تطور الفكر الاشتراكى فى مصر1970-2000 الجزء الأول


عبد الغفار شكر
2004 / 9 / 3 - 10:47     

حفلت السنوات الثلاثون الأخيرة من القرن العشرين بالعديد من المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى مصر، وكان لهذه المتغيرات أثر كبير فيما شهده المجتمع المصرى من تحولات كبرى شملت السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وعلاقات مصر الاقليمية والدولية، كما طالت هذه التحولات النظام السياسى والتركيب الطبقى للسلطة السياسية. وقد اقترنت هذه المتغيرات فى مصر وما أعقبها من تحولات بمتغيرات على الصعيد الاقليمى والدولى كان لها تأثيرها الواضح على ما يجرى في مصر من تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية. ونتيجة لذلك تصاعد الصراع الفكرى والسياسى داخل مصربين مختلف التيارات الفكرية والقوى السياسية حول مستقبل البلاد، وكان للقوى الاشتراكية فى مصر دور ملموس فى هذا الصراع الفكرى والسياسى فى مواجهة اطروحات القوى الأخرى الليبرالية والقومية والدينية، ولم يقتصر اسهام الاشتراكيين فى هذا الصراع على تفنيد آراء ومواقف القوى الأخرى، بل قام الاشتراكيون أيضًا بمراجعة مواقفهم السياسية السابقة وطرحوا رؤية سياسية جديدة من بعض القضايا الأساسية على النحو الذى سنوضحه فيما بعد.
فى خضم هذا الصراع الفكرى والسياسى حول مستقبل مصر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة تطور الفكر الاشتراكى فى مصر على ضوء ما قام به من مراجعة لمواقفه السياسة السابقة وتقييمه للتطورات على الصعيد الدولى وفى المجتمع المصرى، ابتداء من فشل جهود التنمية الوطنية المستقلة ليس فى مصر فقط بل فى كثير من دول العالم الثالث، وتصاعد المديونية الخارجية لهذه الدول ومن بينها مصر مما أوقعها جميعا فى إطار التبعية الاقتصادية والسياسية، ورضوخها لتوجيهات الدول الدائنة والمؤسسات الرأسمالية الدولية كصندوق النقد الدولى والبنك الدولى بتنفيذ سياسات التثبيت والتكيف الهيكلى والتحول إلى اقتصاد السوق، والغاء كافة القيود التى تحول دون امتداد الاستثمار الخاص المصرى والأجنبى إلى كافة المجالات والقيود التى تحول دون اندماج اقتصاديات هذه البلدان ومن ضمنها مصر فى السوق الرأسمالى العالمى وفق الشروط التى وضعتها الدول الرأسمالية المتطورة. ومن النتائج السياسية الهامة لهذه التحولات الاقتصادية تصاعد النفوذ السياسى لرجال الأعمال، والأخذ بالتعددية السياسية والحزبية ، وتحقيق انفتاح محسوب فى المجالات الاعلامية والثقافية مع استمرار المقومات الأساسية للنظام السياسى السلطوى. ومع تغير تحالفات مصر الدولية وتوطيد علاقاتها بالولايات المتحدة الامريكية عقدت صلحا منفردًا مع اسرائيل كان له تأثير سلبى على علاقاتها العربية وعلى علاقات القوى الاقليمية لصالح اسرائيل باخراج مصر اكبر دولة عربية واكثرها قدرة عسكرية من ساحة الصراع العربى الاسرائيلى، ولم تسلم مصر من تأثير المتغيرات الدولية وخاصة أنهيار الاتحاد السوفيتى وتفتته وتحول دوله السابقة إلى الرأسمالية، وتحول باقى دول المعسكر الاشتراكي فى شرق أوروبا إلى الرأسمالية، واختفى بذلك من الوجود الحليف الأساسى لمصر ودول التحرر الوطنى مما أضعف قدرتها على الصمود فى مواجهة ضغوط الدول الرأسمالية الكبرى. ولم تكن هذه التطورات بمعزل عن قدرة الرأسمالية على تجديد نفسها وتجاوز ازماتها مستفيدة من الثورة العلمية والتكنولوجية المعاصرة وما حققته من انجازات فى مجال الحاسبات وعلوم الكومبيوتر ووسائل الاتصال والمواصلات والتكنولوجيا المتطورة وتطبيقاتها العسكرية والهندسة الوراثية....الخ.
