في التناقض بين الحداثة والمقدس


عبد العزيز الراشيدي
2010 / 8 / 28 - 22:34     



إن المنشغل بالتفكير في الحقل السياسي بالمغرب اليوم يجد نفسه لا محالة أمام استثناء سياسي خارج الزمن الفكري المتطور للفكر السياسي العالمي نظرا لهول المتناقضات التي يحفل بها هذا الحقل الذي يغرق في الخصوصية على حساب الكونية ويحاول باستمرار استدماج مفاهيم شكلت معالم الفكر السياسي الحديث والمعاصر في بنيتيه القروسطية، بيد أن كل هذه المحاولات تفضي في نهاية المطاف إلى صور هجينة أبعد ما تكون من حجم الشعارات السياسية والمفاهيمية التي تروج لها الوسائل الدعائية للنظام المخزني القائم في المغرب. فأية امكانية إذن تبقى للحديث عن الدولة الحداثية أو ما أصبح يعرف في العلوم السياسية بدولة الحق والقانون في ظل هذا الوضع الهجين لدولة تريد أن تكون حداثية وقروسطية في نفس الوقت؟
إن المدخل الحقيقي لتناول هذا الإشكال من وجهة نظري يستدعي منا في البدء حل التناقض القائم بين مفهومين أساسيين يقوم عليهما الخطاب السياسي الرسمي في المغرب ويتمثل هذا التناقض أساسا بين مفهوم المقدس ومفهوم الدولة الحداثية والديمقراطية مع العلم بأن العلاقة بين هذان المفهومين علاقة صراع وتنافر على طول مسار تطور الفكر السياسي.
فكشف هذا التناقض هو السبيل الكفيل بصد وتعرية ديماغوجية الخطاب الرسمي حول العهد الجديد الذي لا يحمل من الجدة ولا الحداثة سوى الاسم وتسويق الأوهام عبر استقطاب النخب التي تتقن استبدال الجبة ولعبة التدحرج من الحداثة إلى غياهب التفكير اللاهوتي ،لكن لا يهم فصوتهم لن يعلو على صوت التاريخ والنصوص المؤسسة للفكر السياسي الحديث والمعاصر، إذن لنطرح السؤال الذي يهرب منه هؤلاء الساسة في تحليلهم للخطاب السياسي الرسمي فهل هناك الآن في المغرب أية امكانية للحديث عن الدولة الحداثية في ظل سيادة مفهوم المقدس؟ وهل يمكن الحديث عن أي تطور نحو دولة الحق والقانون في ظل نظام سياسي يقوم على البند 19 في الدستور؟ وكيف يمكن الحديث عن أي انفراج سياسي مادام المتحكم في خيوط العمل السياسي مقدس ومنزه عن النقد؟

إن أي تحليل موضوعي أو أكاديمي للخطاب السياسي الرسمي لن يكون تحليلا حقيقيا دون الوقوف عند هذا التناقض القائم بين المقدس والحداثة السياسية، إذ لا يمكن أن نتحدث عن دولة حداثية بكل ما لهذا المفهوم من معنى دون العودة إلى الجذور الفكرية لهذا المفهوم الذي لا يمكن أن نفصل بينه وبين أسسه النظرية والسياسية التي ارتبطت أساسا بحركة الإصلاح الديني والاكتشافات العلمية وبروز خطاب المنهج مع الفلسفة الديكارتية ومقالات امانويل كانط حول التنوير، أما على المستوى السياسي فقد ارتبطت بالثورة الفرنسية التي شكلت لحظة تاريخية جد مهمة في سحب البساط السياسي من تحت الكنيسة أي نهاية النظام الكنسي القائم على نظرية الحق الإلهي أي المشروعية الدينية للحاكم التي يستمدها من كونه خليفة الله في الأرض والمسؤول الوسيط بين الله والعباد في تدبير الشأن العام. لكن مع بروز حركة الإصلاح الديني بزعامة كالفن ومارتن لوتر بدأ التمهيد لنقاشات فكرية وتحليلية للنصوص الدينية وكذا السلطة الدينية لرجل الدولة و ستنضاف إلى ذلك الاكتشافات العلمية خصوصا مع اكتشاف كوبرنيك للامركزية الأرض التي كانت سندا للخطاب الديني الكنسي الذي جعل من مركزية الأرض تكريما من الله للبشر الذي وضعه في مركز الكون. وستكون الهزة الأخيرة لهذه الخرافة مع كاليلو الذي أكد أن الأرض تدور حول الشمس وبالتالي ليست مركزا للكون.
