الطبقة الوسطى والمستقبل العربى


عبد الغفار شكر
2004 / 9 / 5 - 08:11     

قامت الطبقة الوسطى بدور بالغ الأهمية فى النضال السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى فى مختلف الأقطار العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر. وكان لها دورها المشهود فى التصدى لقوات الاحتلال الأجنبى، وفى جهود التحديث والسعى من أجل الديمقراطية وتطوير الثقافة الوطنية. خرجت من صفوفها كل التيارات الفكرية والقوى السياسية المعاصرة: قومية وليبرالية وإسلامية واشتراكية. وبقدر ما حملت رسالة التنوير والتقدم فى بعض مراحل التاريخ العربى الحديث فإنها فى مراحل أخرى اتخذت مواقف محافظة بل ورجعية. خرجت من صفوفها الدعوة إلى القومية العربية والوحدة العربية، بينما دعت أقسام منها إلى هوية أخرى فرعونية أو فينقية أو متوسطية (نسبة للبحر الأبيض المتوسط)، كما نادت أقسام أخرى بالعودة إلى أصول الإسلام. ولعلنا نجد تفسيرا لهذا التناقض فى مواقفها وأدوارها السياسية والاجتماعية والثقافية فى طبيعة تكوينها من أخلاط شتى وتنوع مصالح الفئات المكونة لها، مما حدا ببعض الباحثين تسميتها بالطبقة الوسطى وتفضيلهم أن يطلق عليها تعبير الفئات الوسطى، لأن الطبقة فى التعريف العلمى هى مجموعة الأفراد الذين يربطهم ببقية المجتمع نوع من علاقات الإنتاج: ملكية وسائل الإنتاج، أو العمل عليها لمن لا يملكون إلا قدرتهم على العمل. وما بين هؤلاء أولئك أى ما بين البورجوازية الكبيرة والطبقة العاملة توجد شرائح اجتماعية متعددة لها مصالح متعددة (1). وهى هنا مجال أساسى لأنواع متنافرة ومختلفة من الأيديولوجيات والاتجاهات السياسية. وكثيرا ما يغير أفرادها مواقعهم واتجاهاتهم، أحيانا من النقيض إلى نقيضه، وفقا لتغير ظروف حياة بعضهم أو لتغير الأوضاع العامة فى المجتمع(2).
فما هى المكونات الأساسية لهذه الطبقة أو الفئات الوسطى؟ وما هو تأثير تكوينها هذا على موقعها فى المجتمع وعلى دورها فى البناء الاجتماعى والسياسى؟ وماذا حدث فى السنوات الأخيرة فى مختلف الأقطار العربية؟ وما هى مشكلاتها الراهنة؟ وما هى احتمالات المستقبل العربى فى ضوء هذه الحقائق؟ تكتسب هذه الأسئلة وإجاباتها أهمية خاصة لتحقيق مزيد من الفهم لواقعنا العربى الذى يتعرض لمزيد من الضغوط الخارجية والتحديات الداخلية وكيف ستتفاعل معه الطبقة الوسطى التى ما تزال تملك كثيرا من الحيوية والفاعلية والقدرة على التأثير، ولا نبالغ إذا قلنا إن المستقبل العربى سوف يتحدد بما سوف تتخذه هذه الفئات من مواقف، وما ستقوم به من أدوار فى الوقت الراهن والمستقبل القريب.

المكونات الأساسية للطبقة الوسطى
ما يزال النقاش حول تعريف الطبقة الوسطى بدور حتى الآن من التعريف الذى صاغه مبكرا مورو برجر والذى يحددها فى جماعتين أساسيتين الأولى: تشمل التجار وأصحاب المصانع الصغيرة ومن يعملون لحسابهم والذين لا يؤهلهم دخلهم ولا قوتهم لأن ينضموا لذوى النفوذ والجاه فى الحياة السياسية والاقتصادية وتشمل الجماعة الثانية: جماعات أخرى مختلطة تضم المهنيين المستقلين كالأطباء والمحامين والمهندسين والمديرين والتقنين كما تضم المثقفين والفنانين والأدباء والكتاب(3). وكذلك المشتغلين بالبحث العلمى، وكذلك تعريف حنا بطاطو الباحث المعروف "نقصد بالفئات المتوسطة تلك الفئات ذات الطبيعة المركبة (أو المزدوجة) والتى تتعدد وظائفها، ولكن يجمع بينها احتلالها لموقع أو مكان وسط بين هؤلاء الذين لا يملكون وكبار الملاك، وهذه الفئات تضم ضمن ما تضم من عناصر وفئات: ضباط الجيش وموظفى جهاز الدولة وأرباب المهن الحرة، والتجار وملاك الأراضي المتوسطين"(4).
