الحركة الوطنية المغربية من الاصلاحات الى المسلسل الديمقراطي

عبد الغني اليعقوبي
2004 / 8 / 21 - 08:51     

غالبا ما تصطدم الأبحاث المتعلقة بتاريخ المغرب بمشكل انعدام المعطيات فالكتب المتوفرة في هذا الشأن تتكون من مجموعتين مختلفتين من حيث الطبيعة، مجموعة المؤرخين الاستعماريين من جهة، ومجموعة الباحثين المغاربة من جهة أخرى. وإذا كان من الصعب الاعتماد على أعمال المجموعة الأولى اللهم من وجهة نظر نقدية لكشف ما تتضمنه من دعاوي، فإن أعمال المجموعة الأخرى مع أنها نقطة ارتكاز أساسية تبقى غير كافية والحال أنها بالرغم من الجهد المبذول لإنجاز توثيق جدي لا يتجاوز في الحالة الراهنة للأشياء صياغة التساؤلات، و دحظ التأويلات الاستعمارية. والباحث في تاريخ المغرب يوجد اليوم أمام إشكالية ضبط مفاهيمه ومنطلقات تفكيره، فاختلاف المدارس التاريخية وتنوع اتجاهاتها في فهم الماضي أو في إعادة بناءه بناءا متراسا ومعقلنا جعل المؤرخ في حيرة من أمره. والموضوع الذي نحن بصدده لا يخرج على هذا النطاق، فمن جهة هناك وفرة المراجع ويصعب على الباحث أن يستخرج منها معلوماته لأنها تعاني من نقص في المادة التاريخية فإما أن تكون دعاوية إذا كانت وطنية مع استثناء بعض الكتب والمراجع التي حاولت تأسيس كتابة تاريخية تتوخى الموضوعية وإما أن تكون من جهة أخرى استعمارية تحاول نقد الكل لتقبل الوضع. أمام هذه الإشكالات وغيرها حاولنا من خلال بحثنا أن نعتمد على المادة التاريخية بغض النظر عن أصحابها أو مؤرخيها. وقد ارتأينا معالجة موضوع البحث المعنون بالحركة الوطنية، من الإصلاحات إلى المسلسل الديمقراطي 1925-1975 بتقسيمه إلى قسمين: القسم الأول يعالج الحركة الوطنية في ظل الحماية والقسم الثاني يتطرق إلى بعض الأحزاب سليلة الحركة الوطنية في عهد الاستقلال مع التركيز على المطالب المرفوعة في عهد الحماية والاستقلال. قد يكون من السهل أن يتحدث المؤرخ عن نشأة الحركة الوطنية وتطورها التاريخي، ولكن ليس من السهل أن يتحدث عن المفهوم الحقيقي للحركة الوطنية، وكيف يكون هذا المفهوم في الفكر المغربي، سواء المثقفين أو عند الجماهير الشعبية. فهناك المفهوم الذي يعطيه السلاح الفكرة الوطنية . وقد عاش السلاح دائما كوسيلة أولى وأخيرة لتحقيق المفهوم الوطني في الواقع المغربي وفي واقع غير المغرب من البلاد التي اضطرت للنضال عن استقلالها بقوة السلاح .فكانت الوطنية تعني المحافظة على حوزة الوطن ضد أي احتلال أو استغلال بالقوة أو بوسيلة تشبه القوة، وبهذا المفهوم حارب المغاربة في الجبال والصحراء والسواحل منذ بدأ الاستعمار الغربي يتطلع إلى ما وراء البحار فأنزل البطل عبد الكريم السلاح في الريف، وأنزل ماء العينين السلاح في الصحراء، وأنزل حمو الزياني السلاح في الأطلس. وهناك المفهوم الديني الذي يعطيه الشعب أو رجال الدين أحيانا للوطنية حينما يرون أن الظروف أصبحت تفرض حماية البلاد من الانحرافات سواء على النطاق المحلي أو الوطني. وهناك المفهوم الإصلاحي أي أن الوطنية تأخذ مفهوما إصلاحيا بمعنى أن الوطن كله يجب أن يتحرر من كل مظاهر الفساد الديني والاجتماعي والسياسي. ولكن الوطنية المغربية التي نشأت في منتصف العشرينات كفكرة وتبلورت كحركة في بداية الثلاثينات جاءت بمفهوم جديد يستمد من العصر كيانه ووجوده وأسلوبه التعلق بالوطن وحبه والدفاع عنه وإصلاحه وإن ظهر قبل هذا تصور وطني. المفهوم الجديد للوطنية الجديدة لم يعرف القبيلة بل أنه كان ضدا على القبيلة التي تبلورت في السياسة البربرية لهذا كانت الوطنية تعني تحرير الوطن بأجمعه وتوحيده، أي أن الحركة الوطنية كانت تستهدف تحرير المغرب كله، وهذا سر الارتباط بين الشمال والجنوب، وسر تكون الجماعات الوطنية الأولى من مختلف الأقاليم ومختلف فئات الشعب. وقد قادتنا هذه الفكرة العامة إلى البحث عن جذور الأحزاب المنبثقة عن الحركة الوطنية التي تسمى اليوم بأحزاب المعارضة، ولو أن هذا النعت لا يصلح دائما - ومواقف هذه الأحزاب من الإصلاحات سواء التي تمت في عهد الحماية أو الإصلاحات الدستورية. هذه الإصلاحات التي حملت في طياتها طابع التناقض حيث كانت دائما تعارض بين مختلف الشرائح الاجتماعية - مواطن مستوطن- بدل نافع، عرب وبرابرة، حواضر وقرى... وكانت هاته السياسة تهدف بلا شك إلى ترسيخ التواجد الاستعماري أكثر منها إلى إصلاح البلاد، في هذا الإطار وانطلاقا من ترسيخ التواجد الاستعماري ستعمل الحركة الوطنية المغربية إلى مقاومة المستعمر، والمطالبة أولا بتطبيق بنود الحماية والمطالبة بالاستقلال كمرحلة ثانية غير أن الحركة الوطنية المغربية ستصطدم بعدة عراقيل نذكر منها على سبيل المثال، قوة المستعمر، الحضر المتوالي للأحزاب الوطنية، كما يجب الإشارة هنا إلى أن الحركة الوطنية بدورها كانت تشوبها نواقص منها على سبيل المثال: - أن القدرات الخطابية والأدبية لقادة الحركة كان يوازيها نقص على مستوى تنظيم الجماهير وبالأخص الفلاحين منها، ما يؤكد هذا أن النخبة الوطنية كانت موجودة في بدايتها في المراكز الحضرية فقط. - هناك أيضا الميل إلى الإطلاقية في الرأي وإلى نوع من الحلقية يقصي التيارات الأخرى للحركة الوطنية*. هذه الخاصية تكاد تنطبق على كل تيارات الحركة الوطنية المغربية فمصطفى يوعزير في كتابه اليسار المغربي الجديد يؤكد على أن هذه الخصائص أو بعضها كانت حاضرة بشكل ثابت طوال تاريخ الحركة الوطنية ولم تكن وليدة ضرفيات. وقد حصرنا بحثنا في دراسة مكون واحد من مكونات وتيارات الحركة الوطنية وحزب يعتبر كمكون رئيسي للحركة الوطنية واستمرار لها وهو حزب الاستقلال، والتعرض لنشأته ومواقف ومطالبه مع العلم أننا أشرنا إلى بعض المكونات الأخرى، أيضا تطرقنا إلى حزب منشق عنه وهو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كذلك انشقاق آخر. ليظهر حزب جديد وهو الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، فالفترة المدروسة أو التي نحن بصددها تمتد تقريبا من 1926 وهو تاريخ ظهور الرابطة المغربية كتنظيم سياسي أولي إلى 1975 وهو تاريخ انعقاد المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. تبقى إشارة إلى أننا عندما نتحدث عن القصر وخياراته تجاه الحركة الوطنية فإننا نقصد به مجموعة القوى السياسية التقليدية أو العصرية التي تعمل بالمغرب من أجل ملكية مطلقة يتمتع فيها الملك بسلطة مطلقة، كما نقصد عند حديثنا عن الحركة الوطنية مجموع الأحزاب التي تناضل أو تطالب من أجل دمقرطة النظام في إطار يتراوح بين الملكية الدستورية والجمهورية الديمقراطية والشعبية أي السلطة الشعبية كما رفعها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في مرحلة ما. إن الغرض العام الذي يحكمنا في اختيارنا لهذا البحث هو التعرض لأهم مرتكزات هذه القوى والتطرق إلى مواقفها ومطالبها والسيرورة العامة التي تمخض عنها الانشقاق مع العلم أن هذه الظاهرة كانت عادية ودائمة في الأحزاب السياسية المغربية ولا زال مفعولها سائرا إلى حدود اليوم. وقد ارتأينا طريقا لتحقيق هذا الغرض بتقسيم البحث إلى قسمين : القسم الأول يتناول الفترة الممتدة بين : 1925و1959 ،والقسم الثاني يتعرض لتطورات فترة : 1960-1975 فخلال القسم الأول سيتم الحديث عن جذور الحركة الوطنية وما رفعته من مطالب في عهد الحماية وقد فضلنا معالجته في محورين: المحور الأول وهو تناقضات الحماية أي التطرق إلى الحماية وتأثيرها على الحركة الوطنية، وخلال هذه الفترة سترفع الحركة الوطنية عدة مطالب إلى سلطات الحماية قصد إصلاح المجتمع* وما آل إليه من استغلال ونهب وتمييز سواء بين المغاربة والمعمرين أو بين المغاربة أنفسهم (بربر-عرب). والمحور الثاني سيتناول مطالب أحزاب الحركة الوطنية بعد حصول المغرب على الاستقلال، سلطات المغرب لإصلاح للمجتمع بعدما تأكد لها أن المستعمر ترك مخلفات سياسية واجتماعية يجب إصلاحها. فمنذ الاستقلال كان محرك الحياة السياسية والاجتماعية هو المواجهة بين النظام والحركة الوطنية لأن الاستعمار أحدث تغييرات في بنية المجتمع المغربي، فقد استولى على أغلب الأراضي الخصبة في البادية المغربية وأخيرا "خلق إدارة مباشرة مركزية وقمعية" أما النتائج الاجتماعية فهي ظهور طبقات من عمال وبورجوازية تجارية... وتحويل المخزن القديم إلى مخزن جديد أكثر مركيزة. فكان لابد للحركة الوطنية أن تطالب سلطات المغرب بعدة إصلاحات ترى فيها مفتاحا للخروج من التبعية للمستعمر، في هذا الإطار سيجري إذن الصراع من أجل السلطة بين القوى الملكية التقليدية بقيادة الملك، والحركة الوطنية بقيادة حزب الاستقلال، وسيحاول كل منهم إرسال اختياراته، لكن المواجهة ستكون لفائدة القصر الذي كرس اختياره، "ولم يرد حزب الاستقلال المكون الأساسي للحركة الوطنية بالحزم والتصميم المطلوبين" لأن خلافاته الداخلية كانت أعمق. أما فيما يخص القسم الثاني من البحث فيتم التركيز فيه على الإصلاحات السياسية الذي حاول القصر تبنيها من خلال الدساتير وتشكيل الحكومات مع التركيز على مواقف الاستقلال والحزب المنشق عنه إ.و.ق.ش من هذه الإصلاحات في هذا المضمار سنحاول تقسيمه إلى محورين، المحور الأول هو البناء الديمقراطي** من خلاله سنذكر دعائم الديمقراطية كما يراها حزب الاستقلال وطريق الديمقراطية كما يراها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وتمتد هذه الفترة زمنيا من 1962-1965، وهي تاريخ احتداد الأزمة وانتفاضة البيضاء كشكل من أشكال التعبير عن عدم الرضى بواقع مغرب ما بعد الاستقلال. وسيتم الحديث أيضا عن حالة الاستثناء التي دامت 5 سنوات والتي اعتبرت بمثابة نهاية وبداية أخرى أصبحت فيها المبادرة بيد القصر، وعلى مستوى الحركة الوطنية سجلت وكرست إخفاق هذه الأخيرة في أن تصبح شريكا وازنا ودخولها مرحلة من التهميش والتجاهل أما فيما يخص الاتحاد الوطني للقوات الشعبية فقد ترتب عن هذه الأحداث بروز عديد من التأويلات السياسية والأيديولوجية داخل الحزب "مما عمق الخلافات الناتجة عن التفكك التنظيمي لجهاز الحزب". لعل هذه الأحداث وغيرها من أحداث دولية أخرى كالحرب العربية الإسرائيلية الثورة الثقافية الصيفية أي بمعنى آخر أحداث داخلية وخارجية جعلت الحركة الوطنية المغربية عامة وبالأخص حزب الاستقلال والحزب المنشق عنه، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يغير من تكتيكيه ومنهجيته في العمل، هذا المجهود يستمر في 1970 إلى تشكيل الكتلة الوطنية في 22 يوليوز 1970. بين هذين الحزبين وإمضاء وثيقة حاول من خلالها إبراز أو توحيد الجهود لمواجهة المرحلة، خلالها سيطرح القصر أيضا ومرة أخرى دستورا آخر كمحاولة منه لرء صدع الجماهير الشعبية عامة والحركة الوطنية خاصة. أما فيما يخص المحور الثاني من القسم الثاني فسنحاول التركيز فيه على السياق الإيديولوجي أو الإطار العام السياسي والاجتماعي الذي أدى إلى انشقاق آخر في الحزب المنشق عن حزب الاستقلال وظهور الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وتمتد هذه الفترة زمنيا من 1972 إلى 1975 وهو تاريخ انعقاد المؤتمر الاستثنائي لهذا الحزب الجديد. فكما سلف الذكر أن ظاهرة الانشقاقات ظاهرة دائمة وحاضرة في كل حين في الأحزاب السياسية المغربية، وفيما يلي خطاطة عامة للأحزاب التي سندرسها ونؤرخ لها: تبقى الإشارة إلى أننا سنشير إلى بعض الأحزاب الأخرى التي لها تأثير على مسار هذه الأحزاب . 