموسوعي لماركس من جهة، وعلى الوجه الشمولي لمهمة الماركسية الكفاحية، شمولية الربط بين الميادين الفكرية والعلمية المتنوعة.
- ثورية هذا النقد تكمن في أنه لا يقف عند السطح بل يغوص الى ما دونه، ضمن رؤية جدلية شمولية، تنبع من الضرورة المستمرة لمجابهة كل فكر يحاول ان يتناول الرؤية الى العالم، ان يعالج الاقوال والكلمات والنصوص التي تطرح بمعزل عن الواقع الاجتماعي والتاريخي الذي يحتضنها، ذلك ان هذه الانعزالية في المجابهة والنقد عدا انها خطوة ناقصة عرجاء، فانها تساهم في تأبيد ما هو موجود، تبقى في الفكر وللفكر، تحيلنا الى صراع الكلمات والمجردات، وتبعدنا عن الصراع الواقعي بين "البشر" الفعليين، وكأن مشاكل وازمات الواقع يحلها مجرد التضاد الايديولوجي....نقد ماركس وفلسفته العلمية، ليست سلاحًا فقط ضد التيارات الرجعية والسلفية والمابعد حداثية العدمية المتمردة في الظاهر والمستكينة في خلاصاتها العملية، بل انها سلاحًا ضد الجمود العقائدي لبعض المتمركسين، ضد السلفية الماركسية، النقد الماركسي اداة لغربلة الفلسفة الماركسية مما زال يعلق بثوبها من قراءات تبريرية للوضع القائم، او طوباوية هاربة.
- وعلى اساس النقد الجذري، يؤسس ماركس لرؤيته الفلسفية والسياسية:
o الفلسفة مع ماركس تصبح اداةً ثورية وليست عملا ًمفاهيميًا تأمليًا مجردًا، ان الفلسفة تجد تحققها على ارض الواقع، وتتحول الى قوة مادية بالممارسة، ذلك انها "تتسأل عما هو حقيقي لكل البشر، لا عمّا هو حقيقي لبعض الافراد"."الفلسفة تتحدث بعد ان تدرس، تتوجه الى العقل،.. تتطلب الفحص بواسطة الشك"..و"مهمة التاريخ بعد زوال عالم ما وراء الحقيقة، هي ان يقيم حقيقة هذا العالم. تلك هي مهمة الفلسفة، وان كان رأس الانعتاق هو الفلسفة، فان قلبه هو البروليتاريا.
o يؤسس النقد للممارسة السياسية الثورية. إن ماركس يعتبر أن سلاح النقد لا يجب أن يعوض نقد السلاح أي النقد العملي عبر الممارسة النضالية الهادفة إلى التغيير الثوري. في مقولتيه - " لم يقم الفلاسفة إلا بتفسير العالم بطرق مختلفة؛ [لكن] المهم هو تغييره " و"- إن مسألة ما إذا كان يمكن للفكر البشري أن يدرك حقيقة واقعية ليست مسألة نظريّة بل عمليّة. فالإنسان يجب أن يثبت في الممارسة ما هي الحقيقة، يعني واقعية فكره وقوته في هذا العالم وفي هذا العصر"، . يشدد ماركس على الممارسة التغييرية، وهي ممارسة بشرية، مادية وتاريخية. انها النشاط الاجمالي لجماعات الافراد الذين يغيّرون العالم، انها الحياة الاجتماعية، العمل بما هو عملية انتاج، وماركس يرتقي بالممارسة ليصل الى ارقاها، الى الممارسة السياسية، بالتحديد الى الصراع الطبقي. ومن غير الطبقة العاملة يملك المصلحة في الوصول الى حقيقة الواقع عبر الصراع الطبقي؟

- الخاتمة:
في سجون محنة العقل اليومي، بين اسوار الفكر الغيبي المثالي والتبريري، يرسل النقد على الطريقة الماركسية شعاع لجذرية الرؤية ولأنسنة الماهو قائم.
في ظلمات شوارع القمع والتسلط والهيمنة بوجوهها المختلفة، لا يبقى للنضال التحرري الا ان يستعيد ماركس، بعد تحريره من "ماركسية" حوّلت الى تبرير جديد لسجون جديدة، أقامت تحت نصب ماركس ولينين معسكرات ومجاعات وانحرافات سياسية ساهمت في طمر القبر الذي بدأت الرأسمالية يومًا في حفره لنفسها.
تنبع راهنية الماركسية من ضرورتها اليوم. وضرورتها تقتضي تخليصها من كل ما علق بها من رؤى اقتصادوية واختزالية وحتمية وتبريرية وتقديسية.
في السابق، أماتوا الجوهر النقدي الانساني الثوري لماركس، وخلقوا ماركس المبتذل او المؤمن بالحتمية او منظّر سجون الاعتقالات وارهاب الدولة.....اليوم، علينا استرجاع ماركس الحقيقي، الجدلي، الثوري، فيلسوف الحرية، من وضع تحرر الانسان في محور منظومته الفلسفية والسياسية والاقتصادية، من حاول دومًا مصالحة السياسة والاخلاق، من اراد فضح جوهر الرأسمالية ليصبح الانسان صانعًا لعالمه وليس مشيّئًا مسيّرًا من اجل المال والبضاعة. ماركس المنفتح على انجازات الفكر الانساني المعاصر وليس المنعزل عن توثبات المعرفة والعلوم.

إذن، المهمة اليوم تتحدّد في كيف يعيد الماركسيون للماركسية قوّتها التحليلية التفسيرية والاستشرافية، أي كيف يعيد الماركسيون للماركسية قوّتها النظرية التنظيرية، من جهة، وكيف يعيدون لها ـ كذلك ـ قوتها من جهة أخرى. من أجل أن تعود قوة مواجهة ضد النمط الرأسمالي العالمي، من أجل أفق إنساني يسمح لكل العالم بالتطور المتساوي، فهي التي تؤسس لخيار اقتصادي اجتماعي، وسياسي وإنساني ممكن وضروري.