ورغم أن بعض الباحثين يرى فى هذا التعريف توسيعا لا مبرر له حيث يحدث تداخل بين الفئات الوسطى والبورجوازية الصغيرة، إلا أن معظم الباحثين المعاصرين الذين أولوا الفئات الوسطى أو الطبقة الوسطى اهتماما كبيرا يتفقون بشكل عام على هذا التعريف الواسع ولا يعترضون على اعتبار أصحاب المشروعات الصناعية الصغيرة ومتوسطى الفلاحين من ضمن الطبقة الوسطى ويقبلون بهذا التداخل بين الطبقة الوسطى وقطاعات من البورجوازية الصغيرة لتقارب مواقعها من البناء الاجتماعى. حيث يرى الدكتور محمود عودة أن الطبقة الوسطى تضم فئات متنوعة فى ارتباطاتها الاقتصادية وانتماءاتها الاجتماعية وأصولها التاريخية. إنها تضم تشكيلة متنوعة من متوسطى الفلاحين والحرفيين من أصحاب الورش، ومتوسطى التجار والجانب الأعظم من موظفى الدولة مدنين وعسكريين فيما عدا الصفوة البيروقراطية والسياسية والعسكرية صاحبة النفوذ الأعظم ويضيف الدكتور عودة إلى الفئات الوسطى أيضا أصحاب المهن الوسطى والعليا(5).
ويتفق كل من الدكتور رمزى تركى والدكتور محمود عبد الفضيل مع هذه النظرة للطبقة الوسطى ويضيفان أنها تتكون من ثلاث شرائح عليا وسطى ودنيا، وأن أهم ما يميز هذا التقسيم أن الطبقة المتوسطة تعتمد أساسا على عملها سواء كان عملا مهنياً أو فنيا أو غير ذلك وإن كان ذلك لا يمنع وجود أفراد منها يملكون بعض أدوات الإنتاج، كأن يكون الفرد مالكا لقطعة أرض أو عقار أو لبعض الأسهم والسندات... إلخ، ولكن برغم ذلك فإن دخله الأساسى يكون من عمله المهنى(6). أما الشريحة العليا من الطبقة الوسطى فهى أقرب ما تكون طموحاتها ونظام قيمها وأنماط معيشتها من الطبقة العليا، ويصل الدخل الشهرى للأسرة من هذه الشريحة إلى عشرة آلاف جنيه مصرى، والشريحة الوسطى وهى ما يمكن اعتبارها الوعاء الحقيقى للطبقة الوسطى بالمعنى الضيق ومتوسط دخلها الشهرى ثلاثة آلاف جنيه مصرى، والشريحة الدنيا هى أقرب ما تكون فى نظام قيمتها وأنماط معيشتها من الفئات الدنيا فى المجتمع(7).