1926 - الرابطة المغربية 1934 كثلة العمل الوطني 1937 الحركة القومية الحركة الوطنية لتحقيق المطالب فترة الحماية 1942 حزب الوحدة المغربية حزب الإصلاح الوطني 1943 حزب الاستقلال: (ضم أعضاء من جميع هذه الأحزاب تقريبا) 1959 الاتحاد الوطني للقوات الشعبية 1975 الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الفصل الاول:الحركة الوطنية في عهد الحماية: إن آثار الحماية التي فرضت على المغرب يوم 30 مارس 1912 لم تنته بحصول المغرب على الاستقلال السياسي في 2 مارس 1956، بل طالت الحياة السياسية بالمغرب مدة من زمن الاستقلال، لذلك فعندما نتحدث عن الحركة الوطنية فإننا نقصد بها مجموع الأحزاب التي تناضل من أجل دمقرطة النظام في إطار ستراوح بين الملكية الدستورية والجمهورية الديمقراطية الشعبية، وقد نجد على رأس هذه الأحزاب حزب الاستقلال، سنحاول أن نتحدث عن هذه الأحزاب في عهد الحماية وفي عهد الاستقلال مذكرين بتناقضاتهما التي نعتبرها مخلفات مباشرة للحماية. أ?- تناقضات الحماية : 1925-1955 هناك اتفاق بين الباحثين على كون سنة 1934 هي السنة التي عرف فيها المغرب التنظيم الحزبي مع العلم أن هناك تنظيمات سبقت الحزب الوطني، وإذا ما حاولنا أن نبحث في الحركة الوطنية منذ نشأتها إلى حدود 1955 أي قبل الحصول على الاستقلال، نجد أن هذا الإطار تتحكم فيه فترتان: 1. فترة الإصلاح في عهد الحماية. 2. فترة الاستقلال. Œ فترة الإصلاح في عهد الحماية : 1925-1942: خلال الفترة الممتدة ما بين 1925 -1942 لم ترفع الحركة الوطنية شعار الاستقلال"بل قصارى ما كانت تنادي أو تطالب به هو إجراء إصلاحات في ظل نظام الحماية القائم" فقد تم تأسيس أو تنظيم سياسي* عقب الحرب الريفية في 2 غشت 1926 وقد كان نشوءها نتيجة الهزيمة التي تلقاها عبد الكريم الخطابي فحاولت النخبة الحضرية** تجاوز الإخفاق العسكري غبر العمل السياسي ولم يكن العمل السياسي ممكنا في غياب تنظيم سياسي يسهل عمليات التواصل وإمكانيات التنسيق. ومع حلول سنة1934 سيتم الحاق المغرب بوزارة المستعمرات وذلك في حكومة (Daladier) فكان رد المغاربة متشددا ضد هذا الالحاق ، واعقبته عدة احتجاجات لدى السلطات الفرنسية بباريس. كما رفعت عدة برقيات احتجاجية أرسلت باسم سكان مدن فاس، سلا، الرباط، البيضاء، مراكش وغيرها من Daladier ورؤساء لجنة الشؤون الخارجية والبرلمان الفرنسي هذا الإلحاق دفع الوطنيين المغاربة إلى التفكير في سبل مواجهة الوضع الجديد عبر فرز أداة تنظيمية تكون قادرة على إيصال المطالب الجديدة التي أفرزتها الظروف الجديدة، فهذه المعارضة حول الإلحاق والظهير البربري- يرمي لفرنسة المغرب لغويا وسياسيا وقضائيا ويتخذ لذلك وسائل التفرقة بين عنصرين أصدره ليوطي بدعوى احترام التقاليد البربرية- أفرزت لنا أول تنظيم سياسي "كتلة العمل الوطني" التي ستعبر أول تنظيم حزبي سياسي وستكون بمثابة نواة الأحزاب الوطنية .وقد عملت كثلة العمل الوطني منذ مايو 1934 على إعداد برنامج للإصلاحات تقدمت به في دجنبر من نفس السنة إلى سلطان المغرب والإقامة العامة بالرباط والحكومة الفرنسية. " لقد مثل برنامج الإصلاحات في جوهره ردا على إلحاق المغرب بوزارة المستعمرات" وقد خصصت مقدمة هذا البرنامج لتحليل آراء القانونيين ورجال السياسية في مفهوم الحماية واستند أيضا إلى تعريف ليوطي سنة 1920 إذ يقول "فكرة الحماية تعني أن البلاد محتفظة بمؤسساتها تحكم نفسها وتدبر شؤونها بنفسها تحت مجرد رقابة أوربية. والذي يملك ويكيف هذه الفكرة هو المراقبة المعارضة تماما للحكم المباشر" كما أن البرنامج استند أيضا إلى الحكم الذي أصدرته محكمة النقض والإبرام بفرنسا بتاريخ 13-04-1934 والذي ينص على :" إن المعاهدة التي وضعت بين فرنسا والمغرب الأقصى من أجل نظام الحماية الفرنسية بالمملكة الشريفة ليس من مفعولها أن تضيع للمغرب استقلاله الذاتي". ثم بعد ذلك يقيم "البرنامج" ما قامت به سلطات الحماية خلال 22 سنة، ليصل إلى الاستنتاج بان سلبيات نظام الحماية يفوق بكثير إيجابياته من هذا المنطلق سيتم اقتراح مجموعة من الإصلاحات تفاديا لهذه الوضعية الغير السليمة ويمكن اختزالها في 15 فصلا: 1. الإصلاحات السياسية 2. الحريات الشخصية والعامة 3. الجنسية المغربية والحالة المدنية 4. الإصلاحات العدلية 5. الإصلاحات الاجتماعية 6. الأوقاف الإسلامية 7. الصحة العامة والإسعاف الاجتماعي 8. شؤون العمل 9. الإصلاحات الاقتصادية والمالية 10. النظام العقاري 11. الضرائب والأداءات 12. الإصلاحات المتفرقة 13. العربية كلغة رسمية للبلاد 14. العلم المغربي والأعياد الرسمية 15. التشريعات "إن جوهر ما يتضمنه برنامج الإصلاحات هو مناشدة فرنسا بتطبيق معاهدة الحماية وإلغاء كل مظاهر الحكم المباشر". فكثلة العمل الوطني التي رفعت هذا البرنامج "لم تكن مهيكلة ومنظمة". وظلت حزبا مغلقا على نفسه إلى حدود سنة 1936، كما أنه إلى حدود هذا التاريخ لم يطرح مشكل يقود الكتلة" فالقيادة كانت جماعية تتشكل من عشر أشخاص وهم الذين وقعوا على برنامج الإصلاحات. وكانت أماكن تواجد الكتلة هي نفسها أماكن تواجد قاداتها لذلك ظل تنظيما محصورا في الرباط سلا البيضاء القنيطرة وفاس. فمنذ نشأة كتلة العمل الوطني عملت على تقديم برامج للإصلاحات في فاتح دجنبر 1934، كما أنها طيلة سنة 1935 "ظلت تقاوم الامتيازات التي كان يطالب بها المعمرون الفرنسيون". وكان من نتيجة الاحتجاجات إعفاء المقيم العام "بونصو" وتعويضه ب "بيروتون" غير أن وصول بيروتون" صادف صعود الجبهة الشعبية" إلى الحكم في فرنسا، "هاته "الجبهة" التي كانت الكتلة تراهن على صعودها".فأرست وفدا إلى فرنسا يضم عمر عبد الجليل ومحمد حسن الوزاني لشرح مواقف "الكتلة" للحكومة الجديدة وذلك في يوليوز 1936، وقد استقبل الوفد من قبل وكيل وزارة الخارجية "بول فينو" وهو أحد المناصرين للوطنيين هذا الاستقبال إضافة إلى تغيير المقيم العام "بيروتون" وتعويضه في شتنبر ب "نوجيس" شجع الكتلة على وضع قائمة بالمطالب المستعجلة هاته المطالب تشكل تلخيصا لمطالب سنة 1934، وتتكون "المطالب المستعجلة من الآتي 1." الحريات الديمقراطية : الصحافة والاجتماع والجمعيات والتعليم والتجول في أنحاء البلاد والنقابات. 2. التعليم : توحيد البرامج في جميع أقاليم المغرب -تكثير عدد المدارس الابتدائية، تكميل حاجيات التعليم الثانوي تأسيس مدارس المعلمين والمعلمات 3. العدل : أن يضمن لجميع القضاة راتب كاف من الميزانية لأمن أداءات المتداعين والمحكومين، فصل السلطة الإدارية عن العدلية والتنفيذية محو سياسة القواد الكبار... 4. الفلاحة : تأسيس ملك عائلي لا يقبل التفويت عن طريق توزيع أملاك الجماعات توسيع القرض الفلاحي للفلاح تسوية الفلاح مع المعمر في الضرائب- حماية الفلاح من الحكام والمعمرين... 5.العمال والصناع : تطبيق قوانين العمل الفرنسي على العمال المغاربة تجديد الصناعة المغربية وحمايتها من المزاحمة الأجنبية، مساعدة العاطلين المغاربة... 6. الضرائب : إسقاط بعض الضرائب والتسوية في الباقي بين المغاربة وبين الفرنسيين إلغاء حق الأبواب و مكس الأسواق وحق الرعي في الغابات. 7. الصحة العامة : تكثير عدد المؤسسات الصحية، وتوزيع الأدوية على المحتاجين بناء قدر كاف من ملاجئ العجزة والمحتاجين، توسيع المساعدات الحكومية للمنظمات الخيرية العامة المغربية الكفاح القوي الدائم ضد المساكن القذرة مقاومة البغاء السري والعلني". إن وصول "الجبهة الشعبية" أدى بالفعل إلى تحول في بنية "كتلة العمل الوطني" إذ أصبح حزبا منفتحا على القواعد الشعبية وتأسست فروع جديدة بمكناس، صفرو، وزان، قصبة تادلة، فتحويل بنية "كتلة العمل الوطني" من حزب مغلق على نفسه إلى حزب منفتح على القواعد الشعبية، سيطرح مشكل السلطة داخل الحزب "وكان هناك شخصان مؤهلان لتزعم "الحزب الذي أصبحت له قدرة على تحريك الشارع بوصول الجبهة الشعبية هذان الشخصان هما : علال الفاسي ومحمد حسن الوزاني". فقد استغل علال الفاسي غياب العناصر التي قدمت لائحة المطالب المستعجلة ليدعو إلى عقد المؤتمر الأول لكتلة العمل الوطني يوم 25 أكتوبر 1936 بالرباط، وعند عودة محمد حسن الوزاني من فرنسا وجد نفسه أمام حزب جديد يقوده شخص واحد هو علال الفاسي. فقد عرفت الكتلة منذ 1936 تحولات في بنيتها. هذا سيؤدي إلى التفكير في هيكلتها فقد اجتمعت في يناير 1937 لتختار لجنة تنفيذية جديدة*. فعلال الفاسي من خلال كتابه "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي ص 192، يؤكد على أن محمد الوزاني لم يقبل التركيبة الجديدة فانسحب من الكتلة وقد ساهم خنق جو الحريات العامة الذي خلقه المقيم العام نوجيس" في التكريس النهائي لهاته القطيعة، حيث ما أن تأكد من حدوث الانشقاق حتى سارع إلى حل "كتلة العمل الوطني" في مارس 1937، وهكذا انفجرت الكتلة فتشكلت "الحركة القومية " والحزب الوطني ويمكن القول بأن فرنسا ساهمت في تفجير الحركة الوطنية وإنضاج التناقض من داخلها، وهو ما تأتي لها من خلال التساهل في جو الحريات العامة نذكر منه على الخصوص الترخيص لكثير من الصحف، وكانت هذه الإجراءات هي الحلقة الأخيرة في السعي وإيضاح تناقضاتها . لأن الكتلة لم تكن منظمة ومهيكلة من قب إ الحركة القومية: في 1-2 شتنبر سيعرف المغرب أحداثا دارمية وهي المعروفة