ومع مجيء ديكارت وانتشار فلسفته القائمة على تجربة الكوجيطو بالإضافة إلى الثورة الإبداعية الفنية الأدبية ستنقلب المعادلة من مركزية الأرض إلى مركزية الإنسان. ومن هنا بدأ الإنسان في الحضارة الأوربية يشق طريقه نحو التخلص من جبروت الكنيسة والتأسيس للدولة القائمة على العقل والعلم (ما لله لله وما لقيصر لقيصر) وفي هذا السياق ستظهر البدايات الأولية لميلاد فلسفة الأنوار التي ستدق المسمار الأخير في نعش الدولة الخاضعة للكنيسة، لتأتي بعد ذلك الثورة الفرنسية التي جعلت من الحرية والمساواة والإخاء شعارا لها، إذ ستنزع السلطة السياسية من الكنسية. كل هذا المسار التطوري سيخرج الإنسان من القهر والحماية وجبروت الكنيسة ليعلن كانط فيما بعد سؤاله الشهير: ما التنوير؟ مجيبا إنه المرور من الجبر والقصور و الوصاية أي لا سلطة للإنسان على الإنسان، باعتبار كل إنسان هو ذات حرة لعقل أخلاقي عملي الشيء الذي سيشكل بالإضافة إلى كل ما سبق ميلاد مفهوم المواطن بدل مفهوم الرعية وبالتالي نهاية الصلة بين الدولة والدين إذ لم تعد سلطة الحاكم مستمدة من الإله بل أصبحت مرتبطة بالانتخاب والتعاقد مع نظرية العقد الاجتماعي، أصبح رجل الدولة موضوع اختيار ومحاسبة أي نزع القدسية الدينية عن الحاكم، ومع بروز نظرية مونتسكيو حول فصل السلط ستبدأ معالم الدولة الديمقراطية كما سنلمس ذلك في نصوص جاكلين روس حول مفهوم دولة الحق والقانون وفي هذا المنحى التطوري ستسير الإبداعات الفكرية في مجال الفلسفة السياسية سواء مع الكتابات الماركسية أو أعمال فرنسوا شاتيلي وشوفاليي وغيرهم من أعلام الفلسفة السياسية، كما لا يجب أن نغفل كذلك في هذا السياق التطور الذي سيعرفه الفكر الفلسفي بشكل عام سواء من خلال المدرسة الوجودية التي أعادت طرح مشكل الوجود والماهية ومساءلة الحرية و مسؤولية الإنسان إزاء مصيره، بالإضافة إلى تطور فلسفة العلوم في تناولها لمفهومي المعرفة و الحقيقة والإقرار بكون كل معرفة تبنى ولا تعطى.
الشيء الذي يحيل على دور الإنسان في بناء الحقيقة وبالتالي تعزيز مركزية الإنسان، كل هذا التطور على مختلف مستويات التفكير الإنساني سيؤدي في نهاية المطاف إلى إحداث قطيعة مع القرون الوسطى وعصر الظلمات.
إذن عند تأمل هذا المسار الذي عرجنا عليه و بسرعة جزافية سيتضح لنا لا محالة التناقض القائم بين مفهومي المقدس والحداثة هذا إذا لم نقل بأن الحداثة قامت أساسا على تجاوز المقدس سواء من خلال إعلان مركزية الإنسان أو من خلال التحرر السياسي من النظام الكنسي إلى النظام البرجوازي القائم على العلم والعقل أو من خلال نهاية المطلق وميلاد النسبية في مجال العلوم.