الدور السياسى والاجتماعى للطبقة الوسطى

للطبقة الوسطى دور مشهود فى الحياة السياسية فى مختلف الأقطار العربية، وكانت هذه الطبقة بمختلف شرائحها القاعدة الاجتماعية للعديد من الحركات والأحزاب السياسية، كما أن القطاعات المثقفة منها قامت بصياغة فكر وبرامج هذه الحركات والأحزاب ابتداء من الحزب الوطنى العرابى فى مصر فى سبعينيات القرن التاسع عشر إلى الحزب الوطنى بقيادة مصطفى كامل ومحمد فريد، وحزب الوفد وجماعة الأخوان والتنظيمات الماركسية وحزب مصر الفتاة، وما تزال الفئات الوسطى فى مصر تشكل حتى الآن قاعدة وقوام الأحزاب والتنظيمات السياسية النظر عن توجهاتها الفكرية مثل حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى (اليسارى) والحزب العربى الديمقراطى الناصرى وحزب العمل وجماعة الأخوان المسلمين فضلا عن عشرات التنظيمات المحجوبة عن الشرعية. كما ساهمت الفئات الوسطى فى بناء القطاع الأهلى والمجتمع المدنى من خلال آلاف الجمعيات الأهلية التى تصدت مبكرا لتحمل مسئولية نشر التعليم الوطنى والمحافظة على الصحة وتتصدى الآن للدفاع عن قضايا المرأة وحقوق الإنسان والتنمية والدفاع عن السلامة البيئية. كما شكلت النقابات المهنية للمحامين والأطباء والمهندسين والصحفيين وغيرهم ونشطوا من خلال هذه النقابات بدور وطنى وديمقراطى واضح وأرسوا تقاليد إيجابية لممارسة هذه المهن فساهموا بذلك فى البناء الاجتماعى. وعلاوة على ذلك كان لهذه الفئات دور أساسى فى إصدار الصحف والعمل فى أجهزة الإعلام كالإذاعة والتليفزيون، وساهمت الفئات الوسطى فى تحديث المجتمع المصرى وتبنى قضايا التنوير ومعالجة قضايا الثقافة والتعليم بما يدعم قدرة مصر على التطور ومواكبة تحديات العصر فى النصف الأول من القرن العشرين. ولم تكن مصر نموذجا فريدا للدور الإيجابى للفئات الوسطى فى المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية. بل نلاحظ نفس السمات فى كافة الأقطار العربية الأخرى حيث شهدت سوريا ولبنان والعراق وفلسطين والمغرب والجزائر وتونس وغيرها أدواراً مشابهة حيث ساهمت هذه الفئات فى تأسيس الأحزاب السياسية كحزب البعث والحزب الاشتراكى العربى فى سوريا والحزب الحر الدستورى فى تونس وحزب الاستقلال فى المغرب وحزب جبهة التحرير الوطنى الجزائرية.. إلخ. كما قامت بنفس الدور فى تأسيس منظمات المجتمع المدنى والنقابات المهنية والصحافة الحديثة وطرح قضايا الثقافة وتحديات المعاصرة والأصالة. وكانت هذه الفئات وراء ثورة 1919 وثورة 1952 فى مصر، كما كانت خلف الانقلابات العسكرية التى شهدتها سوريا وثورة 14 تموز فى العراق وحرب التحرير الوطنية فى الجزائر. وكانت نتيجة هذا الدور السياسى والاجتماعى والثقافى المتواصل للطبقة الوسطى فى النصف الأول من القرن العشرين أن نجحت فى مساندة التطورات التى حدثت فى العالم العربى فى النصف الثانى من القرن العشرين وأهمتها قيام نظم حكم جديدة وضعت بها المعبر الأساسي عن طموح وتطلعات ومصالح الطبقة الوسطى، بما فى ذلك نظام الحكم الذى أقامته ثورة 23 يوليو فى مصر ونظام الحكم الذى أقامه حزب البعث العربى الاشتراكى فى كل من سوريا والعراق ونظام الحكم فى الجزائر بعد الاستقلال ونظام الحكم فى تونس الذى أسسه الحزب الدستوري بقيادة الحبيب بورقيبة وكذلك نظام الحكم فى اليمن بعد ثورة سبتمبر 1962 فى الشمال وبعد الاستقلال فى الجنوب.