وهكذا كانت هذه التحولات على الصعيد الوطنى والاقليمى والدولى، وفى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية موضوعا للصراع الفكرى والسياسى فى مصر بين مختلف التيارات الفكرية والقوى السياسية الليبرالية والاشتراكية والقومية والدينية، وداخل كل تيار. تناول هذا الصراع العديد من القضايا والاشكاليات التى طرحتها هذه التحولات مثل مدى صلاحية أطروحة التنمية المستقلة فى العالم الثالث على ضوء زيادة الاعتماد المتبادل عالميًا، وفشل النموذج السوفيتى للاشتراكية وتأثيره على مستقبل الاشتراكية، والتغير فى بنية الطبقة العاملة والطبقة الوسطى، والموقف من الديمقراطية، ومستقبل الصراع العربى الصهيونى، والعلاقات الدولية السياسية والاقتصادية المعاصرة فى إطار ظاهرة العولمة، وتكثيف الاستغلال الرأسمالى على الصعيد العالمى، وصراع الحضارات وحوار الثقافات ...الخ.
ساهم اليسار المصرى فى المناقشات الدائرة حول هذه القضايا وغيرها، ويمكننا أن نرصد بالفعل ماحدث من تطور فى الفكر الاشتراكى المصرى من خلال متابعتنا لاسهاماته فى هذه المناقشات، ومن ثم فإنه بالامكان التعرف على مواقفه الجديدة ازاء القضايا الأساسية التى تناولتها المناقشات، والتعرف بالتالى على نوعية التطور الذى تحقق فى الفكر الاشتراكى المصرى.


ومن المهم أن نتوقف أولاً عند الملاحظات التالية حول كيفية اعداد هذه الورقة :
أولاً : اعتمدت فى رصد مواقف اليسار المصرى وتطوره الفكرى على برامج الأحزاب التى ترى أن الاشتراكية هى النظام الأقدر على حل مشاكل المجتمع المصرى وتحقيق تقدمه، وهى حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى والحزب الشيوعى المصرى والحزب العربى الديمقراطى الناصرى.
وتابعت أيضًا ما نشر فى منبرين يساريين هامين هما سلسلة كتاب قضايا فكرية التى يصدرها الاستاذ محمود أمين العالم ومجلة اليسار التى يرأس تحريرها الاستاذ حسين عبد الرازق، وكلا المنبرين يعلن التزامه بالماركسية لكنه يتيح النشر لآراء نابعة من مواقف اشتراكية لا تلتزم بالماركسية، وكذلك الندوات التى عقدها مركز البحوث العربية حول اليسار العربى وقضايا المستقبل وحول فكر جرامشى وسياسة البريسترويكا التى عرضت فيها مواقف متنوعة فى صفوف اليسار المصرى، وركزت بصفة خاصة على الندوات التى نشرت بهما ودراسات ومقالات بقضايا فكرية ومجلة اليسار ومنابر صحيفة أخرى لقيادات يسارية مستقلة أو حزبية لكنها فيما تنشره تعبر عن وجهة نظر شخصية مستندة فى ذلك إلى خبرتها النضالية وامكانياتها الفكرية وتحظى بالاحترام والتقدير من دوائر يسارية واسعة.
كما حرصت على التعرف على آراء ومواقف بعض القيادات اليسارية التى تعبر عن رؤية تنظيمات سياسية يسارى غير معلنة ولم يتح لنا الاطلاع على وثائقها الاساسية.
وهكذا فإن قائمة المراجع تشمل دائرة واسعة من اليسار المصرى الماركسى وغير الماركسى من أحزاب وتنظيمات ومنابر ثقافية واعلامية ومفكرين وكتاب وقيادات مثل الدكتور اسماعيل صبرى عبد الله، الدكتورسمير أمين، الدكتور محمد محمود الامام، الدكتور ابراهيم سعد الدين، الدكتور خليل حسن خليل، فريدة النقاش، صلاح العمروسى، نبيل الهلالى، الدكتور محمود عبد الفضيل، الدكتور عبد النعم تليمه، الدكتورحسام عيسى، محمود أمين العالم، حسين عبد الرازق، الدكتور ابراهيم العيسوى، الدكتور جودة عبدالخالق.