بأحداث بوفكران*، وكان من نتائجها اعتقال الوزاني الذي شكل تنظيما أسماه Action nationale marocain وكانت صحيفة "عمل الشعب" ناطقة باسمه ومن صلب هذا التنظيم ستولد "الحركة القومية" لكن باعتقال الوزاني في 29 أكتوبر 1937 ونفيه ستدمل ويقضى على الحركة. إ الحزب الوطني: عندما أصدر المقيم العام أوامره بحضر "كتلة العمل الوطني" في 18 مارس، فإن الحظر لم يمس صحافة الحزب "الأطلس" و "L action populaire" حيث شرعت هاته الأخيرة تصدر باسم "الحركة الوطنية لتحقيق المطالب". وكان تنظيم "الحركة الوطنية لتحقيق المطالب" الذي خلف كتلة العمل الوطني مرحلة لتشكيل "الحزب الوطني لتحقيق المطالب المغربية" حيث عقد مؤتمر سري بالرباط في فاتح أبريل 1937 وتم وضع أسس التنظيم الجديد " وقد أكد الحزب اعترافه بنظام الحماية ورغبته فقط في تحقيق إصلاحات في إطاره" غير أنه لم يظهر للعلن إلا في 23 يوليوز 1937 وهو التاريخ الذي قدم فيه أحمد بلافريج وعمر بن عبد الجليل مذكرة حول السياسة المتبعة في المغرب من قبل الإقامة العامة في عهد "نوجي" وتخلص على النتيجة التالية :" سياسة الحماية ترتكز على التسويق والميز العنصري، وهي إذ تقدم للأوربي كل شيء لا تقدم للمغربي إلا شيئا طفيفا، مع أن المواطن المغربي هو الذي يمول ميزانية الدولة، ولا ترى المذكرة أملا لحل المشكلة إلا في تحقيق المطالب المستعجلة التي أقرها الحزب وتبناها الحزب الاشتراكي الفرنسي بالمغرب وعاضدتها الأحزاب الأخرى التي تكون الجبهة الشعبية في فرنسا". فقد حاول الحزب تنظيم نفسه حيث كانت له لجنة تنفيدية ومجلس وطني وفروع وخلايا، وكانت اللجنة التنفيذية تتوفر على عدة لجان كان أهمها: - لجنة التعليم - لجنة الإصلاح الديني والاجتماعي - لجنة الإغاثة الوطنية - لجنة التقويم الخلقي - لجنة الصحافة - لجنة الدعاية والنشر - لجنة الشباب الوطني - لجنة حماية فلسطين والأماكن المقدسة - لجنة الشؤون الاقتصادية. لكن الحزب لقي نفس المآل التي لقته الحركة القومية بسبب أحداث بوفكران في هذا الإطار سيتم حظر صحيفة " L action populaire" في 4 شتنبر 1937 ولهذا نضم الحزب عدة تظاهرات في جميع مدن المغرب واحتجاجات على الوضعية المزرية التي تعيشها وآلت إليها الحريات العامة في المغرب وسيعقد الحزب مؤتمره الوطني العام يوم 13 أكتوبر بمدينة الرباط أقر في الشأن الحريات العامة ميثاقا وطنيا" نبرز هنا أهم نقطه المطلبية أو أهم نقطه التي ينادي من خلالها بالإصلاحات: بعد تقييمه للوضعية المغربية من خلال هذه الأحداث،الأول هو احتكار مياه السد لصالح المعمرين في قبيلة أيت أيمور بناحية مراكش، وقد نظم الوطنيون في الجنوب حركة احتجاج هائلة، والحدث الثاني فهو ما عرف بقضية وادي "بوفكران" بنواحي مكناس فقد حاولت الإدارة تحويله لصالح المعمرين وهم يملكون أراضي شاسعة في الإقليم وثارتا المدينة بقيادة فرع الحزب وبتأييد من الصحف الوطنية وقعت هذه الحوادث في 2 شتنبر 1937، وقد حاصر فيها الجيش الفرنسي المتظاهرين وقاومهم بعنف وبإطلاق النار فاستشهد أحد عشر مواطنا وجرح عدد كبير". انطلاقا من هذه الأحداث وغيرها سيرفع الحزب مطالب إلى الإقامة العامة الفرنسية منها: - "يقررون أن كل تفاهم مع الحكومة لا يمكن إلا بعد العدول عن خنق الحريات والاضطهادات وبعد تنفيذ مطالب المغرب المستعجلة ويعتبرون أن في رعاية جلالته لشعبه الكريم وفي عطف الأحرار ما يسهل ذلك. - يطالبون للصحافة المغربية بالحقوق التي تتمتع بها الصحافة الأجنبية بالمغرب. - يطالبون بإطلاق سراح جميع المعتقلين وإعطاء تعويضات عاجلة لسائر المنكوبين وعائلاتهم عما غصب منهم". وكان رد الإقامة العامة هو حرمان "الحزب الوطني" من صحيفته الناطقة بالعربية "الأطلس" وذلك يوم 16 أكتوبر أي بعد أيام قليلة من انعقاد المؤتمر العام وصدور الميثاق الوطني، وتوالت الأحداث بسرعة حيث تم اعتقال علال الفاسي وعمر بن عبد الجليل وأحمد مكوار ومحمد اليزيدي في يوم 25 أكتوبر وبعد ذلك بيوم واحد صدر مقرر وزيري يقضي بحل الحزب الوطني لتحقيق المطالب. وهكذا سيشل الحزب ويصبح غير قادر على رفع أي مطالب بعد أن اعتقل زعمائه وستصبح الفترة ما بين 1937 إلى 1942 فترة جزر بالنسبة للحركة الوطنية تقريبا إلا أن تأسس لنا حزب الاستقلال في 1943 الذي سيغير من منهجيته إذ سيرفع شعار" الاستقلال" عوض المطالبة بالإصلاحات في نظام الحماية. ? المطالبة بالاستقلال 1943-1955: شجع نزول الحلفاء في 8 نونبر 1942 بشمال إفريقيا، إضافة إلى السياسة المتشددة التي انتهجها المقيم العام الإسباني Orgaz تجاه حزب الوحدة المغربية حزب الإصلاح الوطني إلى إبرام ميثاق وطني بين هذين الحزبين في 18 دجنبر 1942 ينص على: - منح المغرب الحرية والاستقلال - إقامة نظام ملكي إسلامي ووطني تحت قيادة السلالة العلوية - إقامة وحدة المغرب من خلال إلغاء نظام المناطق - الاعتراف بالسيادة الداخلية والخارجية للمغرب. لقد تغيرت رؤية الحركة الوطنية إذ تجاوزت المطالبة بالإصلاحات وأصبحت تنادي بالحصول على الاستقلال الذي كانت ترى فيه مدخلا للإصلاح على عكس سلطات الحماية سواء الفرنسية أو الإسبانية التي تسعى لقلب هذه المعادلة و أصبحت تنادي بالإصلاح كمدخل للاستقلال. أ- الاستقلال كمدخل للإصلاح : كان أحمد بلافريج لاجئا إلى منطقة الحماية الإسبانية سنة 1937، وقد شهد توقيع الميثاق الوطني بين حزب الوحدة المغربية وحزب الإصلاح الوطني، هذا الميثاق الذي تخلى عن ما كانت تنادي به الحركة الوطنية من قبل أي ضرورة المطالبة بمزيد من الإصلاحات للحصول على الاستقلال ليؤسس نظرة جديدة للعمل وهي المطالبة بالحصول على الاستقلال الذي سيفضي إلى مجموعة من الإصلاحات وقد عاد شهر من ذلك أي في يناير 1943. وبعد رجوعه بحوالي ستة أشهر سيشهد المغرب لقاء أنفا بين روزفلت وتشرشل وهوبنكنز والسلطان محمد بن يوسف وهو اللقاء الذي سيتم الدفع بالنظرة الجديدة إلى أقصاها في هذا الإطار سيتم إنشاء مجموعة من الأحزاب ستنادي بتطبيق المنظور الجديد للنضال ومن أهم هذه الأحزاب حزب الاستقلال، كما تجدر الإشارة إلا أن مجموعة من العوامل ساعدت الحركة الوطنية إلى طرح هذه الرؤية الجديدة للعمل ومن ضمنها اندلاع الحرب العالمية الثانية والانبهارات التي حققتها دول المحور والتي أدت إلى سقوط فرنسا في يونيو 1940، وأيضا خطاب طنجة*. الذي شكل منعطفا في تاريخ الحركة الوطنية بالمغرب، " إذ ظلت سلطات الحماية منذ 1912 تراهن على انحياز السلطان إلى جانبها ضد الوطنيين". إذ حمل هذا الخطاب عدة دلالات أهمها رفض الإصلاح في ظل الحماية. كما يجب التذكير أن الجامعة العربية" التي تأسست في 22 مارس 1945 خرجت ببيان يركز على" أن نظام الحماية لم يعد يستجيب للرغائب العميقة للشعب المغربي". · تكريس الرؤية الجديدة : حزب الاستقلال : أسس حزب الاستقلال في دجنبر 1943، وقد تشكل من أعضاء الحزب الوطني السابق كما انضمت إليه شخصيات من الحركة القومية، فمنذ إنشائه حاول توسيع قاعدته إذ طرحت المسألة التنظيمية منذ البداية لأنها الوحيدة التي بإمكانها أن تجعل الحزب قوة تحرك الشارع وتضغط على الإقامة العامة" فشرع الحزب في تقسيم أعضائه إلى نوعين : أعضاء عاملين وأعضاء مؤازرين". كما تأسست لجنة خاصة لتوجيه وارشاد مؤيدي الحزب. وقد أصيب الحزب ككل بنوع من النكوس على إثر تقديم بيان الاستقلال في 11 يناير 1944 حيث اعتقل أحمد بلافريج المؤسس الأول وبعض أعضائه بتهمة التعاون مع النازية، وهكذا بعد نفي بلافريج سيعاد تنظيم الحزب في أكتوبر 1945 وفي عام 1947 سيتخلى الحزب عن نظام العضوية الثنائية أي فكرة العضو العامل والعضو المؤازر، واستكمالا لسياقه التنظيمي سيعرض الحزب على امتلاك مناصر صحفية تخوله التعبير عن آرائه ومواقفه*. · المطالبة بالاستقلال لقد ترجم بيان 11 يناير 1944 رؤية الحركة الوطنية وعلى رأسها حزب الاستقلال، حيث تمت ترجمة رؤية الحزب الجديدة، كما برز التوجه الجديد الذي سيقود النخبة المغربية السياسية وفيما يلي ما جاء به البيان: أ- فيما يرجع للسياسة العامة: - أن يطالب باستقلال المغرب ووحدته الترابية تحت ظل صاحب الجلالة ملك البلاد المفدى سيدنا محمد بن مولانا يوسف نصره الله وأيده. - أن يلتمس من جلالته السعي لدى الدولة التي يهمها الأمر للاعتراف بهذا الاستقلال وضمانه. - أن يطلب انضمام المغرب للدول الموافقة على ميثاق الأطلسي والمشاركة في مؤتمر الصلح. ب- فيما يرجع للسياسة الداخلية : - أن يلتمس من جلالته أن يشمل برعايته حركة الإصلاح الذي يتوقف عليها المغرب" وبعد صدور بيان الاستقلال فكرت الإقامة العامة أن تقنع الوطنيين بالتراجع عن فكرة الاستقلال وحذف الكلمة من البيان والتلويح بالمقابل بإصلاحات، وقد دخل الوطنيين معهم في مفاوضات كانت حصيلتها "أن الإقامة العامة تنوي حذف كلمة استقلال من البيان مقابل أن المساواة بين المغاربة والفرنسيين". غير أن الحزب أصر على أنه لا يمكن تحقيق هذه المساواة من طرف الإقامة العامة وأصدر بيانا يوضح فيه أن المطالبة بالاستقلال أمر مشروع وأن الحزب لا يفكر في استعمال العنف للوصول إلى هدفه، وقد صدر هذا البيان بعد أسبوع من تقديم وثيقة الاستقلال وفكر المقيم العام بعد هذه الخطوة في إجراء بعض الإصلاحات وقد عبر عن هذه الإصلاحات حزب الاستقلال بالرفض، وبعد العديد من المفاوضات حاول الحزب أن يطرح مسألة المغرب على الساحة الدولية، فظل الحزب رافضا كل الإصلاحات التي تنادي بها الإقامة العامة وظل متشبثا بفكرة الاستقلال. كان الحزب قد طرح منذ البداية خطه الجديد وأسلوبه في التعامل مع الإقامة العامة وسلطات الحماية لذا فحزب الاستقلال لن يقبل بهذه المساومة وفعلا أصر الحزب على عدم تحقيق المساواة بل هي شعار ل جدوى منه رفعته الإقامة العامة مقابل حذف كلمة الاستقلال من البيان، لهذا الغرض أصدر الحزب بيانا يوضح فيه :" إن المطالبة بالاستقلال أمر مشروع وإن الحزب لا يفكر في استعمال العنف للوصول إلى هدفه". كما عبر الحزب عن رفضه لأي إصلاح داخل نظام الحماية في مذكرة صادرة عنه بتاريخ فاتح دجنبر 1944 عندما أكد المقيم العام الفرنسي G. Puaux في 26 نونبر على إجراء بعض الإصلاحات. انطلاقا من هذه الرؤية الجديدة للنضال أصبح الحزب يرسخ سياسة وطنية وينادي بضرورة الحصول على الاستقلال كما أصبح ينادي بإلغاء نظام الحماية وتشكيل حكومة مغربية برئاسة السلطان لتشرع