المثقف والسلطة: الجدل الإدماج وتهميش .


عبد العزيز الراشيدي
2010 / 8 / 30 - 21:08     


تعرف الساحة الوطنية هذه الأيام عودة لسؤال الثقافة والمثقف خصوصا بعد الأحداث التي عرفها المعرض الدولي للنشر والكتاب في ظل ولاية وزير من جيل مثقفي السبعينيات الذي انتقل من موقع المثقف الفيلسوف إلى موقع الوزير، مما يطرح من جديد سؤال المثقف والسلطة الذي طالما تم طمسه منذ بداية مسلسل التنازلات ودخول قوى كانت بالأمس القريب تحسب على اليسار في مسلسل التناوب والإلتفاف الأعمى حول المشروع المخزني. فبعدما كان المغرب في العقود الماضية ساحة زاخرة بالانتاج الثقافي والفكري، ومعترك حقيقي للصراع الايديولوجي وكان المثقف حين ذاك يلعب دوره الحقيقي في التأطير والنقد والتوعية بسلاح القلم واضعا مسافة بينه وبين السلطة مؤمنا بأن مؤسسة السلطة لا يمكن أن تنتج إلا خطاب يعكس سلطتها، ومدركا أن السلطة تقتل حرية الفكر والإبداع وحينما تنتج فكرا تنتجه على المقاس، وتحت الطلب. إن المسافة التي كانت تفصل المثقف عن السلطة في تلك المرحلة أسهمت بشكل كبير في بروز مجموعة من المثقفين ومجموعة من الأعمال التي يزخر بها الحقل الثقافي في المغرب، كما أن هذه المسافة جعلت المثقف بالضرورة في صف المعارضة لا سيما وأن مرحلة الستينيات والسبعينيات هي مرحلة صراع سياسي بين المؤسسة الحاكمة والقوى السياسية المعارضة، كما أنها مرحلة مد نضالي لم يكن المثقف بمعزل عنه سوءا من خلال الكتابة أو المسرح أو النوادي السينمائية وجمعية المجتمع المدني الكل كان منخرطا في الفعل النضالي بمختلف مستوياته.
إن هذه المرحلة ساهمت في بلورت مفارقة حقيقية حول مفهوم المثقف والمثقف العضوي، مفارقة بين المثقف الذي يرتمي في أحضان سلطة بنيتها الأساسية تتكون من الأعيان وأصحاب المال، ومثقف يرى أن موقعه الطبيعي يوجد خارج هذه البنيات، لكن بين الماضي والحاضر مسافة أخرى رسمت معالم مخالفة لما سبق أو كما يقول صاحب مفهوم المثقف العضوي المفكر والثوري الإيطالي أنطونيو غرامشي " القديم يحتضر والجديد لم يولد بعد، وما بين القديم والجديد تقع أشياء خطيرة" بالفعل ما بين القديم والحاضر وقعت أشياء خطيرة كشفت عن انتهازية فجة ومشاريع ثقافية من ورق يغيب فيها الصدق النضالي لدى مجموعة من الوجوه التي برزت في تلك المرحلة، والتي لم يكن البعض منها في الحقيقة سوى أوحال علقت بموجة النضال ورفعها الموج، لكن ها هي اليوم مع أول اشراقة شمس تندحر إلى موقع الفكر المسيطر، بل من هذه الوجوه اليوم من أصبح يهاجم تلك المرحلة معتبرا إياها مرحلة وهم وأحلام وسيطرة الايديولوجيا دون أن يلتفت لزخام الانتاجات الفكرية والثقافية لتلك المرحلة ونشاط فعل الترجمة والابداع، لكن لنا أن نسائل هؤلاء عن هذه الانتاجات التي لا وجود لانتاجات بحجمها في المرحلة،لكن ما لنا إلا أن نستعر الجواب على لسان فريديريك انجلز مخاطبا مثل هؤلاء " إن الهروب من الايديولوجية هو السقوط في أتفه الايديولوجيات" بالفعل سقط هؤلاء الدعاة في حبل أتفه الايديولوجيات وسارت الكتابة إنشاء وتنميق وزخرفة لغوية ومفاهيمية، وساروا