ثانيًا: يندرج ما نعرضه هنا من آراء ومواقف فى إطار الفكر السياسى الاشتراكى، فاليسار المصرى لم ينطلق فى تطويره لمواقفه من تصور نظرى متكامل، ولم يتطرق فى الغالب إلى معالجات نظرية تتصل بأسس الفكر الاشتراكى، بل ركز اهتمامه على قضايا سياسية لها صلة بالواقع القائم وكيفية التعامل معه وسبل تغييره، ولهذا فإن اليسار المصرى ما يزال حتى الآن يرى أن النواقص التى شابت المجتمعات الاشتراكية وأدت إلى سقوطها تعود إلى اخطاء التطبيق وليس العيب فى النظرية. كما أنه ما يزال يطور مواقفه حتى الآن على ضوء ما يستجد من متغيرات وتطورات على الصعيد المحلى والاقليمى والدولى.
ثالثا: تحتاج متابعة تطور الفكر الاشتراكى المصرى فى السنوات الثلاثين الأخيرة جهدا جماعيا ومؤسسيا، لتعدد القضايا واتساع ساحة الصراع الفكرى والسياسى وتعدد أطرافه، ولا يستطيع باحث بمفرده أن ينهض بهذه المهمة، ومن ثم فإننى سأركز فى عرضى على قضايا محدودة تشكل فى مجملها وفى ترابطها معا رؤية اليسار المصرى لمستقبل مصر وتوضيح الطريق الذى سينهجه فى نضاله من أجل هذا المستقبل . هذه القضايا هى :
-نقد النموذج السوفيتى للاشتراكية
- الموقف من الديمقراطية
- حول مسألة الانتقال إلى الاشتراكية
- اشتراكية المستقبل.
رابعًا: ولما كنا بمعرض متابعة الآراء والتعرف على ما حدث من تطور فى الفكر الاشتراكى المصرى فقد يكون مفيدا أن نعرض اقتباسات منسوبة لاصحابها ممن شاركوا فى مناقشة هذه القضيا سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات بحيث يتاح للقارئ أن يتعرف على ما تمثله هذه الآراء من ثقل فى ساحة اليسار المصرى.
خامسًا : ما نعرضه هنا على أنه تطور فى الفكر الاشتراكى المصرى لا يعبر عن كل أقسام اليسار المصرى، فهناك باستمرار آراء ومواقف وتطبيقات متعددة فى صفوف اليسار المصرى نتيجة لتعدد تنظيماته وتنوع المنطلقات الفكرية داخله، وتفاوت مستويات الوعى بين المنتسبين اليه قيادات وأعضاء، ورغم هذا التنوع فإن التطور فى رؤية ومواقف الفكر الاشتراكى المصرى التى نرصدها فى هذه الورقة تعبر عن اتجاه قوى سوف ينعكس أكثر فى المستقبل على دوائر أوسع من اليسار المصرى، لأنه كما سيتضح فيما بعد يستفيد من أخطاء التجربة السوفيتية ودروسها المستفادة.

1 - نقدا النموذج السوفيتى للاشتراكية
تطور موقف القوى الاشتراكية المصرية من النموذج السوفيتى للاشتراكية تبعا لتطور أزمته، فقد كان ينظر إليه فى البداية باعتباره النموذج الذى ترجم النظرية إلى واقع، وكان أول تجسيد للمجتمع الاشتراكى حقق فى بداياته انجازات باهرة واستلهمته مختلف التطبيقات الاشتراكية فى أوروبا وآسيا وامريكا اللاتينية (الصين. شرق اوروبا. كوبا. كوريا. فيتنام) كما استلهمته برامج الأحزاب الشيوعية والتقدمية بصفة عامة.
ثم تغير الموقف منه بعد اعلان سياسة البرويتسرويكا فنظر إليه على أنه يعانى من نواقص يمكن معالجتها لمواصلة مسيرته فى قيادة المعسكر الاشتراكى وقوى التحرر الوطنى فى مواجهة الرأسمالية العالمية. ولم يتحدث أحد فى ذلك الوقت عن احتمال سقوط التجربة الاشتراكية فى الاتحاد السوفيتى أو احتمال اختفاء الاتحاد السوفيتى نفسه من الوجود. وبعد أنهيار الاتحاد السوفيتى وتحول دوله السابقة إلى الرأسمالية عولجت نواقص التجربة السوفيتية للاشتراكية باعتبارها أمراضا خطيرة أودت به، بل وأنكر البعض أنه كان أصلا نموذجا للاشتراكية بل هو نوع من رأسمالية الدولة. وقد تحفظ البعض على هذا التقييم وأكد أن ما حدث فى الاتحاد السوفيتى يرجع أصلا إلى أخطاء فى التطبيق فقط ولا علاقة له بالنظرية الماركسية.