في إجراء مفاوضات مع الحكومة الفرنسية قصد إبرام اتفاقية جديدة تضمن السيادة للمغرب. ونظرا للسياسة المتشددة التي ستنهجها الإقامتان الفرنسية والإسبانية في مواجهة مطالب الوطنيين المغاربة بعد 1948 سيفكر الوطنيين المغاربة في التركيز على الجبهة الخارجية، وستحاول الجامعة العربية توحيد الجهود بين الأحزاب المغربية حتى تكون هناك فاعلية للدفاع عن القضية المغربية خاصة في الأمم المتحدة وهو ما سيتم فعلا في 9 أبريل 1951 حيث ستتأسس الجبهة الوطنية المغربية التي ضمت أربعة أحزاب. - حزب الوحدة المغربية - حزب الإصلاح الوطني - حزب الاستقلال - حزب الشورى والاستقلال الذي أسسه حسن الوزاني حيث حول الحركة القومية إلى هذا الحزب. ويتضمن هذا الميثاق المؤسس لهذه الجبهة ثمانية ينود منها: § لا يجب أن يتابع أي هدف قبل تحقيق الإصلاح. § لا يجب إجراء أي مفاوضات قبل إعلان الاستقلال . § لا مفاوضة مع المستعمر ولو حول مسائل بسيطة في إطار النظام الحالي . § تلتزم كل الأحزاب الموقعة على الميثاق بالدفاع عن الاستقلال الكامل للمغرب. § التنسيق مع الجامعة العربية في أنشطتها واجب وطني . § الأحزاب الموقعة على الميثاق لا تقبل تأسيس جبهة مع الشيوعيين المغاربة. وحسب محمد ضريف في كتابه الأحزاب السياسية المغربية فإن الجبهة الوطنية المغربية ولدت ميتة، إذ ما كان يمر وقت طويل حتى تم خرق بنودها خاصة من قبل حزب الإصلاح الوطني في 10 فبراير 1952. وقد كان رد فعل الإقامة العامة كعادتها هو محاولة قلب هذه الرؤية الجديدة ومحاولة طرح رؤيتها القديمة أي الإصلاح في ظل الأوضاع الحالية ولتأكيد رؤيتها ستسعى إلى خلق وتدعيم أحزاب تنادي بالإصلاح. لمواجهة المواقف الصارمة لرجال الحركة الوطنية المغربية والتي كانت ترفض أي إصلاح في ظل الحماية كانت الإقامة الإسبانية تلجأ بين الفينة والأخرى إلى خلق أحزاب لم يكن لها من دور سوى مناصرة إسبانيا وتجميد منجزاتها إذ سيعمل المقيم العام الجديد الذي أصبح مقيما عاما في مارس 1945 إلى خلق "حزب الوحدة الريفية" الذي كان مشكلا من رجال سلطة يدينون بالولاء لإسبانيا، غير أن هذا الحزب سرعان ما اختفى". وفي محاولة أخرى للتضييق على العمل الوطني إثر لجوء عبد الكريم الخطابي إلى مصر أسست الإقامة العامة في يونيو 1947 "حزب الدفاع الوطني " "الذي كان يقوده خالد الريسوني باشا العرائش وكان يسيره في طنجة الغالي داوود وفي القصر إبراهيم الوزاني". وفي فبراير 1953 دفعت سلطات الحماية من جديد خالد الريسوني باشا العرائش لتأسيس حزب أسماه "حزب الهلال" غير أن مصيره كان كسابقه أي اختفى بعد شهر من ذلك. غير أن سلطات الحماية سرعان ما ستدرك أن هاته الأحزاب لم تكن في مستوى تعويض الفعاليات الوطنية كالمكي الناصري وعبد الخالق الطريس وسيتم التفكير من جديد في إعادة التعامل مع هاته الفعاليات حيث في مارس 1951 تم السماح لزعماء حزب الإصلاح الوطني بالعودة* وقد رجع الطريس بشكل نهائي وبعد اتفاق مع سلطات الحماية الإسبانية في 10 فبراير 1952 إلى تطوان وصرح لأنه مقتنع بتعاطف إسبانيا مع القضية المغربية وبذلك يكون الحزب لم يخرق فقط ميثاق الجبهة الوطنية المغربية المؤسسة في 1951 بل قدم لسلطات الحماية الإسبانية خدمات عجزت عن تقديمها الأحزاب التي أنشأت لهذا الغرض. أما فيما يخص تجربة الحماية الفرنسية فقد أسست بدورها أحزاب كانت تنادي بالإصلاح وأهمها "الحزب الديمقراطي المغربي للأحرار" الذي أسسه المولى إدريس الشريف ** سنة 1947 وهو حزب جعل نفسه في خدمة الدين والوطن، وكان يدعو إلى إقامة ملكية دستورية ونظام برلماني في ظل الحماية الفرنسية، وكانت سلطات الحماية قد قررت مواجهة المواقف الصارمة للسلطان محمد بن يوسف والمتمثلة في المطالبة بالاستقلال وأخذت تمهد لخلعه بصنع حركة الباشوات والقواد بزعامة "الكلاوي" "والكتاني" في جميع التظاهرات المعادية للسلطان "وقد صفق الحزب كثيرا لخلع السلطات في 20 غشت 1953 ومبايعة ابن عرفة إذ اعتبر هذا الخلع بمثابة عمل قد وضع حدا لملكية محتضرة كما حاول أن يلعب لعبة المعارضة داخل سلطة ابن عرفة". إن هذه المواقف وغيرها لم تثمر أي شيء اذ سيواجه الوطنيون هذه الأحزاب وذلك بالتركيز على أن الاستقلال هو الوحيد الذي يؤدي إلى الإصلاح، كما اعتبروا أن هذا المطلب لم يتراجعوا عنه وسيتصدون لكل من حاول الخيانة وبهذا العمل سيحصل المغرب على الاستقلال في 1956 لكن في ظل الاستقلال ستظهر تناقضات يجب العمل على حلها. II- تناقضات الاستقلال : 1956-1959: إن الفترة الممتدة بين 1956-1959 تعتبر فترة حاسمة في تاريخ الحركة الوطنية المغربية عموما وخاصة حزب الاستقلال المكون الأساسي الذي له وزنه في الساحة السياسية المغربية إذ خلال هذه الفترة سيتم الحسم في النظام الحزبي الذي سيعيش في ظله المغرب المستقل وقد كان الصراع للحسم في هذا الاختيار يجري بين قوتين: قوة القصر* وقوة حزب الاستقلال كما عبر عن ذلك علال الفاسي في خطاب له بطنجة سنة 1959 "ليس في المغرب من قوة إلا قوات ثلاث: قوة الاستقلال، قوة جيش التحرير، قوة القصر و إذا اعتبرنا قوة جيش التحرير من الحزب وإليه، كانت هناك قوتان لا ثلاث لهما : قوة حزب الاستقلال وقوة القصر أو العرش". وكان لكل واحد منهما تصوره الخاص للنظام الذي يجب انتهاجه، ففي الوقت الذي كان حزب الاستقلال يراهن على إقامة نظام الحزب الوحيد، كان القصر يراهن على النظام الحزبي التعددي، فحينما نتتبع مسار الحزب نجد أن هناك خيارا استراتيجيا واحدا يتحكم في سلوكه وهو السعي إلى إقامة نظام الحزب الوحيد وإذا كان هدفه تحقيق مبتغاه فلا بد من خيار مرحلي تمثل في نظام الحزب المهيمن. ففي الوقت الذي أعلن فيه عن استقلال المغرب وجد حزب الاستقلال نفسه محاطا بمجموعة من الأحزاب والتي كان ينسق مع بعضها بالأمس وكان هو نفسه يعترف بمشروعيتها لذلك قبل في الأول أن يكرس هذا النظام عبر قبوله فكرة الحكومة الائتلافية وكان لقبوله دوافع موضوعية تمثلت في أنه هو الذي دفع ونادى ببيان 11 يناير وهو الذي طالب بالاستقلال أي دوافع الميراث التاريخي. وبذلك سيعمد حزب الاستقلال أي مناهضة الأحزاب المعارضة له. هذا المنظور كان يتجه ويندرج "ضمن منظور عام يتمثل في تنفيذ الخيار الاستراتيجي المتمثل في إقامة نظام الحزب "الوحيد". وهكذا ما كانت تحل سنة 1958 حتى كان حزب الاستقلال قد استطاع تهميش "حزب الشوري" و "حزب الأحرار المستقلين"، كما ندد بمحاولة إنشاء الحركة الشعبية، بل عمل على تعطيل جريدة "حزب الوحدة القومية" بقيادة المكي الناصري. عن هذه الظرفية وهذا السلوك يشكل بشكل واضح الخيار الاستراتيجي لحزب الاستقلال إذ في هذه السنة سيتم حظر الأحزاب المعارضة الأخرى مثل الحزب الشيوعي المغربي إذ في سنة 1957 حين داهمت قوات الشرطة الحزب الشيوعي بالدار البيضاء، ثم وصفه من قبل حزب الاستقلال بأنه حزب متعاون مع إسرائيل" في هذا الوقت انعقد مؤتمر "طنجة" الذي حضرته أحزاب شمال إفريقيا: تونس والجزائر والمغرب* إذ كان النموذجان التونسي والجزائري يؤثران في سلوكية حزب الاستقلال. Œ المطالبة بالحكومة المنسجمة : نحو نظام الحزب الوحيد: شكلت مشاركة حزب الاستقلال في الحكومتين الائتلافيتين الأولين : الأولى 7/12/1955 إلى 27/10/1956 والثانية من 28 أكتوبر 1956 إلى 11/05/1958 مجرد خيار مرحلي أما الثابت الأساسي في سلوكه والذي يمكن اعتباره خادما لخياره الاستراتيجي هو المطالبة بتشكيل حكومة منسجمة، "ومحاولة لتنفيذ الفكرة كان حزب الاستقلال يلوح بين الفينة والأخرى بورقة استقالة الوزراء الاستقلاليون من الحكومة". وهذا ما سيتم تنفيذه فعليا في 15 أبريل 1958 وكان مبرر الحزب هو أن "البكاي" يعمل على تحطيم الحكومة وكان البكاي رئيس الحكومة الائتلافية الثانية زيادة على أنمه يتصل ببعض الموظفين من رجال السلطة ويطلب منهم في مكتبه أن ينخرطوا في نشاط سري مناوئ لخطة الحكومة. إذن لقد نجح "حزب الاستقلال" في تفجير الحكومة الثانية، إذ أعلن أنالعمل من أجل استكمال الاستقلال يتطلب حكومة منسجمة تكون هي المسؤولة عن إنجاز الأهداف الكاملة من أجل استكمال التحرير ونيل الاستقلال الكلي، وبهذا نرى أن الحزب في هذه المرحلة انتقل من فكرة الحزب المهيمن داخل الحكومتين إلى سعيه لأجل تكريس نظام الحزب الوحيد. وبالفعل كلف الملك أحمد بلافريج الأمين العام للحزب بتشكيل حكومة منسجمة وبدا للعيان كأن "حزب الاستقلال" قد خطا خطوات نحو ترجمة خياره الاستراتيجي المتمثل في إقامة نظام الحزب الوحيد غير أن "القصر" كذلك له خياراته الاستراتيجية علما بأنه ليس في صالحه نظام الحزب الوحيد لذا سيحاول بناء وتكريس نظام حزبي لعددي، ذلك في مواجهة خيار الحزب الاستراتيجي وكان ذلك بناءا على مراعاة خصوصيات الواقع المغربي وبهذا ستدخل الحركة الوطنية وعلى رأسها حزب الاستقلال في صراع ثان هذه المرة ليس مع سلطات الحماية ولكن على الصعيد الداخلي أي مع القصر إذ سيراهن الأخير على التعددية الحزبية والآخر على نظام الحزب الوحيد. ? نحو تكريس النظام الحزبي التعددي :القصر وخياراته: عمل القصر على تكريس النظام الحزبي "التعددي" عبر معطيين : 1- المعطى الأول: تكوين المجلس الوطني الاستشاري. ب- المعطى الثاني: الكيفية التي تم بها تشكيل الحكومات. وبهذا يكون القصر عبر إصدار سلسلة من القوانين تمنع نظام الحزب الوحيد فما مدى نجاحه في تنفيذ خياره؟ وما هي أساليبه؟ أ- تكوين المجلس الوطني الاستشاري تأسس هذا المجلس بظهير ملكي صادر في 3 غشت 1956، وقد كان ترجمة أولى الالتزامات الملك بإقامة ملكية دستورية وبتعبير آخر، لقد كان المجلس وسيلة لانتهاج سياسة برلمانية، ولكن ليس بشكل مطلق، إذ وظيفة المجلس حسب الفصل الأول من الظهير استشارية وليست تقريرية أو تشريعية بمعنى آخر أنه لا يمارس الوظيفة التشريعية التي تظل من اختصاص الملك. إن الكيفية التي تم بها تشكيل المجلس الوطني الاستشاري تبرز بشكل واضح خيار القصر الاستراتيجي الذي يراهن على إقامة نظام حزبي تعددي وذلك لمواجهة خيار الحزب المتمثل في الحزب الوحيد كما سلف الذكر. 