أرض الريشوله(*)


رياض الأسدي
2010 / 7 / 24 - 01:21     

عدت إلى المكان نفسه إلى ذلك السفح الجبلي الذي تستخدمه الماعز السود القفازة والطيور المهاجرة الصغيرة في الربيع، وعلى تلك الأرض الغريبة نفسها، بدا لي إن كلّ شيء يمكن أن يعود ثانية. لاشيء يغادر. وما نتصوره محض لعبة تمارس ضدنا بمهارة. المغادرة شيء آخر نحن نحتناه. جربناه لكننا لم نعرف إلى أي مكان يأخذنا؟ طبعا ثمة أشياء كثيرة لا نعرف عنها المزيد حتى تغادرنا؛ وتلك طبيعتنا البشرية. يا لها من سجية ضعيفة ويا لها من معارف غامضة.
وكانت الريح قوية مزمجرة والأرض رطبة كعادتها في هذه الأيام من السنة. وأقدامي تغوص من جديد عميقا في سماء وأرض الريشوله: أرض ظهورنا معا. هنا. كلّ ما في الأمر إني كنت وحدي هذه المرة. وكانت السماء تنذر بأشياء غامضة أيضا كما تفعل معي سابقا. ماذا تريدين مني أيتها السيدة الأخاذة؟ ها؟ لم أعبأ لذلك. فلم يعد ثمة ما يثيرني. لاشيء. وصرخت: أين أنت؟؟!ههههههيي! نسرين لماذا لا تظهرين لي؟؟ أنا لا ألعب الغميضة! أرجوك.
كان من الصعب التأكد أننا سنكون وحيدين بعد عشرين عاما إلا بعد أن غادرت.. اختفت إلى الأبد. أخيرا. بلا أدنى إشارة. لعبة يراد لها أن تكون حقيقة. لم يعد جسدها معي. مشكلة دائمة بالنسبة لي واجهتني بلا استعداد مسبق، وأنا أتحسس الفراش ليلا: أين يمكن أن تكون نسرين الآن؟هل يمكن أن تعود بطريقة ما؟ لا. نسرين. ربما هي موجودة في مكان آخر. يمكنني أن أخمن الأماكن التي تحبها. منزلنا القديم على السفح؟ قريتنا؟ لا.
لم يكن يخطر ببالي قط أنها ستذهب سريعا بهذه الطريقة الفجة دون أن تشعرني ولو بكلمة واحدة. غادرت وهي نائمة إلى جانبي. حتى لم تسعل أو تشخر أو تطلق صوتا تحذيريا. كما كانت تفعل ذلك منذ عقدين. لم تمرض مرضا كبيرا أبدا. امرأة جبلية عنيدة. هل كان بإمكانها أن تقول لي شيئا عن تلك المغادرة؟ هل بإمكانها الاعتذار لي في الأقل؟ هكذا نامت ككل ليلة منذ عشرين عاما ولم تذكر حينها حاجتها إلى طفل مني.. غريبة.. أدارت وجهها وتدثرت بعصبية ظاهرة لأول مرة، ثم نامت بسهولة. لا أدري ربما كانت تبكي: هي تفعل ذلك كلما تذكرت أخوتها الغائبين منذ عقود على أية حال.
لزج هذا المكان وغريب لاحظ الحشائش كم هي ندية. هوووو. لاشيء هنا يشبه (الاوردكاه)(1) يا بجار. من الصعب التأكد من أنها مجرد حشائش جبلية. هوووو! يا عزيزي أقدامنا تغوص عميقا. كأنه جيلاتين اخضر عميق. هوووو هذا المكان هو كلّ ما أتمنى: كيف عرفت ذلك؟ يا لك من رجل ذكي. هل نواصل الصعود أكثر من ذلك يا حبيبي؟ أنت مولع بالأمكنة. هل يكفي ذلك الآن؟ في كلّ مرة نقطع مسافة أكثر هوووو كم القمة بعيدة؟ هل سبق لك أن وصلتها يوما؟ ها؟ لا أحد يصلها إلا العنز الجبلي؟ يا لك من رائع. أنا لا أذكر شيئا عن طفولتي. لكني أذكر هذا المكان فقط. الآن الآن. ماذا تدعوه أنت؟ سماء الريشوله؟ أجل. أسم اخترعته أنت. تذكرت ذلك. ذاكرتي محيت بقوة مذ رحلونا إلى إيران. لم أعد أذكر شيئا أبدا إلا ذلك الطريق الجبلي الطويل من قصر شيرين: كان أخي الكبير يحملني على ظهره. لا ادري لم تركوه؟ ربما لأنه كان متخلفا.. مات بعد وصولنا إلى المخيم بعد أيام فقط. كل أخوتي غابوا هنا: قالوا عنهم فيليه(2) أنا لم أفهم ماذا تعني الكورد الفيليه حتى أصبح عمري أثنا عشر عاما. أن تكون فيليا هو أن تكون معذبا مرتين. لست ادري لم اخترتني زوجة. ألآني فيليه؟ أنت لست فيليا.
كانت أرضا متيبسة وثمة خطوطا نارية على طول الجبال والتلال القريبة لتهيئتها للزراعة شتاء. كانت تنظر إلى النار بشغف ظاهر من خلل زجاج السيارة الروسية القديمة على طريق "روفيا". بدت خائفة نوعا ما وهي تعود بتلك الهوية المدنية المزورة. قالت:
- يفعلون ذلك منذ آلاف السنين.
- أراهم.
- كان أهلي يحذرونني من السير على الأرض المحروقة تلك.
- لكنك تسيرين!
- غالبا ما كنت أقف لأرقب الحواف السود.
- بنت مطيعة.
- لا. كان شيئا ما يشبه الفردوس.
كانت آخر مرة رأيتها تبكي في اللوري على طريق "فايدة" يوم كان الجيش يضعنا في (لوريات) لمدة ربع ساعة أو أكثر من أجل الوصول إلى دهوك. لم أجد لذلك تفسيرا واحدا غير الإذلال المتعمد والرغبة بالسحق. يومئذ قالت لي:
- ليتني أموت بجار..
- هوووو! وأنا؟
- لك الله..
- لا يكفي.. لا تقولي ذلك ثانية. أرجوك.
حشرنا كالماعز المبللة مع أطفال وشيوخ لا نعرفهم حشرا جنونيا سريعا، وسارت بنا تلك السيارة الكبيرة بطء. لحظتئذ شعرت أن خدمتي في الجيش كضابط احتياط إبان الحرب كانت خطأ مروعا. لقد سحقت تماما.
- لماذا يفعلون بنا ذلك؟ ها؟
- لا ادري.
- يمكنك أن تخبرهم أنك كنت ضابطا.
- لا.
- أكاد أموت!
- أرجوك لا تموتي الآن..
كان شيئا ما يشبه الاخضرار اللانهائي المتماوج، يغمرني كبحر يرتفع عاليا.
ــــــــــــــــــــــــــ
(*) طيور سود صغيرة مهاجرة
(1) مخيم اللاجئين العراقيين في إيران.
(2) الكورد الشيعة.