عبادا للدرهم وللصالونات والفنادق الفخمة. ودون حشمة ولا حياء ينتقدون زمن ما كان لهم أن يكونوا لولا شروطه وحركيته، فأين هم الآن من كل ما يقع في البلد من مسخ ثقافي وإغراق في المفاهيم المفرغة من مضمونها الحقيقي والتي كان على المثقف أن يلعب دورا كبيرا في نقدها من قبيل الحداثة والديموقراطية والحرية والتعددية ... وزد على ذلك من المفاهيم ذات الأصول الفلسفية، لكن الأغلبية من المثقفين فروا إلى الصمت أو إلى الضفة الأخرى وكلاهما وجه لعملة واحدة، لكن بين هذا وذاك لم تجف منابع المقاومة بل ظل العديد المثقفين و المبدعين الأحرار بعيدين عن مزدات السلطة أوفياء لمهمة المثقف كناقد لموقع مجتمه بين المجتمعات الأخرى بدون تسامح ولا تملق ، والأكثر من ذلك لازلنا نلاحظ اليوم بروز وجوه جديدة من جيل المثقفين الشباب من خلال مجموعة من المنابر الإعلامية كوجهة نظر و موقع الحوار المتمدين و حركة المدونين الشباب ... وفي هذا الصدد أتذكر مقولة جميلة تقول " يمكن أن تكدب على بعض الناس لبعض الوقت ،لكن لايمكن أتكدب على كل الناس كل الوقت" بالفعل لا يمكن فرغم كل محولات السلطة لتحواء النخبة المثقفة وصناعتها على المقاس لم تفلح في إحتواء الكل مادامت هنالك مقاومة كخيار وجودي وفكري ونضالي .لكن في المقابل يبقى السؤال مطروح على كل من صد وخان وقال عن نفسه مثقف أو رفعته السلطة في عملية إستدماجها إلى مستوى المثقف ،فكيف لكل من يدعي الثقافة والفكر أو البحث الأكاديمي أن يصمت على هول المغالطات المفاهيمية التي تغزو المرحلة الحالية من قبيل القول بدولة الحق والقانون في ظل واقع القمع أو القول بالحداثة والديموقراطية في ظل نظام مخزني غارق في الرجعية، والأنكئ من ذلك الحديث عن المشروعية الدينية للدولة في القرن الواحد والعشرين أو الحديث في الخطابات الرسمية عن الرعية. فكيف لمثقف إذن متشبع بنصوص إيمانويل كانط (مؤسس خطاب الحداثة وناقد مفهوم الرعية) وحنا أرونت وميشيل فوكو وجاكلين روس... أن يقف صامتا أما م هذا الوبيل من الأضداد، فأي حديث عن الحق والقانون في ظل الحكم الفردي المطلق وأي كلام عن الحداثة في ظل القول بالشرعية الدينية للحكم وسيادة الزوايا ؟ إلى متى سيظل المثقفين في وطننا يركنون إلى الصمت ويرفعون شعارات لا علاقة لها بواقع الحال حينما يتواجدون خارج الوطن أو في صالونات الفكر أو مدرجات الجامعات؟ .
لكن من جهة أخرى وكتأسيس لنقاش نتمنى أن يسود في صفوف اليسار ومثقفيه الاهتمام بالمسألة الثقافية كواجهة لا تقل أهمية عن واجهات الصراع الأخرى، لأن ما وصل له الوضع نتحمل فيه كمناضليين يسارين وتقدميين قسط من المسؤولية، بل إن تراجعنا على المستوى السياسي يرتبط بشكل أو بآخر بتركنا للمعترك الثقافي فارغا لأشباه المثقفين ومحترفي الانشاء والمرتزقين على الإرث الثقافي للحركة التقدمية.
إذن لا بديل عن العودة لهذا المعترك لنحي الوصل بأنفاس،قلام، والطريق، دفاتر فلسفية والجدل وأنوال، كلها أشياء في انتظار عودتنا، لما لا ونحن من ساهم في صنع هذا التاريخ في نضالنا السياسي الذي لم يفصل يومابين السياسي والثقافي .