2- كيفية تشكيل الحكومات: ظل القصر حريصا على أن تكون الهيئات السياسية ممثلة في التشكيلات الحكومية وهنا يتجلى الخيار الاستراتيجي للقصر الساعي إلى إقامة النظام الحزبي "التعددي" على مستوى الممارسة السياسية وكانت خلفية هذا الخيار هو مواجهة هيمنة حزب الاستقلال. فحين منحت الفرصة لأحمد بلافريج بتشكيل الحكومة، فان حكومته لم تكن منسجمة على الإطلاق ولم تكن خالصة "لحزب الاستقلال" بل شارك فيها "مستقلان" وهذا ما سهل القضاء على خيار الحزب الاستراتيجي، " فبلافريج منحت له تشكيل الحكومة لكونه مواليا للملك أكثر من كونه أمينا عاما لحزب الاستقلال". لذلك يمكن اعتبار هذا التشكيل بمثابة مدخل للقضاء على الخيار الاستراتيجي لحزب الاستقلال وإنجاح خيار القصر، فالحكومة عوض أن توحد آراء ومواقف الحزب والتوحد لأن الغرض والهدف واحد هو استكمال وحدة المغرب واستقلاله فإنها على العكس ساهمت وزادت في ظهور تناقضات الحزب الداخلية وذلك باستغلال القصر وجود تيارات متصارعة داخل الحزب وبالتالي سيعمل على تعميق الهوة بينهما الشيء الذي سهل عليه انتهاج سياسة جعلت الحزب نفسه يحارب خياره ويكرس مرغما التعددية الحزبية". لقد اختار القصر الحفاظ على النظام القديم مع إدخال بعض الترميمات ورغم شعبية الملك كانت وسائل تصريف هذا الخيار منعدمة لذلك سيتجه القصر إلى ربع الوقت قصد توفير الوسائل الضرورية وسيوجه جهوده في ثلاثة اتجاهات: - السيطرة على المناصب الحساسة في الإدارة والجيش . - إضعاف الحركة الوطنية . - خلق قوة محافظة مناوئة لحزب الاستقلال. وقد جرى تنفيذ كل ذلك على نحو أظهر الملك وكأنه خارج الخلافات والمواجهات مما سمح له بإبطال ردود فعل الحركة الوطنية أو بتلطيفها بمعنى آخر، فكيف تم ذلك؟. في الوقت الذي خطط فيه النظام المغربي على إضعاف الحركة الوطنية لم يرد حزب الاستقلال باعتباره المكون الأساسي للحركة الوطنية بالحزم والتصميم المطلوبين إذ لم يكن يتوفر على قيادة منسجمة كما سينفجر الصراع بين تيارين من أجل السيطرة على القيادة التيار الأول ويمثله جيل أعيان حزب الاستقلال أي الذين قدموا وثيقة الاستقلال ما عدا المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد هذا التيار لم يكن لصالحه أي تغيير جدري للنظام لأنه كان يريد اقتساما للسلطات بين الملك والحزب ويمكن القول أن هذا التيار يعكس نوعا من طموحات الفئات المكونة له والتي كانت قد تعاونت مع المخزن وأصيبت بالخيبة في تجربتها مع الغدارة الاستعمارية وكانت تأمل أن يفتح لها النظام ما كان موصودا في وجهه. أما التيار الثاني فهو المتكون من الأطر الجديد التي التحقت بالحزب وأصلها من البوادي أو المدينة إبان سنوات 50-1956 و الذين كونوا جيش التحرير الوطني وأطر المركزيات النقابية. هذا الاتجاه كان على عكس الأول يريد تغييرا في بنية المؤسسات وإحداث تغيير جذري قصد استكمال الاستقلال على كافة المستويات. وكان يطرح شعار ملكية دستورية يبقى للملك فيها دور رمزي، لذلك كان جيش التحرير يرفض وضع السلاح والاندماج في الجيش الملكي. هذا التعارض والاختلاف من داخل الحزب المكون الأساسي للحركة الوطنية هو الذي حرم الحزب من قيادة منسجمة قوية وقادرة على خلق ميزان قوى في معارضة القصر والاستفادة منه وتطوره لصالحها موضوعيا في حين كان القصر يخطط بدقة لتوجيه ضربة للحركة الوطنية وبالأخص لحزب الاستقلال أحد قيادي الحركة الوطنية. فالصراع بينهما كان يتمحور بالأساس في الفترة الأولى من الاستقلال حول سلطات القرار فمن ينجح في امتلاك هذه السلطة يتمكن في التحكم في المؤسسات ونظام الحكم هذا المنظور الرئيسي للصراع كثف المواجهات في جبهتين :الحكومة والجيش. فعلى صعيد الجبهة الأولى كان موضوع المواجهة يتحدد في مسؤولية الحكومة وتوزيع المناصب الوزارية فبينما كان القصر يسعى إلى اختزال دور الحكومة إلى مجرد دور تنفيذي وكان يريد علاقات مباشرة وعبر قنوات متعددة مع كل وزير، ولم يقبل أن تمر علاقته بالحكومة عن طريق الوزير الأول "وكان يريد نظاما ترجع له فيه سلطة تعيين الوزراء وليس فقط الوزير الأول". أما حزب الاستقلال أو بالأحرى الجناح الجذري داخله فكان يريد حكومة مسؤولة يكون فيها للوزير الأول هامش واسع من المبادرة والحرية في اختيار لوزرائه"غير أن ما كان يعانيه حزب الاستقلال من تشبث وصراع سمح للقصر بتثبيت اختياره وتوجهه". أما فيما يخص الجبهة الثانية أي الجيش فقد كانت المواجهة مقنعة فإزاء مطالبة الملك بحل جيش التحرير الوطني وإدماج جزء منه في الجيش الملكي، فكانت قيادة جيش التحرير ترفض وضع السلاح مبررة ذلك" بان جزء من التراب الوطني ما يزال في قبضة المستعمر". هذه النزاعات الداخلية في الحزب ستسمح للملك بإبعاد جيش التحرير عن مركز السلطة السياسية وتعميق التناقضات من داخله، وهو ما سيتأتى له غذ في غضون 1960 لم يعد لجيش التحرير وجود، ومن يومها أصبحت القوة المسلحة الوحيدة في البلاد تسمى بالجيش الملكي هذه بعض أوجه تناقضات الحركة الوطنية أي بعض المسائل التي أدت إلى إضعافها بما في ذلك الصراع حول القيادة وعدم الانسجام في المواقف والأهداف إذن اجتمعت كل العوامل سواء الداخلية أو الخارجية - الصراع مع القصر- لتقضي في الأخير إلى نتيجة واحدة وهي انشقاق الحركة الوطنية. أثناء المواجهة بين القصر وحزب الاستقلال، كان الصراع أيضا داخل الحزب يأخذ أبعادا خطيرة شيئا فشيئا وعوض أن تقود مناورات ومحاولات "الخصم" التي تستهدف تشتيت الحزب إلى توحيد الصف داخل الحزب كما كان يأمل المنشقون ومع أن وحدة الحزب كان مرغوبا فيها من طرف كل الاتجاهات داخل الحركة الوطنية عموما وداخل الحزب خاصة، فان الخلافات كانت بالحجم الذي جعل تلك الأحلام والآمال تتبخر، وابتداء من 1958 ستكتسي المواجهات والصراعات داخل الحزب طابعا علنيا، وستتعدد ملامح الانشقاق على المستوى الإيديولوجي وبالأخص على المستوى السياسي فقد كانت الإيديولوجيا التي حملتها الحركة الوطنية ما بين 1930 و 1950 هي السلفية ولم يلبث أن تعرض هذا الاتجاه أو هذه الأيديولوجيا لعدة هزات بسبب المعطيات الجديدة التي حملتها سنوات 1950-1956، إذ اتجهت التعبئة السلفية لمقاومة الوجود الأجنبي المتمثل في الإدارة الاستعمارية التي خيبت آمال الحركة الوطنية سواء من ناحية تحقيق مطالبها وإصلاحاتها أو من ناحية الحصول على الاستقلال، دون اهتمام لمسألة الامتيازات الموجودة التي خولها الاستعمار للمتعاونين معه من المغاربة أو الأجانب في حين أن المسألة الأخيرة أي الامتيازات كانت موضوع اهتمام الجناح الراديكالي أو الجدري بمعنى آخر داخل الحزب إذ في سنوات الخمسينات شدد على هذه الامتيازات وأعلن طموحه لتقليصها إذ لم نقل مقاومتها والتصدي لها. فقد قاد الجناح الراديكالي داخل حزب الاستقلال طموحه هذا إلى تبني أيديولوجيا مغايرة تماما لما تبناها الجناح المحافظ، فراح يحاول بناء إيديولوجيا تعبر عن مصالح العمال والفلاحين والتجار والمثقفين، ولم تكن هذه الإيديولوجيا الجديدة تعلن انتسابها لمذهب معين ولكنها كانت تناهض الاستعمار سواء الاستعمار المباشر أو الجديد أي مخلفات الاستعمار، وتعلن بوضوح طموحها ورغباتها في دمقرطة الحياة السياسية والدفاع علانية عن الطبقات الشعبية. أما على المستوى الثاني أي المستوى السياسي فكان الخلاف أكثر وضوحا إلى حد يمكن القول بوجود تعارضات داخل الحزب فكان أهمها الموقف من التشكيلات الحكومية ومن أحداث الريف، فكان الجناح الراديكالي يرفض هيمنة القصر على الحكومة وعلى وزارة الداخلية بالأخص وقد لخص بالازولي الموقف كما يلي:" كانت الحركة الوطنية في وضعية ترفض عليها الحفاظ على شرطين سيتوقف عليهما مصيرها إن تحافظ على وحدتها أو أن تقف ندا للند مع الملكية في قيادة البلاد... وقد أخفقت الحركة الوطنية في هاتين الواجهتين معا"1 مع التأكيد على أن هذا الحكم يبقى حكما عاما. لن تلبت هذه الخلافات بين الجناحين داخل الحزب أن تأخذ أبعادا وأشكالا تنظيمية فقد كان الجناح المحافظ مسيطرا على المناصب القيادية في الحزب ويسعى لتكريس السيطرة في حين كان الجناح الراديكالي يطالب بعقد مؤتمر وطني ديمقراطي وأمام تماطل تباطؤ القيادة أخذ في التعبئة للقيام بمؤتمر يقيل الفريق القيادي وتزعم هذه الحركة التي قامت بالدعاية ثلاث شخصيات مؤثرة وهي : محمد البصري أحد قادة المقاومة وجيش التحرير، والمحجوب بن الصديق الذي بارك الحركة باسم النقابة القوية*. والمهدي بن بركة أحد المؤثرين بقوة جهاز الحزب. هكذا ستنظم العديد من المؤتمرات الإقليمية في يناير 1959، وستشكل بعض الفيدراليات المستقلة التي ستتوحد كلها خلال شهر مارس 1959 لتعطي الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال كشكل تنظيمي أولي وسيعتبر المهدي بن بركة حركة 25 يناير 1959 بمثابة : "ثورة المناضلين ضد قيادة الحزب التي لم تعرف كيف تنجز التحول الذي طال انتظاره على مدى ثلاث سنوات"2. إذن نخلص إلى أن جميع الشروط والتناقضات اجتمعت لتفضي إلى شيء واحد وهو الانشقاق وبروز حزب جديد في شتنبر 1959 وقد أطلق على نفسه الاتحاد الوطني للقوات الشعبية واعتبر نفسه استمرارا للحركة الوطنية. هذه النتيجة كانت حتمية لأن حزب الاستقلال لم يكن يشكل تنظيما متماسكا بل كان عبارة عن "جبهة" تضم عدة تيارات، وكل تيار له تصوراته وتوجهاته وقراءاته للمرحلة الأولى من الاستقلال، وكانت تتخلله تيارات متصارعة، فإضافة إلى السياسيين التقليديين" الذين عاشوا حياة الحزب منذ نشأته في الغالب هناك تيار يأمل في تغيير جدري فكان الحزب مشكلا من حزبين أو بالأحرى تيارين : " حزب الاستقلال" اللجنة التنفيذية" وحزب الاستقلال "اللجنة السياسية" فعمل التيار الممثل داخل "اللجنة السياسية" على تأزيم حكومة بلافريج حيث قامت النقابة - الاتحاد المغربي للشغل" بمضايقة الحكومة عبر تلاحق الإضرابات التي اتخذت في صيف 1958 طابعا سياسيا "وقد تم تتويج هذه التناقضات بين التيارين بانسجام المحجوب بن الصديق والطيب بوعزة من "اللجنة السياسية" في مايو من نفس السنة" في هذا الوقت قرر ابن بركة الانسجام من "اللجنة التنفيذية" للحزب والالتحاق بعناصر اللجنة السياسية - وذلك بسبب تكوينه وطبيعة تفكيره وتوجهاته- في هذا الوقت نضجت التناقضات بين التيارين المتصارعين داخل حزب الاستقلال ففي هاته الفترة نجد مناوشات بين "أنصار" علال الفاسي و "محمد البصري" في صفوف جيش التحرير بمنطقة بوعرفة". وقد تأتى لعناصر اللجنة السياسية الانفلات من الحزب وتأسيس حزب جديد برؤية جديدة للنضال وبخط إيديولوجي
جديد وقد تأتى ذلك في نونبر 1958 و 25 يناير 1959 حيث وضعت الترتيبات الأولى ليعلن بشكل رسمي في شتنبر 1959.