وفيما يلى نعرض لتطور نظرة الفكر الاشتراكى المصرى إلى النموذج السوفيتى للاشتراكية، وكيف كان هذا التطور الفكرى تاليا لتفاقم أزمة هذا النموذج.
- ثم التأكيد مبكرا وفى منتصف السبعينيات على أن "صورة مصر الاشتراكية والطرق المحددة لتحقيقها ليست مرسومة سلفا فى كتاب أو فكر بعينه، وإنما هى التحدى الحقيقى الذى يواجه قوى التقدم فى مصر التى تتحمل مسئولية التكاتف فى دراسة واقعنا واكتشاف طرق للتقدم واستطلاع ملامح مجتمعنا العربى بذهن متفتح وثقة متبادلة والتحام بالجماهير لا يتوقف لحظة واحدة. إن مصر الاشتراكية لن تولد من عدم أو تنشأ فى فراغ، بل أنها ستولد كحلقة جديدة فى تاريخ هذا الشعب، وفى إطار الحضارة العربية المتجددة.(1)
ورغم هذا التأكيد فقد كانت المقومات الأساسية للنموذج السوفيتى فى خلفية التفكير عن المجتمع الاشتراكى : مثل التخطيط المركزى - الملكية العامة لأدوات الانتاج - الحزب الواحد - هيمنة الحزب على الدولة وعلى المنظمات الجماهيرية. ولم يكن هناك رفض لهذه المقومات، ذلك »أن النموذج السوفيتى باعتباره أول محاولة لأقامة مجتمع اشتراكى مبنى على أسس علمية. وقد ظل يناضل للبقاء والتطور والازدهار نحو سبعين عاما، أحدث تبعية فكرية له، كتلك التى تربط البورجوازية فى العالم بالنظام الرأسمالى العالمى، وذلك باعتباره النظام الذى علم كثيرا من الاشتراكيين فى العالم كيف تتجسد النظرى فى تنظيم اقتصادى قوى، وما حققه من انجازات ضخمة ومساندته لنضالات الطبقات الكادحة فى مواجهة القوى المعادية للجماهير فى البلاد الأخرى"(2)
- يؤكد هذه الحقيقة ما كتب فى معرض تحليل أزمة النظام الاشتراكى فى الاتحاد السوفيتى سنة 1989 من "أن الاتحاد السوفيتى كان ولم يزل وسيبقى لفترة طويلة الركيزة الأساسية للنظام الاشتراكى العالمى، يؤثر ما يحدث فيه سلبا وايجابا لا على النظام الاشتراكى فى مجموعة فحسب، بل وعلى الحركة التقدمية فى كل مكان فى العالم. أن استمرار الأزمة والركود الاقتصادى والاجتماعى فيه كفيل بتقوية مركز الامبريالية فى الصراع العالمى الحالى، وزيادة قدرتها على فرض ارادتها عليه، وتشديد استغلالها لكل الشعوب خاصة شعوب العالم الثالث، وعلى العكس فإن انتهاء مظاهر الأزمة فى المجتمع السوفيتى والانتقال إلى مرحلة جديدة يتمكن فيها الاقتصاد السوفيتى أن يتحرك من جديد فى اتجاه سد الفجوة بينه وبين الدول الرأسمالية علميًا وتكنولوجيا وفى مستوى الدخل الفردى والحياة ، ولتعدى النظام الرأسمالى فى انتاجية العمل والتفوق عليه اقتصاديا واجتماعيا كفيل بتوفير الشروط الموضوعية للانتصار النهائى للنظام الاشتراكى الدولى على النطاق العالمى ولدحر الامبريالية وضمان حرية الشعوب فى اختيار نظامها السياسى والاجتماعى بحرية ودون تدخل"(3)
أى أنه حتى عام 1989 كان رأى قطاع كبير من الاشتراكيين المصريين أن أزمة النموذج السوفيتى يمكن تجاوزها ، وأن الخروج منها يتطلب اصلاحات اقتصادية بالنسبة لوسائل ادارة الاقتصاد القومى والوحدات الاقتصادية والتأكيد على أهمية الديمقراطية والمشاركة فى المجتمع باعتبارها حجر الزاوية فى أى اصلاح، بما فى ذلك تحقيق الديمقراطية داخل الحزب.(4) وأن تحقيق هذه الاصلاحات كفيل بتمكين الاتحاد السوفيتى من مواصلة دوره فى قيادة النضال العالمى ضد الرأسمالية. بعدها بعامين فقط انهار الاتحاد السوفيتى وتحولت دول المعسكر الاشتراكى كلها إلى الرأسمالية مما يعنى أن الازمة كانت عميقة وشاملة إلى الدرجة التى لم يكن بالامكان تجاوزها وهو ما لم يدركه الفكر الاشتراكي المصرى فى ذلك الوقت سواء لتأثره بهذا النموذج أو لعدم امتلاك الأدوات النظرية الكفيلة باكتشافه هذه الحقيقة.
