لحظات فانية


رياض الأسدي
2010 / 8 / 19 - 00:52     

بقعة الأرجوان

رياض الأسدي
- 1-
أخبرتها آخر مرة التقيتها عند سلم العمارة القديمة، ربما تكون بقعة عادية تظهر على الجلد بسبب تغيير المناخ.. أما رائحة اليود القديمة تلك، فلم أجد لها أي تفسير.. تماما كما يعرض في أفلام الواحد: بطل واحد، وموسيقى حديثة لآلات الكترونية شبه معقدة؛ كان صوتا مبهما على أية حال، أقرب إلى النشاز في جوقة جاز.
كم كنا متفاهمتين طوال السنوات الثلاث التي تصرمت واشتعلت كأعواد ثقاب رطبة، منذ ان أهتزت تلك البناية بسبب قصف صاروخي قريب. لكني أحيانا أتوجس باننا سنفترق بطريقة ما، مثلما يحدث غالبا في الأفلام القديمة: سنتحول بعد موسيقى صاخبة إلى نقطتين متباعدتين على الشاشة. من الصعب ان اخبرها بذلك.
بقعة دم متخثر، احيطت بهالة زرقاء. لا الم بعد الآن في الحقيقة؛ المشكلة في المكان: هذه العين الكونية تحت الثديين الناهدين. كلانا نعيش في وهدة واحدة من المشاهدة العنيفة لأفلام فيديو خاصة. بكينا في المشاهد المتوترة. تعانقنا بعد كلّ ضحكة مجلجلة. أكلنا في ملعقة واحدة منذ ان التقينا في ذلك النزل الكائن في ضواحي المدينة الواسعة. لكن هذه البقعة الغريبة هي التي باعدت بيننا، قالت: ربما تكون " داء جديدا " من النوع الذي يظهر في المسلسلات الكونية.. أعرف بانني قد تعرضت لإشعاع خفي أو تركيب كيمياوي لعين في تلك الغرفة الصغيرة التي علّق على بابها يافطة بيضاء باهتة: مختبر التحليلات المرضية- لا، لا يمكن ان يحدث ذلك إلا في الأفلام؛ أما ان يكون حقيقة أتحسسها بأناملي، فهذا ما لا يمكن ان أتصوره الآن على الأقل!
ثمة أشياء بغيضة كثيرة تحزم أمرها بسرعة وتثلم مني على نحو خاص, مثل قطع حاد لرسم هندسي من ثلاثة أبعاد: اضغط على الزر في اللوحة، هكذا، يمكن أن يذهب بلا رجعة وبلا حفظ. لنحتفظ باسمينا معا في كل المناسبات، وفي كلّ البرامج المحفوظة في الدوائر الصغيرة غير المرئية. لن نعرف إلا معا أيضا. ولتتسع الأرجوان كما يحلو لها..صدرك، أيتها العزيزة، أثمن ما نملك في هذه الدوامة، البناية القديمة والطابق ذو الإضاءة السيئة، كدنا نموت هناك ذات مرة.. اجل حدث كل ذلك الضجيج بسرعة حتى تدفقت الدورة الشهرية في غير أوانها، ساعة أغلقت باب المختبر واستمعت إلى ذلك الصرير المعتاد.
كان الظلام يكتنف المكان، والغبار يتطاير في الشارع القريب، شعرت بأنها هوت في نقطة مفاجئة .امنحني أيها الرب القدرة على القيام من هنا فقط، فلا احد معي في هذه الوهدة. يا لأفلام المطاردة الريفية والسكائر الرديئة. كم احتاج من الوقت للتماسك؟.. خاصة أثناء النزول؛ كان التعثر يعني موتا محققا على ذلك السلم: اهبطي وستعلمين، لا أحد يمكنه ان يبصر شيئا الآن. كان انفجارا مروعا مثل قيامة.
جلست على دكة قريبة كانت في الأصل حاملة لأصص متربة ميتة. فكرت ان لا علاقة البتة بين ما يحدث لها ومشاهدة تلك الأفلام الرديئة. بيد أن رائحة اليود العفن عطنت في أنفها من جديد، فعادت إلى تحسس صدرها، ثمّ صرخت بصوت مكتوم: آآآآ..آآ..
- ثريا! أمازلت هنا؟
- أجل.
- أنت متعبة.
- ادري؛ كأني اغوص في مستنقع لزج.
- لنرحل!
- أجل!؛ كلنا سنختفي في لحظة ما.
وشهقت بعنف كأنما انتزعت سكينا من صدرها، وبعد هنيهة هدأت رويدا رويدا، فقد عادت أضواء السيارات إلى الحركة.