فنرة الاستقلال: إن الفترة الممتدة بين سنة 1960-1975 تتحكم فيها فترتين : بالديمقراطية أو تدعيم ركائز الديمقراطية والفترة الثانية الوضوح الإيديولوجي، ورغم التداخل فيمكن القول بأن سنوات 1960-1972 هي الفترة التي تبلورت خلالها المطالبة بالديمقراطية ومنذ إقرار الدستور الثالث في مارس 1972 إلى حدود 1975 أي تاريخ انعقاد المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية كانت فترة الوضوح الإيديولوجي ووضوح الهوية الإيديولوجية قد بدأت تتبلور. في هذا القسم ستتناول كل فترة على حدة وسيتم التركيز على حزب الاستقلال وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب الاتحاد الاشتراكي الذي تفرع عنه أي سيتم التطرق من الأصل إلى الفرع بمعنى من حزب الاستقلال إلى إ-ش-ق-س. I - تدعيم وبناء الديمقراطية. أعلن الملك في خطاب له بمناسبة إقالة حكومة عبد الله إبراهيم التي تولت المهام بعد فشل تجربة حزب الاستقلال والذي يرأسها بلافريج ، في يوم 24 مايو 1960 على العمل على دمقرطة البلاد وتزويد البلاد بدستور قبل نهاية سنة 1962، وبعد وفاته نفد خلفه الحسن الثاني وعد أبيه وزود البلاد بدستور صادق الشعب عليه عن طريق الاستفتاء يوم 7 دجنبر 1962 ودخلت البلاد أول تجربة نيابية بتشكيل البرلمان واجتماعه لأول مرة في 12 نونبر 1963" غير أن التجربة لم تستمر إذ في 7 يونيو 1965 أعلن الملك حالة الاستفتاء". لقد عاش المغرب أول تجربة ديمقراطية في تاريخه بين 1962 و 1956 حيث لأول مرة يتم فيها تزويد البلاد بالدستور وإن كان قد صدر قبله القانون الأساسي للمملكة في 2 يونيو 1961 وكان لا بد لهذا الوضع أن تكون له انعكاسات على الأحزاب السياسية المغربية بصفة عامة والأحزاب سلسلة الحركة الوطنية بالأخص سواء من حيث الموقف من الدستور والمؤسسات الناجمة عنه أو من حيث مواقفهم من جوهر الديمقراطية التي يسعى الملك لتطبيقها والتي يلوح بها ويعد البلاد بتنفيذها. والأكيد أن هذه المواقف والتقييمات لهذه المرحلة تختلف من حزب لآخر لكن ما يهمنا هو موقف الأحزاب التي تعتبر نفسها استمرارا للحركة الوطنية. كما سنحاول التركيز على مواقف الأحزاب المعارضة للدستور ومواقف الأحزاب المؤيدة له. Œ في الموقف من الاستفتاء الدستوري لسنة 1962: أعلن محمد الخامس نهاية 1960 في خطاب أنه سيتم إعداد دستور يعرض على الشعب ولهذه الغاية عين الملك في الثالث من نونبر 1960 مجلسا دستوريا أوكلت له مهمة إعداد مشروع الدستور بيد أنه لم يضم أعضاء من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والذي أكد ضرورة إنشاء جمعية تأسيسية الوحيدة حسب رأيه القادرة على إعداد مشروع دستور ديمقراطي وقاطعت المجلس أيضا ولاسباب مختلفة كل من الحركة الشعبية للمحجوبي أحرضان وحزب الشورى والاستقلال لحسن الوزاني. وحده حزب الاستقلال شارك في المجلس الدستوري وهكذا تحول المجلس إلى "جهاز معطل عن العمل". بعد وفاة محمد الخامس واعتلاء الحسن الثاني العرش تحسنت العلاقات بين الحركة الشعبية وحزب الاستقلال، بيد أن اعتلاءه لم يغير من طريقة إعداد الدستور وقد منع الدستور في فصله الثالث الذي أضافه محمد رضا كديرة* نظام الحزب الوحيد، وكان الغرض من هذا هو الحد من هيمنة حزب الاستقلال على الساحة السياسية وذلك بالتنصيص على تعددية حزبية كفيلة بخلق تنافس يضمن للملكية دورها كحكم. عرض الدستور على الشعب قبل موعد الاستفتاء بعشرين يوما تقريبا في خضم الاحتفال بالذكرى السابعة لرجوع الملك من المنفى، إذن فالتصويت بنعم على مشروع الدستور يعني تشبث الشعب بالعرش فاستعملت الإدارة كل الوسائل للدعاية له والدفاع عن "نعم" وكان حزب الاستقلال والحركة الشعبية في الحكومة ومن مناصري التصويت بنعم على مشروع الدستور غير أن موافقة حزب الاستقلال على المشروع كانت مشروطة إذ في نضره "لن يكون إلا خطوة أولى لإرسال نظام ديمقراطي حقيقي". وقاطعت الاستفتاء الهيئات والأحزاب اليسارية* من بينها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ولم يقتصر الحزب على مقاطعة الاستفتاء بل كان يرغب في إفشال العملية ولم تذخر الحكومة أي جهد لتضييق الخناق على هذا الحزب بدء بالاعتداء الذي تعرض له المهدي بن بركة في اليوم الموالي لإعلان الحزب قراره بمقاطعة الاستفتاء والذي أوكل لعبد الرحيم بوعبيد مهمة قيادة الحملة المناهضة للاستفتاء. من جهة انضم الاتحاد المغربي للشغل إلى المقاطعين للاستفتاء "رغم أن رفضه لم يكن بنفس حماس الحزب". وأعلنت النقابة أن يوم السابع من دجنبر هو يوم موت الحرية ودعت إلى إضراب عام يوم الاستفتاء غير أن السلطات استطاعت إفشال هذا الإضراب وأعلنت يوم السابع من دجنبر يوم عطلة، وانضم إلى حملة المقاطعة كل من حزب الدستور الديمقراطي** والحزب الشيوعي المغربي. نستنتج مما سبق ذكره أن النظام استطاع أن يرسي خياره الاستراتيجي المتمثل في التعددية الحزبية وهو في رأيه الضامن لاستمراره، كما استطاع القضاء على الهيمنة أو الحلم الذي كان حزب الاستقلال يريده وذلك بتعميق التناقضات داخله والتي أفضت - كما سبقت الإشارة إلى ذلك - إلى انشقاق الحزب وولادة حزب جديد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي يعتبر نفسه استمرارا للحركة الوطنية. ففي 15 مايو 1960 أبرمت الحركة الشعبية وحزب الدستور الديمقراطي بورتوكولا للوفاق ووحدة العمل يطالبان عبره بإقالة حكومة عبد الله إبراهيم وتشكيل حكومة وحدة وطنية، كما اتفقا على عدم المشاركة في أي تشكيلة حكومية إلا إذا تم تمثيلها معا وقد استجيب لذلك إذ أنه بعد خمسة أيام من توقيعه تمت إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، وفي الحكومة التي ترأسها الملك شارك حزب الدستور الديمقراطي بمحمد الشرقاوي وحزب الحركة الشعبية بالخطيب، وقد كانت هذه لأحزاب تتحرك فلي إطار مناهضة الحزب المهيمن". وقصد محاصرة هذه الهيمنة فكر وزير الداخلية والفلاحة آنذاك رضا كديرة في تشكيل الجبهة أي جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية قصد تكوين أغلبية تخلق استقرارا حكوميا وهذا ما طالب به الملك إذ أكد أن البلاد في حاجة إلى أغلبية قوية وقارة. وبعد المصادقة على الدستور من قبل الشعب في 7 دجنبر 1962 كان لابد من شرح الموقف سواء عند المصادقين عليه أو المقاطعين له، فحزب الدستور الديمقراطي مثلا برر موقفه القاضي بمقاطعة الدستور ب :" إن قرار الحزب لم يكن سلبيا حيث أنه تضمن المطالبة بتعديل الدستور باتفاق مع القادة في البلاد حتى يتوخى النظر والعمل بتزويد البلاد بدستور صالح في نطاق ملكية ديمقراطية محكمة". ويؤكد بان الإمساك عن التصويت بما اقتضاه من عدم المشاركة في الاستفتاء لم يكن رفضا لمشروع الدستور. وتأتي بعد ذلك الانتخابات التشريعية في مايو 1963 لتحصل فيها الجبهة على أغلبية ساحقة وتنال هدفها الذي كان تكريس النظام الحزبي التعددي لتواجه الأحزاب التي اعتبرت حركة استمرارية للحركة الوطنية مثل الاستقلال والاتحاد الوطني، وسيضطر رضا كديرة إلى تأسيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي في 14 أبريل 1964 وقدم برنامجا مشابها لبرنامج الجبهة "وفشل الحزب الجديد كما فشلت قبله الجبهة في خلق أغلبية حكومية مستقرة حيث ما كان يحل شهر مايو 1965 حتى تخلى عنه جل مؤسسيه". ففي الوقت الذي كان فيه الجدال والنقاش يدور حول المسألة الدستورية أدركت بعض الأحزاب أن المسألة ليست مسألة دستور وإنما هي مشكلة الديمقراطية إذ اعتبرت الدستور قد يؤدي إلى ديمقراطية مزيفة، وأكدت هذه الأحزاب وليدة الحركة الوطنية أن المسألة التي يجب أن يدور حولها النقاش هو كيفية الوصول إلى ديمقراطية حقة فما هي إذن رؤية حزب الاستقلال للديمقراطية؟ وما هي مرتكزاتها؟ وما هي أيضا رؤية الاتحاد الوطني للديمقراطية التي ستخرج البلاد من التبعية والتخلف؟ وما هي طريقهما إلى الديمقراطية ؟. ? حزب الاستقلال : ركائز الديمقراطية: عمل حزب الاستقلال منذ انشقاق يناير 1959 على خلق تنظيمات قطاعية تابعة له حيث أنشأ تنظيما عماليا هو "الاتحاد العام للشغالين المغاربة" في مواجهة "الاتحاد المغربي للشغل". كما أسس تنظيما طلابيا هو "الاتحاد العام لطلبة المغرب" في مواجهة "الاتحاد الوطني لطلبة المغرب". لم يتخذ حزب الاستقلال أي موقف معارض للنظام في أو الأمر، فقد قبل المشاركة في الحكومة التي ترأسها محمد الخامس إثر إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، وشارك في الانتخابات الجماعية في 19 يونيو 1960، كما شارك في "مجلس الدستور" الذي شكله محمد الخامس في نونبر من نفس السنة وإثر وفاة الملك، اقترح الحزب في شخص "علال الفاسي" على الملك وضع قانون أساسي للمملكة وعلال الفاسي نفسه سيشارك في الحكومة التي ترأسها الحسن الثاني كوزير للشؤون الإسلامية، كما صوت الحزب لفائدة مشروع الدستور غير أن الظروف بعد الاستفتاء أفضت إلى أزمة حكومية دفعت الحزب إلى الانسحاب من الحكومة في 3 يناير 1963*، واتخاذ موقف معارض للنظام وفي إطار تبرير "المعارضة" فكان عليه أن يبلور برنامجه أو خطه الإيديولوجي في هذا السياق سيصدر الحزب بيان التعادلية في 11 يناير من نفس السنة أي بعد ثمانية أيام من انسحابه من الحكومة هو الإطار الفكري لهذه التعادلية ومضمونها؟؟ نشأت الاستقلالية من فكر إصلاحي تطوري لا بالمعنى الطوبوي الأخلاقي أو بمعنى الإصلاحية التي تعارض الثورية، أي التي تقول بإمكانية إصلاح المجتمع في ظل النظام القائم وهو يومئذ نظام استعماري استغلالي رأسمالي، ولكنها إصلاحية بالمعنى الثوري". أي إصلاح المجتمع عن طريق تفويض دعائم النظام الذي يسيطر على مقدرات المغرب والثورة على تقاليد هذا المجتمع الفكرية وتقاليد الممارسة الاجتماعية والمتلبسة باسم الدين أو باسم الدولة إن هذا التحديد يفيد بمعنى أو بآخر مشروعية الاستقلالية وبقاؤها ومشروعية وجودها حتى بعد إزاحة المستعمر الأجنبي. لقد تطورت الإيديولوجية الاستقلالية كنسق فكري يوجه الفرد والمجتمع نحو التغيير، تغيير الوضع السياسي بإقرار الاستقلال والديمقراطية وتغيير الأسس التقليدية التي يقوم عليها المجتمع التقليدي الذي تطغى فيه القوة " قوة الحكم وسلطان المالك وامتيازات المالكين والإقطاعيين والأعيان الذين يشغلهم الاستعمار لقاء ما يمنحهم من وسائل الإثراء وسلطات القواد الكبار الذي يتحكمون في رقاب المواطنين ويسخرونهم لسلطة الحاكمين الحقيقيين ثم مقاومة القوة التي أصبحت لها مكانة في عهد الاستعمار." لكن أهم ما سيطرأ على الإيديولوجية الاستقلالية هو تحويلها إلى ممارسة حيث اتخذت هذه الممارسة واجهتين: - الواجهة الداخلية : تمت توعية الجماهير بحقائق هذه الإيديولوجية وتكتيلهم حولها بامتصاص الوعي العاطفي بكره الأجنبي في الوعي العلمي المنظم. وبان الأجنبي مستغل ومغتصب وإقطاعي وعنصري ومستبد ويسخر الشعب لمصالحه الاقتصادية والاجتماعية، ويجب العمل على بناء ديمقراطية حقيقية تضمن للشعب استقلاله وتحقيق طموحه. - الواجهة الخارجية : النضال ضد الاستعمار ومخلفاته عن طريق المطالبة والمظاهرة والمقاطعة وإفراغ سلطته من الأسس الذي تعتمد عليه ومحاولة إقناع الشعب بضرورة بناء مجتمع جديد خال من الاستغلال. مما سبق ذكره تتضح لنا رؤية حزب الاستقلال للديمقراطية والتي يمكن اختزالها في : · القاعدة الأساسية للديمقراطية هي ضمان الحريات الأساسية لتي يتضمنها الإسلام والميثاق العالمي لحقوق الإنسان. · تنظيم الحكم على أساس الديمقراطية النيابية التي تنبع من القاعدة . · اختيار الشعب القائم على الحرية الكاملة للاختيارات الأساسية السياسية والاجتماعية والاقتصادية في نطاق العدالة الاجتماعية. · حرية تنظيم المواطنين في الهيئات السياسية والنقابية والثقافية والاجتماعية حتى تضمن مساهمتهم المنظمة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. هذه إذن بعض الوسائل التي تقترحها وترتكز عليها التعادلية الاستقلالية لصهر الأمة في وحدة اجتماعية غير انه للوصول إلى هذا الهدف لا بد من ثلاث مقومات: 1. " يتمثل في إفراغ الدولة من محتواها الطبقي وجمعها فوق الطبقات . 