اتساع الفئات الوسطى وتزايد تأثيرها

زاد حجم الطبقة الوسطى فى كل الأقطار العربية فى النصف الثانى من القرن العشرين نتيجة للسياسات الاقتصادية والتنموية والإصلاحات الاجتماعية التى طبقتها نظم الحكم ما بعد الاستقلال وما شهدته هذه الأقطار من برامج للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والتوسع فى الخدمات الأساسية المجانية وعمليات الإصلاح الزراعى والتوسع فى تعيين الخريجين بجهاز الدولة والقطاع العام والحكم المحلى، وذلك نتيجة لاتساع نطاق عمليات التحديث البيروقراطية لأجهزة الدولة المدنية والعسكرية غداة الاستقلال، والتوسع السريع فى الوظائف الإشرافية والرقابية غداة التأميمات، والتطور السريع والهائل للنظام التعليمى فى معظم البلدان العربية خلال الخمسينات والستينات والسبعينات مما أعطى بدوره دفعة كبيرة لنمو حجم وتنوع مراتب الفئات المتوسطة بشكل لم يسبق له مثيل فى التاريخ العربى الحديث (8). وكانت هذه التطورات أوضح وأعمق فى الدول التى انتهجت ما يسمى التوجه الاشتراكى يومها وخاصة مصر وسوريا والعراق والجزائر. أما فى الأردن فقد شهدت العقود الثلاثة الأخيرة بلورة كيان الطبقة الوسطى وتحولها من وضع جنينى إلى وضع الطبقة الأكثر اتساعا، وبرغم عدم الاستقرار فى أوضاعها تحت ضغط الأزمة الاقتصادية والمصاعب المعيشية إلا أنها مرشحة فى المدى المنظور أن تحافظ على هذا التمايز انطلاقا من غلبة الطابع الخدماتى على الاقتصاد الأردنى(9). وهناك عوامل أخرى مكملة لعبت دورا فى اتساع حجم الطبقة الوسطى مثل ارتفاع معدلات التحضير وهيمنة قطاع الخدمات وزيادة معدلات الحراك الاجتماعى(10). ويعود جانب كبير من الحراك الاجتماعى إلى هجرة العمالة فى عدد من الأقطار العربية كمصر واليمن والسودان وسوريا إلى العمل فى دول الخليج وتحولهم بعد العودة إلى الاستثمار فى مشروعات صغيرة ذات طابع فردى أو عائلى. فكانوا بذلك رافدا جديدا للطبقة الوسطى ساهم فى توسع حجمها بالإضافة إلى الروافد التى سبق الإشارة إليها. ومما يؤكد أهمية هذا الرافد الإحصائيات حول حجم التحويلات بالخارج فى عدد من الأقطار العربية، فقد بلغت هذه التحويلات فى مصر 12% من الناتج المحلى الإجمالى، وفى اليمن تراوحت ما بين 10%، 20.4% من الناتج المحلى، كما تراوحت فى الأردن بين 12.8%، 15% وفى سوريا ما بين 2%، 2.2% (11).
ونتيجة لهذا التوسع فى حجم الطبقة الوسطى وتنوع فئاتها فقد ارتفعت الأهمية النسبية للفئات المتوسطة فى المجتمع، وقد تجاوز دورها الاجتماعى والسياسى فى أحيان كثيرة وضعها العددى، ويعود هذا التطور فى دورها ووضعها بالمجتمع إلى عاملين أولهما ارتباطها بجهاز الدولة والجيش والخدمات الحديثة، والعامل الثانى هو تعليمها وثقافتها، ومن ثم تشكيلها نخبة واعية تحظى بالاحترام والكلمة المسموعة من الجماهير الأمية والفقيرة والتقليدية. حدث هذا التصاعد فى دور ونفوذ الفئات الوسطى فى كثير من الأقطار العربية خلال الستينيات وحتى منتصف الثمانينات، ونتيجة لهذا نمت فئة اجتماعية جديدة من قلب الفئات المتوسطة يسميها الحبيب المالكى فى المغرب الفئة التقنوبيروقراطية (12) ويسميها عادل غنيم فى مصر الطبقة الجديدة ولها صور مماثلة فى العراق وتونس وسوريا كان لها الدور القيادى فى القطاع العام وأجهزة الدولة الحديثة أصبحت مع سياسات التكيف الهيكلى أحد روافد الرأسمالية المعاصرة. وكان لسياسات ثورة الفاتح من سبتمبر فى ليبيا الاقتصادية والاجتماعية التى تتوافق مع رغبات الأغلبية ومنها الإسكان المجانى والرعاية الطبية والتعليم أثر كبير فى اتساع الفئات المتوسطة وتزايد نفوذها السياسى والاجتماعى والاقتصادى، مما قلب النظام القديم جذريا وتغير التركيب الاجتماعى للمجتمع الليبى نحو مزيد من التحديث.
خلال هذه الفترة من الخمسينات حتى الثمانينات كان للطبقة المتوسطة دور تحديثى تقدمى فى المجتمع، ساهمت فى مجملها فى تقدم المجتمع، وطرحت رؤى فكرية تدعو لمواصلة التقدم نحو آفاق إنسانية تؤكد قيم الاستقلال الوطنى والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وساندت المشروع القومى الذى طرحته ثورة 23 يوليو بقيادة جمال عبد الناصر ليس فى مصر وحدها بل على امتداد الوطن العربى، وتشكل تيار قومى تقدمى غالب تعددت تنظيماته السياسية فى كثير من الأقطار العربية كان قوامه وقيادته لقطاعات من الفئات الوسطى وخاصة المثقفين.