إن هذا التناقض سيقودنا الآن للعودة إلى مسألة الحداثة والمقدس في الخطاب الرسمي الذي يحاول بشكل ديماغوجي الجمع بين هذه التناقضات. فأين إذن يكمن التناقض بين هذين المفهومين في الممارسة السياسية للدولة بالمغرب؟ التي سبق وقلنا عنها أنها تريد أن تكون حداثية وقروسطية في نفس الوقت؟.
إذن لنبدأ تفكيك هذا التناقض من مسألة المشروعية الدينية للحكم، فالنظام القائم ببلادنا يوظف رمزية دات حمولات دينية مكثفة من نسب وسلالات ... الشيء الذي يحيل في بعده الميتولوجي على الإيمان بالبركة ويوظف المعتقد الشعبي ... وتعزز هذه الشرعية الدينية بمفهوم آخر ألا وهو البيعة أي مبايعة الرعايا للحاكم لكي يقوم بتدبير شؤونهم الدينية والدنيوية ينضاف إلى هذا الدور الذي تلعبه الزوايا والمساجد في شد عضد الحكم من خلال الدعاء للحاكم بالنصر والتأييد والنهي عن مخالفة أوامره باعتباره وليا وراعيا.
إن كل هذه الترميزات تسير في نهاية المطاف في اتجاه تكريس شخصنة القداسة وحتى دسترتها الشيء الذي سينعكس بشكل واضح على المستوى التشريعي إذ ستصبح القداسة محصنة بترسانة قانونية ستجعل من شخص الحاكم منزها ومرفوعا عن النقد وسيغدو كل نقد لسياسته مسا بشخصه ويصبح المنتقد مقترفا لجريمة يعاقب عليها القانون الجنائي بالسجن من سنة إلى خمس سنوات وبغرامة مالية من مائتي إلى ألف درهم مع العلم أن هذه المادة من القانون الجنائي تقول بالإهانة لشخص الملك وليس انتقاد سياسته، لكن رعب القداسة يخلط بين الاثنين.
لنتأمل إذن هذا الوضع سنجد أنفسنا أمام تناقض لا يستسيغه العقل فأين هو هذا الخطاب من الحداثة إنه أبعد ما يكون منها وأقرب ما يكون إلى القرون الوسطى ونظرية الحق الإلهي التي جاءت الحداثة على أنقاضه، لكن ما دام التاريخ يتطور بشكل غير خطي تصاعدي فليس من الغريب هذا التأخر والتخلف الفكري، لكن الغريب هو تبرير هذا الخطاب وإعطاءه صبغة الخطاب الحداثي الشيء الذي لا يقبله العقل على أرضية مبدأ عدم التناقض المنطقي، والأدهى والأغرب من ذلك أن يبرر الباحث الأكاديمي أو المحلل والفاعل السياسي هذا التقديس بعلة الخصوصية والقول بأننا في بلد إسلامي لا يمكن أن نرد الشرعية الدينية للحكم مادام العامل الديني جزء من بنية هذا المجتمع وعنصر من عناصر هويته وكأن أوروبا لا يشكل الدين جزءا من هويتها مع العلم أنه من الناحية التاريخية والأثروبولوجيا سنجد أن أوريا عاشت تحت ظل مجموعة من الديانات السماوية واللاسماوية قبل مجيء الإسلام كدين ارتبط أساسا بشبه الجزيرة العربية.
فحتى ميلاد الحداثة السياسية في أوربا وتأسيس دولة العلم والعقل وظهور مفهوم العلمانية لم يلغ الدين كجزء من الهوية بل دعا إلى فصله عن الدولة وليس عن المجتمع. فالدولة الحداثية هي دولة ضامنة لكل الحقوق بما فيها حرية التدين والاعتقاد. ومن هنا إذن فالقول بالخصوصية لتبرير قداسة الحاكم الضامن لوحدة الأمة هو حجة مردودة، هذا فضلا عن كون الفكر الإنساني منذ نشأته إلى يومنا سعى ولازال إلى الكونية التي تشكل عمود من مقومات الحداثة التي جعلت من الإنسان وكرامته وحقوقه هي المقدس الوحيد الذي لا يمكن المس به بعد تحريره من جبروت الظلم والعبودية التي مورست على الإنسان في القرون الوسطى من طرف الأنظمة الكنسية.