- تطلب الأمر عدة سنوات بعد سقوط التجربة الاشتراكية السوفيتية وتطبيقاتها فى شرق أوروبا لكى يحسم اليسار المصرى أمره ويمارس نقدا جذريا لهذا النموذج ويطور موقفه بشكل عام من قضية الاشتراكية بالاستفادة من دروس هذه التجربة وما ينبغى مراعاته مستقبلا فى مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية وفى اشتراكية المستقبل. فلم يعد ممكنا فى الوقت الحاضر "الحديث عن بناء مجتمع حديث مستقر دون الاستناد إلى نظام ديمقراطى يحترم حقوق الانسان والحريات العامة والتعددية الفكرية والسياسية وحق المواطنين فى اختيار حكامهم واستبدالهم سلميا، فقد اسقطت التجارب التاريخية مقولات الطليعة التى تنوب عن الجماهير فى تحديد مصالحها واختياراتها، وأفكار الحزب الواحد، ودكتاتورية الطبقة، والتضحية بالديمقراطية وحقوق الانسان من أجل تحقيق التقدم الاقتصادى والعدالة الاجتماعية والتحرر الوطنى وشعارات كل الديمقراطية للشعب ولا ديمقراطية لأعداء الشعب، والديمقراطية الموجهة... الخ، وأثبتت التجارب التاريخية أيضًا استحالة تحقيق الاشتراكية بدون الديمقراطية. وأن التجربة السوفيتية التى حققت انجازات عظيمة سرعان ما لحق بها الانهيار بصورة مأساوية نتيجة لمجموعة من الأسباب، فى القلب منها نشوء نظام معاد للديمقراطية فى المجتمع وداخل الحزب الشيوعى السوفيتى، بدأ مع السنوات الأولى للثورة وتعمق إثر سنوات الحرب الأهلية وحروب التدخل والحرب العالمية. وخلال مقاومة الطبقات الاستغلالية، وعملية التصنيع وتعميم نظام الكولخوزات، وتحول النظام فى النهاية إلى نظام قمعى يقوم على دكتاتورية البيروقراطية والسلطة غير المقيدة وفساد السلطة والحزب الواحد، وادعاء امتلاك قيادة الحزب وحدها للحقيقة الكاملة، بحيث لا يشكل وجود أغلبية مخالفة لها أى مغزى أو ضرورة لإعادة النظر فيما تقرره القيادة، وسقط الحزب فى هاوية عبادة الفرد وانتهاك الشرعية، والتنكيل بالمخالفين فى الرأى وتجريم النقد، وحذف روح المناقشة الحرة والفكر المبدع من النظرية والعلوم الاجتماعية(5)
رغم هذا النقد الجذرى والادانة الواضحة للنظام السوفيتى إلا أن الفكر الاشتراكى المصرى لم يفقد ايمانه بالاشتراكية ورفض فكرة أن الرأسمالية هى نهاية التاريخ، وميز بين التجربة السوفيتية وبين الاشتراكية مؤكدا أن سقوط هذه التجربة لا يعنى نهاية الاشتراكية ولا يعنى سقوط النضال من أجل أرقى مثل أعلى صاغته البشرية لنفسها وهو الاشتراكية(6) أن الاشتراكية تراث انسانى أسهم فيه العالم، مفكروه وشعوبه، من كل لون وجنس ودين، وهى تضرب بجذورها عميقا فى تاريخ البشرية. وستظل باقية تتجدد طالما بقى الظلم الاجتماعى قائما فى شكل اقطاع أو رأسمالية، تمتص ناتج عمل الملايين من البشر، وتجعلهم ضحايا للفقر والتخلف والقهر. فطالما بقيت ملكية الأرض ورأس المال فى يد القلة وطالما حرمت الكثرة العاملة من وسائل انتاجها، ومن المنتجات التى يخلقها عملها، ستظل الاشتراكية هى سلاح الكادحين فى نضالهم للتحرر من الاستغلال والمهانة.(7)