2. اعتبار المال وسيلة . 3. جعل الملكية ذات وظيفة اجتماعية ينبغي أن تقوم بها". هكذا إذن رسم حزب الاستقلال من خلال "بيان التعادلية" خطه الإيديولوجي الذي أبرز فيه خطوطه ومنظره لإصلاح المجتمع الناتج عن مخلفات الاستعمار أو بمعنى آخر مجتمع مغرب الاستقلال. هذه إذن أسس وركائز الديمقراطية الاستقلالية الذي يعتبرها الحزب خطوة لبناء مجتمع المغرب الجديد فما هي إذن رؤية حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية للديمقراطية وطريقه الوصول إليها؟؟. ژ الاتحاد الوطني للقوات الشعبية : الطريق إلى الديمقراطية: من المعلوم أن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية طالب بمقاطعة الاستفتاء. هذا القرار اتخذته اللجنة لمركزية في 15 نونبر 1962 علما بأن اللجنة المركزية لم تنشأ إلا في مايو 1962 وذلك بهدف ربط الصلة بين القواعد المحلية والإقليمية واللجنة الإدارية الوطنية، وبعد ذلك قرر الحزب المشاركة في الانتخابات التشريعية، وبدأ كأن هذا القرار يشكل تناقضا مع مواقف الحزب، غير أنه أكد في حملته الانتخابية (13 مايو 1963) أنه يريد فقط استغلال الوسائل التي تتيحها المشاركة في مجلس النواب وذلك قصد إنجاز أهدافه في هذا الإطار" وضع الحزب الحملة الانتخابية في سياق سياسي يبرز الدور الذي يلعبه المغرب في مسلسل الكفاح الثوري بالعالم الثالث". فالاتحاد الوطني يرى أن السبيل إلى بناء الديمقراطية الحقة هو انتهاج الخيار الاشتراكي، غير أن هذا الخيار لا بد له من مقومات للتمكن من إنجاز عمليتي التأميم والإصلاح الزراعي . وتتمثل هذه المقومات في وضع مخطط صناعي وذلك بإقامة صناعة ثقيلة واستغلال الرأسمال البشري عبر التعليم والتكوين المهني، فالخيار الاشتراكي يأتي لمواجهة الاستعمار الجديد الذي يستغل الجماهير الشعبية عن طريق ممثليه المحليين، " ففي بلد متخلف حيث يوجد قطاعان : واحد عصري والآخر تقليدي، لا يمكن أن تكون قاعدة الحكم فيه غلا شعبية وتقدمية". يستلزم التحرير الاقتصادي إذن انتهاج الخيار الاشتراكي غير أن هذا الخيار لا يمكن انتهاجه في إطار سلطة تقليدية هنا يضع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يده على المشكل الأساسي. "إن التحرير الاقتصادي لا يمكن أن يتم في غياب التحرر السياسي إذن يكمن المشكل في تحديث البنيات لسياسية للبلاد ليشكل مدخلا لتحديث البنيات الاقتصادية". إن الاتحاد حين راهن على الخيار الاشتراكي فقد سعى إلى تحديد طبيعة هذا الخيار فهو ليس خيارا إصلاحيا بل هو خيار ثوري، إن بدرة هذا الخيار الثوري توجد في التقرير الذي كان ابن بركة يعتزم تقديمه إلى المؤتمر الوطني الثاني للحزب، فالاتحاد يرى أن المدخل إلى التحرير الاقتصادي لا يمكن أن يتم إلا عبر نبد الخيار الرأسمالي وانتهاج الخيار الاشتراكي .وهكذا رسم لنا الاتحاد الطريق إلى الديمقراطية بانتهاج الخيار الاشتراكي الذي هو المسلك الوحيد لبناء ديمقراطية حقة. · تعليق التجربة الديمقراطية إعلان "حالة الاستفتاء" إن الفترة ما بين 1967-1970 كانت لها انعكاسات على وضعية المغرب عامة و وضعية حزب الاستقلال والاتحاد للقوات الشعبية، فمنذ أن شهدت الدار البيضاء الحوادث المروعة في 23 مارس 1965 إضافة إلى انهيار الأغلبية الحكومية في دورة مايو التشريعية من نفس السنة أعلن الملك عن إعلان حالة الاستثناء. وعاش المغرب طيلة خمس سنوات محكوما بمقتضيات الفصل 35 من الدستور، وفي يوليوز 1970 أعلن الملك عن مشروع دستور جديد دعا الشعب إلى المصادقة عليه عبر الاستفتاء فماذا كان موقف الأحزاب المكونة أو التي لها جذور في الحركة الوطنية وأخص بالذكر حزب الاستقلال و إ.و.ق.ش؟. o الكتلة الوطنية : تأسست الكتلة الوطنية في 22 يوليوز 1970 بين حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية كمحاولة من محاولات وضع حد لفترة الفراغ الديمقراطي الذي تعيشه البلاد بشكل عام، وكرد مباشر عن مشروع الدستور الثاني الذي دعا الملك إلى المصادقة عليه في يوليوز 1970 بشكل خاص. لكن لا نغفل مطالبة حزب "التحرر الاشتراكية" بتأسيس جبهة وطنية منذ سنة 1966 لمواجهة حالة الفراغ الديمقراطي الذي تعيشها البلاد. وقد كان حزب الاستقلال وقتئذ يشكك في وطنية هذا الحزب فحين تعرض للحظر في شتنبر 1969 وصفته الصحافة الاستقلالية" بكونه حزبا تابعا للاتحاد السوفياتي". كما لا ننكر دعوة حزب الدستور الديمقراطي إلى خلق "تكتل وطني" أسماه " مجلس القمة الوطني" لنفس الغرض كذلك، لكن عندما ستتأسس "الكتلة الوطنية" ستضم حزبين فقط هما " حزب الاستقلال" و " الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" "لم تكن الكتلة الوطنية إلا تحالفا ظرفيا تشكل لمواجهة حالة الاستثناء". من خلال مشروع الدستور الذي عرضه الملك في خطاب إذاعي يوم 8 يوليوز 1970 معلنا بذلك نهاية حالة الاستثناء ومطالبا الشعب بالمصادقة على مقتضيات الدستور طبعا فإن مؤسسي الكتلة الوطنية كانوا يرون فيها عملا مؤقتا فعلال الفاسي اعتبرها كذلك أما عبد الرحيم بوعبيد فقد اعتبرها خطوة نحو إعادة توحيد جناحي حزب الاستقلال الذين انفصلا سنة 1959. وقد كان رد هذان الحزبان على مشروع الدستور متزامنا، إذ أصدرا بيانا في 18 يوليوز من نفس السنة يناهضان من خلالهما مشروع الدستور وفي 22 يوليوز تم توقيع ميثاق بين الحزبين بسلا يتأسس بمقتضاه تنظيم جديد "الكتلة الوطني" وقد نص على ما يلي: - العمل من أجل إقامة ديمقراطية سياسية واقتصادية واجتماعية تسمح للشعب بممارسة سيادته عن طريق سلطة نابعة منه مباشرة. - الكفاح من أجل احترام حقوق الإنسان وإقامة الحريات الأساسية خاصة حرية الانتماء السياسي حرية التجمع وحرية الصحافة. - العمل من أجل فرض تعليم وطني قاعدته اللغة العربية ويتطابق مع الإنسية المغربية. - العمل من أجل منح الشباب جميع الإمكانيات والفرص قصد تجاوز تحرره. - العمل من أجل تحرير الاقتصاد المغربي من سيطرة الرأسمالية وذلك عن طريق تأميم القطاعات الأساسية للاقتصاد وانتهاج سياسة تصنيعية وتحقيق إصلاح زراعي حقيقي يرتكز على مبدأ الأرض لمن يحرثها ولفائدة العمال الزراعيين والفلاحين الصغار. - العمل من أجل استرجاع الأراضي المغربية التي لازالت تحت السيطرة الأجنبية - العمل من أجل وحدة المغرب العربي - تجنيد جميع الوسائل لمساندة الشعب الفلسطيني. - مساعدة الشعوب العربية في مواجهتها للإمبريالية والصهيونية والرجعية". يتضح من خلال هذه المطالب التي رفعتها الكتلة أو بالأحرى الإصلاحات التي تنادي بها كمخرج من الأزمة التي يعيشها المغرب في هذه الظرفية والتي كان تأثيرها على جمع الميادين سواء السياسة أو الاجتماعية أوالاقتصادية أن الحركة الوطنية المتمثلة في حزبي الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية استطاعا تأسيس تنظيم سياسي وإصدار ميثاق لا يؤسس تنظيما مغلقا بل يؤكد أن أي هيئة أخرى بإمكانها الانضمام إلى الكتلة". واعتبرته بمثابة مفتاح للخروج من هذه الأزمة. فقد كانت الكتلة رد فعل على استراتيجية القصر الذي نجح في نهجها كما سلف الذكر، وكرد فعل أيضا على حالة الاستثناء الذي أعلن عنها الملك. محاولة منها توحيد مواقفها في مواجهة القصر لتجاوز الفراغ الديمقراطي الناتج عن حالة الاستثناء. لقد صوتت الكتلة الوطنية بلا ضد مشروع دستور 1970 كما أصدرت اللجنة لمركزية للكتلة بيانا في 4 غشت من نفس السنة تعلن فيه قرارها بمقاطعة الانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها في 21 و 28 غشت من نفس السنة وبذلك حكمت على تجربة مجلس النواب الثاني بالفشل. لقد لعبت الكتلة الوطنية في هاته الفترة دور المعارضة ولو من خارج مجلس النواب غير أن أحداث 10 يوليوز "وقيام الملك في 4 غشت بممارسة النقد الذاتي" ستدفعه في نهاية نونبر من نفس السنة إلى الدخول في مفاوضات مع الكتلة الوطنية محاولة منه تهدئة الأوضاع وجر الكتلة إلى جانبه. وفيما كانت المفاوضات جارية بين الملك والكتلة الوطنية أعلن الملك يوم 17 فبراير 1972 عن عزمه تقديم مشروع دستور جديد .دفع هذا الإجراء الكتلة الوطنية إلى إبداء تحفظها في بيان صادر عنها يوم 18 فبراير من نفس السنة، وفي 22 منه أصدرت بيانا ثانيا تعلن من خلاله بمقاطعة الاستفتاء* الذي تمت عبره المصادقة على الدستور في 10 مارس 1972 وفي نفس اليوم تم حل مجلس النواب المنبثق عن دستور 1970. إزاء هذه الاستراتيجية لم ترد أحزاب الحركة الوطنية أو بمعنى أدق الكتلة الوطنية بالحزم والتصميم المطلوبين، إذ لم تكن تتوفر على قيادة منسجمة ولم تكن تشكل تنظيما متماسكا وقد أفضت تناقضاتها الداخلة إلى تفجيرها وتجميدها بشكل فعلي يوم 30 يوليوز 1972 وقد رصد عبد الله إبراهيم ثلاث أسباب كانت وراء موت الكتلة الوطنية: - كانت المفاوضات تتأرجح بين مد وجزر بدون هدف مرسوم وقار - في العلاقات الثنائية بين حزب الاستقلال والاتحاد الوطني ظهرت بعض النقط للنقاش خلقها تقدم المفاوضات الرسمية بصفة مفاجئة هذا الأمر ذي أهمية سياسية حاسمة لمستقبل التعاون بين الحزبين. - التناقض التام بين اتجاه يريد الدخول في مؤسسات الدولة واتجاه آخر لا يريد الدخول أي بين اتجاه "جدري" واتجاه "محافظ" بين الموقف في المشاركة وعدم المشاركة. هكذا إذن لخص لنا عبد الله إبراهيم أسباب موت الكتلة الوطنية والتي أدت في نهاية المطاف إلى تجميدها وتفجيرها وإجراء تغيير في العلاقات بين الاتحاد الوطني وحزب الاستقلال. يمكن القول أنه بتفجير الكتلة الوطنية نتيجة التناقضات السالفة الذكر انتهى البناء الديمقراطي وبدأ التأسيس لمرحلة أخرى من مراحل مسار أحزاب الحركة الوطنية وهي الوضوح والإيديولوجية ووضوح الهوية وتمتد من 1972 تاريخ موت الكتلة إلى 1975 تاريخ انعقاد المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية .تميزت أيضا هذه المرحلة بالمسلسل الديمقراطي الحامل لعدة شعارات نذكر منها الإجماع الوطني - الوحدة الوطنية ... نخلص مما سبق ذكره أن الكتلة الوطنية لم تستطيع الرد أو توحيد الجهود في تطبيق إصلاحاتها الديمقراطية وتطبيق برامجها على عكس ذلك استطاع القصر أن يكون خياراته وينفد برامجه ويرسخ ديمقراطيته... وقد كانت له يد في إفراغ الكتلة من محتواها وتفجير تناقضاتها وذلك بسبب المفاوضات الذي عمل على خلقها كوسيلة أو كمحاولة منه لجر القوى الوطنية أي الأحزاب المنبثقة من الحركة الوطنية إلى جانبه وهو ما حصل فعلا حيث أصبحت هذه الأحزاب تطبل لشعاراته تحت يافضة المسلسل الديمقراطي والوحدة الوطنية والإجماع الوطني.. II - نحو البناء الديمقراطي وتوضيح الهوية: كانت الأحزاب السياسية المنبثقة من الحركة الوطنية ترى في محاصرة برامجها من طرف القصر يتطلب إرادة سياسة صلبة ويقتضي بذلك إيجاد وتوفير بعض المقومات التي عبر كل حزب عنها بطريقته الخاصة وتتجلى تصورات الأحزاب بشكل واضح من خلال أجوبتها على الرسالة الملكية الموجهة إليها في 23 شتنبر 1972 وسنركز هنا على جواب كل من حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية باعتبارهما هما الحزبين الأساسيين لأنهما يبرزان لنا في الواقع تصورهما لحل الأزمة. Œ حزب الاستقلال : يقول حزب الاستقلال في رسالته الجوابية والمؤرخة ب 16 أكتوبر 1972 وتحقيقا لفكرته الأساسية في أن الاستقلال الوطني لا يتم إلا بتحرير المواطن من جميع أنواع العبودية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسدا للباب في وجه الدول الاستعمارية التي بدأت تتآمر على سيادة المغرب ووحدته وكيانه فإن حزب الاستقلال يرى: تكوين حكومة وطنية منسجمة محرزة على ثقة الشعب متمتعة بجميع السلطة، قادرة على تحمل المسؤوليات في الظروف الحرجة التي تجتازها البلاد، تعمل هذه الحكومة على إرجاع الثقة إلى النفوس التي بلع منها اليأس، فتضمن الاحترام الكامل لحقوق الإنسان وتحقق الحريات العامة والخاصة لسائر المواطنين، وتعيد الحماس إلى الشعب حتى يمكن تجنيد سائر طبقاته مع معركة البناء على أساس التغيير الجدري في السياسة والسلوك. ? الاتحاد الوطني للقوات الشعبية: في جواب عبد الله ابراهيم باسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يقول :" والتقييم الصحيح للوضع المغربي الراهن في نظر الاتحاد يجب أن ينطلق من تحديد الجذور العميقة اللازمة أولا - وهي جذور متولدة عن اختيارات أساسية فاسدة في الحكم - لا من مجرد الاكتفاء بتحديد بعض مظاهر الأزمة فقط. وإلا كان الحل فرصة جديدة لتصعيد الأزمة في الأخير عوض الاتجاه نحو الخروج منها بصورة حاسمة. وفي هذا السبيل يعتبر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية أن الإجماع الوطني المشار إليه كدعامة من دعائم العلاج لأجل أن يكون على مستوى المهام الكبرى الرامية لاقتلاع الأزمة المغربية الراهنة يجب أن يكون له محتوى مضبوط وواضح، وإلا كان الجهاز الحكومي تجمهرا مفتعلا لشخصيات مغربية لا تجمع بينها أية وحدة في البرامج ولا في نوع الارتباطات الاجتماعية والاقتصادية ولا في المفاهيم وذلك من شأنه أن يجعل هذا الجهاز قاصرا جدا عن تحقيق أي هدف من الأهداف الكبرى التي على تحقيقها يتوقف مع ذلك إخراج المغرب بالسرعة المطلوبة من المأزق الحالي. لجميع هذه الاعتبارات يرى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية أن الازمة المعقدة والمتطورة الآن بشكل حاد، على الشروع في تطبيق سياسة تغيير جدري للهياكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلاد، وسيكون من نتائج المرحلة الأولى لهذه السياسة خلق جو جديد في الحياة الوطنية يساعد على تحقيق الشروط الموضوعية والنفسية الكفيلة ببعث الثقة من جديد في نفوس الجماهير المغربية وتأهيلها إذ ذاك للقيام بمهامها الانتخابية على أساس صحيح وإيجابي ويعتبر أن ميثاق الكتلة الوطنية بتاريخ 22 يوليوز 1970 باعتباره تعبيرا وطنيا عن مطامح الجماهير المغربية يصلح لأن يكون إطارا للعمل الحكومي وأداة لتعبئة الحماس الشعبي في مراحل التطبيق وأساسا سليما لإشادة نظام ديمقراطي فعلي في المغرب ووسيلة لاستعادة بلادنا اعتبارها وسمعتها التقدمية في الخارج. إن هذه الجهود والتقييمات كانت ترمي إلى وضع حد اللازمة السياسة التي كان القصر يتخبط فيها بعد المحاولتين الانقلابيتين في يوليوز 1971 وغشت 1972 فكان لابد للأحزاب أن تمارس "النقد الذاتي" لأنها أصبحت عرضة لخطر مزدوج خطر الجيش وخطر الحركة الماركسية" من جهة أخرى أي الحركة الثورية التي تنادي بإصلاح جدري وتغيير في البنيات الطبقية التي كان المغرب يعيشها آنذاك, لقد كانت الحركة الماركسية المغربية عبارة عن جبهة تضم تيارات مختلفة لا يجمعها إلا الانتماء إلى الماركسية. وكانت تعتبر أن السبيل الأوحد لقيام نظام ديمقراطي هو انتهاج الخيار الثوري، وقد أفضى اغتيال المهدي بن بركة وقبله إعلان حالة الاستثناء إلى ترسيخ هاته القنا عات إذ ما كاد يحل عقد السبعينات حتى شرعت هاته التنظيمات السرية تفعل في الساحة السياسية وكان لابد من فعل شيء أمام تزايد نفوذ هاته الاتجاهات وتجدير مواقفها قصد تطويقها ومحاصرتها في هذا الإطار جرب الملك سياسة الانفتاح على الأحزاب قصد احتوائها ودفعها بلغة الماركسية والاشتراكي العلمية إلى تأطير هاته القوى التي تنادي بالإصلاح الجدري ودفعها للتخلي عن خيارها الثوري إذ أن هذه المشكلة - مشكلة تجدر اليسار المتمثل في الحركة الماركسية- ينشغل بها طرفان القصر والأحزاب من جهة أخرى وكان لكل طرف تصوراته وحلوله. إذن الكل سيقترح كيفية بناء الديمقراطية وكيف الوصول إليها أي إلى البناء الديمقراطي التي يسعى الملك عبره للخروج من أزمة الداخلية المتمثلة في حسن مصطفى بوعزيز في التناخرات التي تنخره وتساعد في إعادة ترتيب أوراقه، ولهذا الغرض سيجرب سياسة الانفتاح على الأحزاب غير أنها بالغت في مطالبها أي رفعت مطالب لا يمكن للقصر تحقيقها مما دفعه إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات كان يراها كفيلة على الأقل بالمساهمة في الخروج من أزمته وتجاوز الخطر الذي يحدق به من ناحية اليسار الثوري في هذا السياق يندرج حل نقابة الطلاب " الاتحاد الوطني لطلبة المغرب" في 24 يناير 1973 " غير أن أهم إجراء انتهت إليه السلطات العامة هو المراهنة على أحزاب تؤطر هذه القوى التي تتكلم لغة الماركسية والاشتراكية قصد احتوائها ودفعها بلغة الماركسية والاشتراكية العلمية إلى التخلي عن خيارها "الثوري" وقد علق عبد الله العروي قائلا :" مما يثير الغرابة حقا أن التنظيمات السياسية الأكثر تطرفا في المغرب وبالتحديد حزب على يعتة قاصدا حزب التحرر الاشتراكي* وحزب عبد الرحيم بوعبيد هي الأكثر اعتدالا فيما يتعلق بالإصلاحات".وهكذا ستتبنى هذه الأحزاب الخيار الإصلاحي وتحاول الحسم مع الخيار الثوري فالاتحاد الوطني للقوات الشعبية يرى الوسيلة لبناء الديمقراطية في هذه الفترة هي : الحكومة التمثيلية التي تعكس الإرادة الحقيقية للبلاد والتي ستنبثق من الانتخابات الجماعية الوطنية وهي التي يمكنها مباشرة بناء ديمقراطية اقتصادية بمساندة التمثيل الوطني. ورغم هذا الخط الإصلاحي فإن مجموعة الرباط تعرضت لحملة اعتقالات إثر الاتهام التي وجهته لها الحكومة والمتمثل في الحماية والتستر على "المخربين" أي الذين رفعوا الخيار الثوري أو المشاركين في الانقلابين. وفي شتنبر 1974 عقدت اللجنة المركزية لمجموعة الرباط اجتماعا قررت فيه استئناف نشاط الحزب وتغيير اسمه من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بينما تشبثت مجموعة البيضاء بالاسم القديم واعتبرت الاتحاد الاشتراكي تنظيما لا يمت للاتحاد الوطني بصلة، وبهذا يكون القصر أو النظام قد نجح فعلا حين كلف حزب عبد الرحيم بوعبيد لتأطير التنظيمات اليسارية التي تتبنى الخيار الثوري أو التغيير الجذري كمحاولة منه لمحاصرة اليسار وتبني سياسة الاحتواء والانفتاح على الأحزاب سليلة الحركة الوطنية التي لها مواقف معتدلة أو يمينية. فقد كانت الفترة الممتدة زمنيا بين أبريل 1973 واستقبال الملك لعبد الرحيم بوعبيد في يناير 1974 وانعقاد اللجنة المركزية في شتنبر من نفس السنة كافية لتجعل مجموعة الرباط والتي ستشكل كما سلف الذكر الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تقبل حسب ضريف محمد "أصول اللعبة ولتعترف مقابل حصولها على الشرعية بمشروعية النظام" وسيأتي المؤتمر الاستثتنائي للحزب الجديد في يناير 1975" ليحسم مع الخيار الثوري وليكرس الخيار الإصلاحي".ومما له دلالة في هذا المجال هو أنه بعد شهر من اجتماع اللجنة المركزية لمجموعة الرباط وبالضبط في 11 أكتوبر 1974 سيوجه الفقيه البصري مذكرة للجنة الإدارية للتنظيم الجديد يدين فيها التوجهات الجديدة والتي تتخلى عن "الخط الثوري". وهكذا تولد حزب جديد من أنقاض حزب قديم وتولدت كذلك استراتيجية وخطة للعمل جديدة من رحم خطة واستراتيجية قديمة، وتبدلت كذلك الرؤية للعمل السياسي وما نستخلص من كل ما سلف ذكره هو أن هذه الظاهرة ليست جديدة بل هي دائمة- ظاهرة الانشقاقات- ولا تكون على مسائل رئيسية بل تنبعث من مسائل ثانوية والخلاصة الوحيدة هي أن التاريخ يعاد بصورة مغايرة فكما حدث الانشقاق من داخل حزب الاستقلال حدث الانشقاق داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وسيحدث بداخل الاتحاد الاشتراكي. خاتمة عامة: أفادتنا دراسة الحركة الوطنية سواء فيما يتعلق بها أو بالمجتمع المغربي أو بالإصلاحات التي رفعتها وسمحت لنا باستخلاص بعض الخصوصيات منها : أن الحركة الوطنية المغربية تنتمي لطراز نادر من الحركات التي ساهمت بقوة في الكفاح ضد الاستعمار دون أن يتوج ذلك بالوصول إلى السلطة بعد الاستقلال. النتيجة الثانية هي أن قيادة هذه الحركة لم تكن أبدا منسجمة ومتجانسة وأن الانشقاقات المختلفة التي عرفتها الحركة لم تفرز سوى قيادات سياسية جديدة لم تكن أحسن حالا من سابقاتها على هذا المستوى فالانشقاق كان يتم على قاعدة خلاف سياسي ظرفي في حين كان عدم الانسجام يجد جذوره في الغموض الإيديولوجي وما يترتب عليه من اختلاف في التأويلات... وليس لهذه الخصائص المميزة للحركة الوطنية المغربية من أهمية سوى لأنها كانت حاضرة بشكل ثابت طوال الحركة الوطنية ولم تكن وليدة ضرفية من الضرفيات. يمكننا القول أن الخلافات والانقسامات ساهمت بشكل كبير في عدم قدرة الحركة الوطنية على مواجهة المستعمر وتحقيق الإصلاح وهو ما دفعنا إلى الحكم بأن المستعمر استطاع تحقيق مبتغاه في إضعاف الحركة الوطنية قبل الاستقلال وبعد الحصول على الاستقلال نفس الشيء يمكن استنتاجه أي أن الخلافات والانشقاقات لها دور كبير في عدم قدرة الأحزاب التي تعتبر استمرار للحركة الوطنية على مواجهة المرحلة التي تتطلب توحيد الجهود لإنجاز التغيير المنشود وتحقيق الإصلاحات التي كان التجريب حقلا لها أو الفشل مصيرها، إلا أنها أدت بعد الحصول على الاستقلال إلى تحقيق نصر حاسم للنظام بعد تقديم تنازلات من الطرفين من النظام ومن الأحزاب المنبثقة عن الحركة الوطنية وبهذا استطاع إضعافها واحتوائها بشعارات المسلسل الديمقراطي والبناء الديمقراطي والإجماع الوطني. فتاريخ الإصلاحات في المغرب يكتسي صبغة حلزونية، إنه ما يفتأ يعاد وسيعاد وبصورة تكرارية، ولكن يجد تبريره في الوضع الكارثي الناجم عن أزمة عامة ومستعصية أما إذا نظر إلى الإصلاح بعين أقل تشاؤما، فإنه يبدو بسبب ما يطبع مساره من تكرار أشبه ما يكون بمشروع يولد المرة تلو المرة الأخرى، لكن دون أن يكتب له يوما أن يكتمل ففي المرحلة الاستعمارية وما واكبها من إصلاحات تحمل في طياتها طابع التناقض حيث كانت دائما تعارض ما بين مختلف الشرائح الاجتماعية مواطن ومستوطن بلد نافع وغير نافع عرب برابرة حواضر وقرى المدن العتيقة والمدن الحديثة ... وكانت هاته السياسة تهدف بلا شك إلى ترسيخ التواجد الاستعماري أكثر منها إلى إصلاح البلاد وتأتي إصلاحات عبد الله إبراهيم أو لوزير أو على رأس التشكيلة الحكومية الوطنية للمغرب المستقل لتحمل مضمونا إن لم يكن ثوريا فهو كان على الأقل تقدميا. وقد يكون حلم المغرب آنذاك هو تغيير القواعد إلا أ ن هذا الحلم أقبر لوجود إفتراظات سياسية وسياسة واجتماعية، وبالتالي فشلت هاته المشاريع رغم وجود إرادة قوية لإنجاحها. ففي عهد الحماية نجد أن الوطنين رحبوا بالإصلاحات إلا أنهم في نفس الوقت حاربوا بعضها باسم الوفاء للقيم الدينية والأخلاقية كما هو الحال بالنسبة للقضية المسماة بالظهير البربري والتي من باب الإنصاف كانت تحمل نوايا مبيتة من شأنها إثارة الاحتجاج وتنقسم الحركة الوطنية ليأخذ حزب الاستقلال على عاتقه حماية الهوية المغربية حيث سيجعل من هاته القضية قضيته الأساسية لذا فهدف الإصلاح المعلن دائما والمطبق أحيانا والمكلل بالنجاح ناذرا يجب أن يفرض نفسه كلغة أولى ورؤية سياسية مغربية محتملة. وبعد الاستقلال انطرحت أمام النظام ثلاث استراتيجيات : الحفاظ على النظام القديم، أي نظام ملكية مطلقة يكون فيها الملك مصدر كل السلطات، أو التخلي عن النظام القديم والاستعاضة عنه بملكية دستورية تكون فيها السلطة بيد البرلمان والأحزاب، وأخيرا التوفيق بين هاتين الصيغتين بخلق نوع من التوازي بين القصر وأحزاب الحركة الوطنية إذن لقد وقفت الاستراتيجيات السياسية، وكذا تذبذبت العلاقة بين السلطة وأحزاب .الحركة الوطنية عقبة في سبيل محاولات الإصلاح التي عرفها المغرب منذ استقلاله.