أزمة الطبقة الوسطى (**)
دور متغير وقيم مختلفة

اختلف الحال تماما بالنسبة للطبقة الوسطى فى مختلف الأقطار العربية مع تطبيق سياسة الانفتاح فى السبعينات وسياسة التكيف الهيكلى فى الثمانينات، فلم يعد التعليم مجانيا وضعف دوره فى الحراك الاجتماعى، وتخلت الدولة عن سياسات الدعم وعن توظيف الخريجين، وطبقت برامج لخصخصة القطاع العام فاستغنت عن أعداد كبيرة من العاملين به. وارتفعت أسعار السلع والخدمات الأساسية، واتسعت الفوارق بين الدخول بشكل كبير وتشكلت فئات رأسمالية جديدة قامت على النشاط الطفيلى مثل المضاربة على أسعار أراضى البناء والتجارة فى العملة الأجنبية والتهريب وأعمال الوساطة والسمسرة وتكونت ثروات كبيرة فى وقت قصير للغاية. كما أن التقدم التكنولوجى أدى إلى توفير العمل وتوفير الوقت فظهرت أبعاد جديدة لمشكلة البطالة فأصبحت بطالة هيكلية حيث أصبح من الممكن وجود نمو متصاعد ونمو البطالة فى نفس الوقت، وحلت المشروعات كثيفة رأس المال محل المشروعات كثيفة العمالة (13) .
هكذا دخلت الطبقة الوسطى مرحلة جديدة طابعها المميز أزمة ممتدة لا يبدو واضحاً الآن كيف ستخرج منها. فالبطالة تضيف إلى صفوف الطبقة المتوسطة ملايين الشباب المتعلم الذى يعيش عالة على الأسرة وينخفض نتيجة لذلك نصيب الفئات الوسطى من الدخل القومى وستضعف الضمانات التى كانت تتمتع بها نتيجة قبول العاملين أجوراً أقل وضمانات أقل من أجل الحصول على العمل.
ولم يعد ممكنا أن تحل مشاكلها من خلال نفس العوامل التى ساعدت فى الماضى على توسعها مثل الهجرة والتعليم والانفتاح. ومما يضاعف من أزمة الطبقة الوسطى فى العديد من الأقطار العربية تغير تركيبتها الاجتماعية بانضمام فئات جديدة إليها كونت ثروات بسرعة كبيرة نتيجة العمل فى دول الخليج أو نشاط غير منتج بالداخل، فاكتسبت بذلك خصائص جديدة، فهذه الفئات تمجد الحصول على الثروة بدون عمل وتستسهل إنفاق ما حصلت عليه فى أسرع وقت لأنها لم تبذل جهداً كبيراً أو تنفق وقتا طويلاً فى الحصول عليه، وهى خصائص منخفضة جداً عن الخصائص التى ميزت نفس الطبقة فى النصف الأول من القرن العشرين. ويتساءل الدكتور جلال أمين ما الذى يجعل الطبقة المتوسطة تظهر خصائصها الإيجابية أو السلبية ويجيب على ذلك بأنه مصدر الدخل، هل هو عمل منتج أو حتى استثمار منتج أم عمل غير منتج. هناك فارق كبير بين أن تحصل على دخلك من الصناعة أو الزراعة وبعض أنواع التجارة، وأن تحصل عليه من خلال التضخم أو الهجرة للعمل فى الخارج التى وفرت دخلاً كبيراً فى فترة قصيرة (14). كما أن السرعة التى تكونت بها الثروة تنعكس قيمياً على صاحبها. من هنا فقد شهدنا فى السنوات الأخيرة شرائح من الطبقة الوسطى تتصرف انطلاقاً من قيم معاكسة، قيم الفهلوة والاستسهال وانعكس ذلك على موقفها الفكرى فتحولت إلى الاتجاهات المحافظة وساندت الجمود بل والارتداد إلى الماضى.
نستطيع أن نقدم أمثلة عديدة لأزمة الطبقة الوسطى فى العديد من الأقطار العربية، وتعود جميعاً إلى نتائج تطبيق سياسات الانفتاح والتكيف الهيكلى. فقد أدى تخلى الدولة عن دورها فى الدعم وارتفاع الأسعار وتوقف الاستثمار إلى الانتفاضات الشعبية وإضرابات الخبز احتجاجاً على هذه السياسات وتردى الأحوال المعيشية فى مصر سنة 1977 وفى الجزائر سنة 1988 وفى تونس سنة 1984 وفى المغرب سنة 1981 وفى السودان.