-2-
عندما هبطنا من السيارة السوداء التابعة لمكتب الإعلان, كان العجوز " أدور" أول من استقبلنا بباب الحديقة في ذلك المساء القائظ من آب. ابتسم بتلك الطريقة التي تنمّ عن خبث دفين، وداعب طرف عصاه المبجلة. كنا نرتدي ثوبين أسودين مطرزين بدانتيلا من النوع الرديء. كان من الصعب إفهام " أدور" أننا مجرد صديقتين ولا صلة عائلية بيننا.. تمتم: أنتما متشابهتان إلى درجة يصعب تصديق ذلك! قالت ثريا:
- أأنتم جادون حقا، في الاهتمام بي؟
أجاب بسرعة:
- طبعا طبعا!
- إنها تتسع في كلّ يوم سيد" أدور" ولم أعد أرغب في نوم القيلولة.
- لست طبيبا. لكنهم سيحددون طبيعتها على أية حال. تفضلا.
- أنا خائفة!
- كلنا نخاف غالبا! أتركي الأمر لهم، فهم أعلم بما يمكن أن يكون..
بدؤوا من جديد تحت سعف النخلة الذهبية المقدسة، الأصدقاء الغرباء غير المبالين في أغلب الأحيان. كانوا جالسين في نصف حلقة، تماما مثلما هي لجان مقابلة طالبي العمل الجدد. تبادلوا إيماءات الرؤوس السريعة وأشاروا لنا بالجلوس. لم تسلّم ثريا، في حين راحت كلماتي متلعثمة : " مساء.. الخير .. سادتي.. تعلمون ..ما يحدث.. لنا حتما ".
نحترق مثل سلك مغنيسيوم, لا بريق لنا بعد ذلك؛ إيماءات رؤوس واحدة. أما أنا فقد انزويت في ذلك الكرسي الجلدي الأسود البعيد نسبيا. العجوز "أدور" يقف وحيدا عند الباب الذي يفضي إلى صالة فارغة. قفز إلى ذهني فجأة تساؤل: كم يبلغ عمر "أدور"؟ ولماذا يقف هناك مثل خادم من الدرجة الثانية؟ نهضت من الكرسي، فأشار لي بقوة آمرة: اجلسي! وقامت ثريا بفكّ أزرار القميص بنوع من الارتجاف الغريب. فقام أحد الفاحصين بتوجيه ضؤ كاشف نحو صدرها العاري. بكت لحظة، ثم رفعت ثدييها إلى السماء.. ورطن الجميع بلغة غريبة لم أسمعها إلا نادرا.. وكان " أدور" قد شاركهم بإحضار جهاز يشبه تلك الأجهزة التي تفحص الإصابة بالسل الرئوي إلى حدّ ما.. فنهضت من الكرسي، وعندئذ صاح بي "أدور": ألم أشر لك بالجلوس؟ لست معنية بالأمر!
أطفأت أضواء القاعة فجأة، وجاء العجوز مسرعا ليمسك بكلتي يدي، تمتم: عليك أن ترحلي الآن! ليس ثمة موجب لبقائك بعد ذلك.
تمتمت: وصديقتي؟!.

-3-
كانت سيارة الإعلان تقف بباب المقبرة. أبدى "أدور" العجوز امتعاضه من سرعة انتشار رائحة العفن.. امسك يدي وسرنا ببطء نحو الداخل حيث كان المكان يضجّ بزقزقات العصافير المتواصلة. أجلسني على مصطبة انتشر عليها ذروق الطيور. حدق فيّ مليا وحاول ان يمنحني نوعا من الأمان الزائف؛ كنت أرتجف.. لقد تجمعت العصافير بالقرب من صلبان ثريا: هنا ترقد صديقة العمر! هنا يبقى السرّ مدفونا. قال "أدور": لم يكن بالإمكان أن نفعل شيئا مهما، كان المرض أسرع منا جميعا.
مرض غريب يصيب الواحد في المليون.. لا أعرف أسمه على وجه التحديد. ثمة مصطلح لاتيني طويل.. لكنه من أمراض المتوسط بكلّ تأكيد ياعزيزتي. لم أبكِ. لم يعد ثمة معنى لذلك. فتحا أزرار قميصي ورحت أتأمل، كان العجوز يغادر المقبرة. بدت أقدامه مثل سيقان ضفدع ميت، وهو يخرج من الباب الرئيس محركا عصاه بتلك الطريقة التي يقوم بها ضباط البحرية الأجنبية غالبا.

بغداد 1998