وفى هذا الاطار تتحفظ بعض القوى الاشتراكية والكتاب الاشتراكيين على أن ما دث كان له صلة بالنظرية الماركسية فيؤكدون أن تفكك التجربة السوفيتية لم يكن لأسباب نظرية، ولكن لأسباب عملية ملموسة بسبب التطبيق الخاطئ لبعض المبادئ التى يقوم عليها النظام الاشتراكى والعجز عن تثقيف الجماهير والحزب ثقافة اشتراكية حقيقية.(8) وعدم الأخذ بتعاليم لينين بشأن المركزية الديمقراطية ومفهوم الحرية السياسية، وانتهاك المبادئ اللينينية العامة فى التنظيم الحزبى وبناء الدولة وعمل السوفيتات وتطوير الاقتصاد.(9) والتعجل فى عملية الانتقال إلى الاشتراكية، وتجاهل استمرار التناقضات فى صفوف الشعب واندماج الحزب وجهاز الدولة وهو ما يعد خروجا فظا عن التعاليم اللينينية، وأن العوامل الخارجية لعبت أيضًا دورا في صياغة أزمة الاشتراكية.(10)
خلاصة القول بأن الأزمة هي أزمة نموذج للادارة السياسية والاقتصادية . وليست أزمة الاشتراكية. وتتلخص أزمة هذا النموذج فى :
- تسلط البيروقراطية الحزبية ونفى الديمقراطية
- الاحلال الكامل لملكية الدولة لوسائل الانتاج وتصفية كافة أشكال الملكية الرأسمالية
- تحول نظام التخطيط فى ظل الملكية العامة لأدوات الانتاج إلى نظام أوامر إدارية فأصبحت كثير من الحسابات الاقتصادية غير ممكنة، خصوصًا وأن النجاح الأولى لهذا النموذج أدى إلى تغيير فى الأوضاع الاقتصادية لم يصاحبها تغيير في التنظيم الاقتصادى بمعنى جمود التنظيم الاقتصادى عند الشكل الأولى الذى طرح فى بداية التجربة.
من هنا فإن الاشتراكية تتطلب لحسن تطبيقها فى هذه المرحلة من مراحل التطور العالمى، نماذج أكثر ديمقراطية للسلطة، وأكثر كفاءة فى إدارة الاقتصاد القومى والوحدات الاقتصادية.(11) فهناك دروس اساسية ثلاث نستنتجها من نقد النموذج السوفيتى هى :
1 - الأهمية الجوهرية للالتزام بالممارسة الديمقراطية فى المراحل المختلفة لبناء وتطور المجتمع الاشتراكى، وفى النضال من أجل الاشتراكية.
2 - تقبل الاشتراكية نماذج متعددة للادارة السياسية والاقتصادية للمجتمع، أى القبول بتعدد التطبيقات الاشتراكية وفقا للواقع الملموس المحدد لكل مجتمع. فبناء الاشتراكية لا يتم فى فراغ ولا وفق نموذج نظرى وتجريدى محدد سلفا.
3 - سيادة الملكية المجتمعية لأدوات النتاج فى المجتمع الاشتراكى لا تتطلب تصفية كافة أشكال الملكية الفردية والنشاط الاقتصادى الرأسمالى أو العائلى أو الانتاج السلعى الصغير.
4 - كفاءة الاداء فى المشروعات المملوكة ملكية مجتمعية هى العامل الحاسم فى حسن أداء كفاءة المجتمع الاشتراكى.
أما المقومات الأساسية للديموقراطية فى المجتمع الاشتراكى فهى على الأقل :
- التعددية السياسية .
- التمييز بين قيادة الحزب وسلطة الشعب.
- استقلال وفاعلية المنظمات الجماهيرية ومؤسسات المجتمع المدنى.
- العلانية وتوفير المعلومات الصحيحة.
- الاحترام الصارم لحقوق الانسان والأمان من الخوف.(12)
من الجدير بالذكر أن هذا النقد للتجربة السوفيتية والدروس المستفادة منها قد ساعد اليسار المصرى على تطوير مواقفه من قضايا أخرى أساسية مثل الموقف من الديمقراطية والمسار الذى يتعين انتهاجه للنضال من أجل الاشتراكية والخصائص المميزة لعملية الانتقال إلى الاشتراكية والمقومات الأساسية للمجتمع الاشتراكى فى المرحلة المقبلة. وهو ما سنتعرف عليه من متابعتنا لتطور الفكر الاشتراكى تجاه هذه القضايا.