فى مصر، تعرضت الطبقة الوسطى لنهب حقيقى وغير مسبوق لمدخراتها، حيث نهبتها أولاً شركات توظيف الأموال التى استغلت الدين فقدمت نفسها للعاملين فى الخارج جانب مهم من المدخرين فى الداخل على أنها نموذج للاستثمار الإسلامى، فنهبت مليارات الجنيهات معظمها من الطبقة الوسطى وتعرضت الطبقة الوسطى لنهب آخر من خلال البورصة المصرية التى شهدت عمليات تلاعب وتحايل واسعة النطاق من قبل شركات السمسرة والشركات المدرجة بالبورصة.
وأدت معدلات التضخم المرتفعة مع أزمة الركود التضخمى فى نهاية الثمانينيات إلى إفقاد مدخرات الطبقة الوسطى الجانب الأكبر من قدرتها الشرائية حيث كانت معدلات الفائدة أقل كثيراً عن معدل التضخم السائد.
وحــالياً تتعرض الطبقة الوسطى لتآكل قيمة مدخراتها بسبب التدهور المتواصل والسريع لسعر صرف الجنيه المصرى ولقدرته على شراء السلع والخدمات الأجنبية بل والمحلية أيضاً (15) .
وارتفعت معدلات البطالة لتشمل فى مصر أكثر من ثلاثة ملايين شاب وفتاة، وفى اليمن بلغت نسبة البطالة سنة 1998 ما يقرب من 8.2% من قوة العمل بالإضافة إلى البطالة السابقة، وفى لبنان تتراوح نسبة البطالة بين 7% -9% من مجموع قوة العمل منهم 79% ذكور، وفى المغرب العربى تتراوح معدلات البطالة بين 20% -25% من قوة العمل. ارتفعت إلى 30% من المجموع الإجمالى للقوى العاملة أو ما يعادل 2.8 مليون عاطل سنة 2001، بالإضافة إلى إلغاء ما يقارب 300 ألف وظيفة غير قابلة للتعويض نتيجة تصفية عدد كبير من المؤسسات (16).
كما شهدت هذه البلدان جميعاً بالإضافة إلى التضخم والبطالة زيادة فئات المهمشين فى المجتمع والعاملين فى الاقتصاد السرى لا يتمتعون بالخدمات، ولا تسرى عليهم قوانين التأمينات الاجتماعية.
وفى لبنان ونتيجة للحرب الأهلية أصاب الخراب الفئات الوسطى على نطاق واسع، الأجراء منهم بشكل خاص والحرفيون، وصغار رجال الأعمال والتجار وأصحاب المهن الحرة، وضيق الإفقار حدود هذه الطبقة فنشأت على هوامشها فئات طفيلية استطاعت فى الحرب تكوين ثروات طائلة فى الداخل والخارج عن طريق السمسرة والتهريب والاتجار فى السلاح وفرض القوة والاستيلاء على المال العام.