فأية ديماغوجية هذه التي تريد أن توظف الرموز الدينية المرتبطة بالمخيال الاجتماعي للشعب المغربي لتبرير قدسية الحاكم؟ وكيف لهذا الحاكم أن يكون مقدسا وممارسا للسياسة ومحتكرا للسلطة مع العلم أن الممارسة السياسية ممارسة دنيوية غير منزهة عن الخطأ، والخطأ دائما هو موضوع نقد لإصلاحه؟.
والمؤسف أكثر هو أن القداسة لم تعد فقط قداسة شخص الحاكم بل طالت هذه القداسة حتى بعض الموضوعات التي لا يمكننا في هذا الوطن أن نخالف الحاكم فيها في رأيه وخصوصا تلك المرتبطة منها بالجيوبولتيك وبعض المؤسسات الاقتصادية وبعض الميزانيات. كل هذه الموضوعات محمية بجبة القداسة. إذن ما الفائدة من ممارسة العمل السياسي في ظل نظام منغلق ومقدس حيت يغدو الفاعل السياسي الملتف حول هذه اللعبة مجرد مبارك لا فاعل سياسي له برامج وخطاط ؟
تلك هي الحقيقة التي تم طمسها بين ثنايا التوافقات ومسلسل التنازلات ودعاية الاديولوجيا ديماغوجية. إذن فلا مجال للحديث عن الدولة الحداثية أو الديمقراطية او عهد جديد دون رفع القداسة عن المؤسسة الحاكمة وعن كافة القضايا المرتبطة بالشأن العام لا مقدس مع الحداثة سوى العقل وكرامة الانسان أرخص قيمة في وطننا التي نصدرها بالآلاف لدول الخليج، والحقول البلاستكية باسبانيا ناهيك عن أفواه أسماك القرش التي تلتهم أكبر رأسمال لأي دولة تحترم نفسها وهم الشباب .
إذن تأسيسا على كل ما سبق يمكن أن نخلص إلى كون الخطاب الرسمي حول دولة الحق والقانون كدولة حداثية لا يجسد لا من قريب ولا من بعيد أهم سيمات هذا المفهوم الذي تبلور في مسار تطور الفكر السياسي الإنساني. بالإضافة إلى كون هذا الخطاب الذي يحاول الجمع بين المتناقضات يقبل بالحداثة كمفهوم ويرفض أساسها. وهذا شيء مستحيل لأن كل مفهوم أو نظرية سياسية لها مسار وشروط معرفية ساهمت في تشكلها ورفض أسس الحداثية السياسية. يشمل كذلك رفض أسس مفاهيم أخرى تدور في فلك الحداثة من قبيل التقنية والتحديث والديمقراطية الشيء الذي يؤدي إلى إفراغ هذه المفاهيم من مضمونها وتحويلها إلى كيانات مجردة ومشوهة تغزو مجال التفكير السياسي الرسمي ليتحول حقل التفكير السياسي إلى مزاد لبيع الأوهام وشراء الذمم لتعلو حقيقة وحيدة أمام كل مسكون بهاجس الصدق والسؤال الفلسفي عن الحقيقة ،التي استرخص العديد من المفكرين والمناضلين أرواحهم من أجلها، وهي أن البلاد التي يسود فيها المقدس لا تقوم فيها الحداثة كمشروع كوني وشمولي. وكل محاولة للجمع بين الاثنين لا تفضي إلا لما نحن عليه اليوم من تخلف وأوهام و اضطهاد فكري للأصوات الحرة التي أدركت بأن الحقيقة معيار ذاتها.
فكما ينقشع الظلام مع أول شعاع شمس تموت الحداثة والإنسان حيث يعلو صوت سيف المقدس، فمتى سيعلو صوت الحداثة على صوت المقدس في وطننا لنكون أسياد وطننا ومركز كوننا؟ مواطنين لا رعايا بشر لا قطيع كل هذا لن يكون إلا بإرادة قوية مناضلة ومكافحة من أجل غدا يعلو فيه النور والتنوير ضدا استغلال الدين وتوظيفات المقدس.




عزيز الراشدي