ونتيجة لهذه التطورات الاقتصادية والاجتماعية وما ألحقته من أضرار بالفئات الوسطى أصاب الإحباط كثيراً من أبنائها وفقدوا الأمل فى المستقبل نتيجة لاستشراء البطالة والفقر والغلاء والتهميش مما دفعهم إلى الخروج على المجتمع والانتماء إلى تنظيمات متطرفة حملت السلاح ضد السلطة وضد المجتمع فى نفس الوقت وشهدت مصر موجة عنيفة من الأعمال الإرهابية لما يقرب من عشر سنوات وما زالت الجزائر تعانى من هذه الظاهرة وكذلك اليمن، وهناك أقطار عربية أخرى تعانى بدرجات أقل من ظاهرة العنف، كما أصاب الحياة الاجتماعية قدر كبير من التوتر وتزايدت معدلات الجريمة وخاصة الجريمة الاقتصادية. ومن النتائج الخطيرة لهذه التطورات أن الفساد اخترق الفئات الوسطى وأصبحت بعض قطاعاتها شريكاً فى الفساد باعتباره آلية لنهب ثروات البلاد أكثر منه انحرافاً فردياً، وحدث هذا الاختراق نتيجة لتدهور الأحوال المعيشية ونتيجة لسلوك الفئات الطفيلية. أما أخطر النتائج على المستوى السياسى فهو خروج الفئات الوسطى من التحالف الحاكم بعد أن كانت أحد الأعمدة الأساسية لنظم الحكم الوطنية بعد الاستقلال لدرجة القول بأنها كانت نظم الطبقة الوسطى كما قيل عن نظام الحكم الناصرى فى مصر ونظم الحكم فى سوريا والعراق والجزائر. وكان لوجود هذه الطبقة ضمن التحالف الحاكم أثر كبير فيما تمتعت به هذه المجتمعات من استقرار سياسى واجتماعى وسيكون لخروجها من التحالف الحاكم وتهميشها اجتماعياً وسياسياً أثرًا كبيرًا فى دخول هذه المجتمعات مرحلة من عدم الاستقرار نعيشها بالفعل وسوف تعانى مجتمعاتنا من ويلاتها أكثر فأكثر فى المستقبل خاصة وأن الفئات الحاكمة حالياً ليست على استعداد للتنازل عن مكاسبها واستئثارها بالقسم الأكبر من الدخل القومى كما أنها ليست مستعدة للتنازل عن احتكار السلطة ولا تبدى استعداداً عملياً لفتح الباب أمام التطور الديمقراطى الحقيقى الذى يستوعب الطبقة الوسطى فى الحياة السياسية.
احتمالات المستقبل
تقف شعوب الأمة العربية وكذلك الطبقة الوسطى فى مختلف الأقطار العربية فى مفترق طرق عليها أن تختار فيه طريقها للمستقبل، ولا يجوز لها أن تتلكأ كثيراً فى الاختيار، لأنه لم يعد أمامها فسحة كافية من الوقت فهناك ضغوط الخارج المتزايدة من مصادر متعددة سواء كانت الهيمنة الأمريكية العسكرية والاقتصادية أو كانت التهديدات الأمريكية والأوروبية بضرورة إجراء إصلاحات اقتصادية وديمقراطية تدخل بمقتضاها المجتمعات العربية طوعاً فى الاقتصاد الرأسمالى المعولم بلا قيد أو شرط. وهناك أيضاً التهديد الناجم عن تصاعد الصراع الإسرائيلى الفلسطينى وتزايد القمع الإسرائيلى مما يهدد بالانفجار، هذا بالإضافة إلى التحديات الداخلية المتمثلة فى الأزمة الاقتصادية الاجتماعية المحتدمة وتداعياتها من بطالة وفقر وتهميش وتدهور اقتصادى شامل مصحوباً بأزمة سياسية حادة. وبالتالى فإن تقاعس نظم الحكم العربية عن إجراء تغييرات حقيقية فى السياسات الاقتصادية والاجتماعية ستكون له تداعيات خطيرة ليس فقط على الطبقة الوسطى بل على المجتمع كله. وفى هذه الحالة يمكن أن يصدق تحذير المفكر الاقتصادى الراحل الدكتور رمزى زكى "وداعاً للطبقة الوسطى" والذى يرى أن مصيرها التآكل حيث يتحول جزء كبير منها إلى أسفل، إلى طبقة العمال بما تعانيه هذه الطبقة أصلاً من ضغوط ومشكلات، أما الشريحة العليا فإنها ستلحق بالفئات العليا فى المجتمع مستفيدة مما يجرى وخاصة كبار الضباط وكبار رجال القضاء وأساتذة الجامعات وقدرتهم على استصدار قرارات تفيدهم وتحميهم لقربهم من صانع القرار وخدمتهم له فى نفس الوقت.
أما الطريق الآخر الذى يتعين انتهاجه فى مواجهة المشكلات التى أشرنا إليها فيبدأ بإدراك أن أزمة الطبقة الوسطى فى الوطن العربى هى جزء من أزمة التنمية، وأن تجاوز هذه الأزمة يتطلب صياغة استراتيجية تنموية جديدة تتحدد أولوياتها وبرامجها طبقاً لاحتياجات الشعوب وليس من خلال وصفات المؤسسات الرأسمالية الدولية كصندوق النقد الدولى والبنك الدولى وإملاءات قوى العولمة الرأسمالية، وأن يتم التركيز على تطوير قدرة القوى البشرية وتأهيلها بما يتناسب مع متطلبات العصر، ومراعاة تحقيق العدالة فى توزيع الدخل القومى، وعودة الدولة للقيام بدور أساسى فى حماية الفئات الفقيرة والضعيفة فى المجتمع والمساهمة فى الإنتاج لتوفير الاحتياجات الأساسية لهذه الفئات. وأن يفتح الباب فى نفس الوقت أمام مزيد من المشاركة الشعبية فى الحياة السياسية بحيث يكون للشعب دور واضح فى صياغة السياسات العامة وتحديد أولوياتها، وبالتالى يكون مستعداً للمشاركة فى تحمل أعبائها. باختصار فإن التنمية الوطنية والديمقراطية هما الطريق الوحيد أمام المجتمعات العربية لتجاوز أزمتها الراهنة ومن ضمنها أزمة الطبقة الوسطى لتعود من جديد إلى القيام بدورها فى التبشير بالقيم الإنسانية قيم العدالة والعمل والمساواة والحرية وتقوم فى نفس الوقت بدورها فى توفير الاستقرار الاجتماعى والسياسى لجهود التنمية.
الهوامش
1-د.إسماعيل صبرى عبد الله، دراسات فى الحركة التقدمية العربية، التنمية المستقلة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى-يونيو 1987 ص 235.
2-د.إسماعيل صبرى عبد الله، المرجع السابق ص 236.
3-محمد عبد الحميد، الطبقة الوسطى، هموم مصر وأزمة العقول الشابة تحرير أحمد عبد الله، مركز الجيل للدراسات الشبابية والاجتماعية، القاهرة، الطبعة الأولى 1994، ص 12.
4-د,محمود عبد الفضيل تضاريس الخريطة الطبقية فى الوطن العربى، دراسات فى الحركة التقدمية العربية، مرجع سابق، ص 278.
5-محمد عبد الحميد، هموم مصر وأزمة العقول الشابة، مرجع سابق، ص 20.
6-د.رمزى زكى، الطبقة الوسطى وداع نهائى أم عودة خافتة، نداء الجنوب، إصدار مركز بحوث ودراسات البلدان النامية، جامعة القاهرة، العدد الثانى، يناير 2002، ص 133.
7-د.محمود عبد الفضيل، الطبقة الوسطى، حوار مع المستقبل، كتاب الهلال مارس 1995، ص 206.
8-د.محمود عبد الفضيل، تضاريس الخريطة الطبقية فى الوطن العربى، مرجع سابق ص 277.
9-حسين أبو رمان، تطور الحياة السياسية فى الأردن، المجتمع والدولة فى الوطن العربى فى ظل السياسات الرأسمالية الجديدة (إشراف د.سمير أمين) المشرق العربى، مركز البحوث العربية، القاهرة، مكتبة مدبولى 1998، ص 46.
10-د.جلال عبد الله معوض، السياسة والتغير الاجتماعى فى الوطن العربى، مركز البحوث والدراسات السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة، 1994، ص 244.
11-د.جلال عبد الله معوض، المرجع السابق، ص 244.
12-الحبيب المالكى، رأسمالية الدولة البورجوازية فى المجتمعات التابعة – حالة المغرب، المجلة المغربية للقانون والسياسة والاقتصاد، العدد 8 النصف الثانى من مارس 1980 ص 100-101.
13-د.رمزى زكى، الطبقة الوسطى وداع نهائى أم عودة خافتة، مرجع سابق، ص 133.
14-د.جلال أمين، الطبقة الوسطى: دواعى التفاؤل اقتصادياً، نداء الجنوب، مرجع سابق ص 147.
15-أحمد السيد النجار، جريدة العربى، القاهرة، العدد 895 يوم 8/2/2004، ص 7.
16-د.عروس الزبير، الجمعيات العاملة فى مجال حقوق الإنسان، مركز البحوث فى الاقتصاد التطبيقى من أجل التنمية، الجزائر، مارس 2004، غير منشور ص 6.
**البيانات حول الأوضاع الراهنة للطبقة الوسطى فى الأقطار العربية مستمدة من دراسة المجتمع والدولة فى الوطن العربى فى ظل السياسات الرأسمالية الجديدة، إشراف د.سمير أمين، الجزء الثالث المشرق العربى، والجزء الرابع المغرب العربى، إصدار مركز البحوث العربية بالقاهرة، نشر مكتبة مدبولى 1998