مُطارَحاتُ فِكْريّة ... ( 1 )


حميد خنجي
2010 / 7 / 11 - 09:47     

مُطارَحاتُ فِكْريّة ... ( 1 )
تجري منذ بعض الوقت على صفحات الجريدة الاليكترونية الأثيرة، " الحوار المتمدن "، جريدة اليسار والماركسيين العرب والكورد، فيما بين بضع مجموعات صغيرة من الكتاب والمتداخلين، مناقشات ومطارحات فكرية حامية الوطيس، ذات أبعاد نظرية خالصة، تتسم جُلّها بمفارقات "رغبوية" عنيدة واسقاطات عدمية " نيهيليستية " على مجمل تاريخ وتجربة المنظومة الاشتراكية السابقة.. تتركز أساسا علي فترة الحقبة "الستالينية" وبُعيدها، حيث تتناطح أطروحات جدّ حادة ومتناقضة، تتشابك حول أمور تاريخية ومصطلحات اشكالية، في الوقت الذي تنأي فيه غالبية أهل العلم والبيان من الكتاب - المساهمين بمقالاتهم فحسب في هذا المحفل اليساري الهام- من الدخول في مناظرات جادة ومفيدة، بُغية الوقوف على أبعاد مشاكلنا المستعصية. ومن خلال تحليل وتشخيص الواقع المعاصر الملتبس والعصي على الفهم التبسيطي، للوصول إلى معرفة أفضل وأرقى لسمة العصر الحالي .. ومن ضمنها-بالطبع- طبيعة ظروف منطقتنا الاستراتيجية والحيوية (الشرق الاوسط العربي والاسلامي) وخصوصيتها او فرادتها في الجمع بين مفارقتي: الثروة-التخلف، العراقة-الاستبداد، التخمة-البؤس، اللآتي (المفارقات) تشكلن معضلة للتنظير ومشكلة للتشخيص والعلاج

من هنا فإن الحاجة الماسة تستدعي ضرورة مغادرة حال اللامبالاة المتفشية بين أغلب المثقفين والمعنيّين بالشأن العام. وتوسيع دائرة النقاش والجدية في الاطروحات بهدف فهم المعيقات وتذليل العقبات، التي تحد من دخول دولنا وشعوبنا الى عالم الحداثة والتنوير والمجتمع المدني - في الوقت الحاضر - أي تشييد دولة المؤسسات والقانون ضمن المنظومة الراسمالية المعاصرة، كحد أقصى لطموحنا المرتقب في الافق المنظور - حسب وجهة نظرنا- وهو الامر الذي لا يحدث من تلقاء نفسه إلا ببذل جهد ذاتي استثنائي ومتواصل، لتحديد وتجميع طاقات كل القوى التقدمية والعصرية الفاعلة – يسارا وسطا ويمينا – بُغية التعامل الامثل مع أنظمة الحكم المستبدة من ناحية والحد من هيمنة الافكار والثقافات "البطريركية"( الذكورية) و"الاقطاعوية" و"العصبوية" و"الارهابية" السائدة، المستمدة من ذخيرة قوى "الاسلام السياسي"، التي تتهيأ للقفز الى السلطة لتدشين أنظمة "طلبانية"، أكثر قسوة وتخلفا واستبدادا من المنظومة العربية الرسمية الحالية !

الغريب في الامر ان جُلّ "التنظيرات" الواردة في السجالات والمناظرات والمداخلات، ليست متأتية من نسقٍ مغلقٍ من الأفكار المجردة لاصحابها فحسب، وهم يحاولون بشكل ٍ قسريّ تلبيس الواقع الموضوعي بملبوسات نظرية ملونة جاهزة.. بل هي بعيدة عن تشخيص الوقائع الفعلية على الأرض، فيما يتعلق بجذر المسالة وطبيعة الصراع الجاري في بلداننا في الأزمنة الحالية! والمعيب أن المشاحنات تلك تأخذ غالبا منحى التطرف "اليساري" (أولترا ليفت) من حيث المضمون والشخصنة والسطحية، الذين تصلان الى حدود الابتذال و"السوقية" من ناحية الشكل.. بل التباهي الاستعراضي والتسفيه والسخرية تجاه مختلف الاراء، غير المتطابقة مع من يعتقد نفسه أنه صاحب الرأي السديد والنهائي من الافكار، تصل الى درجة من التعصب والدوغما المقيتة وأحكام مطلقة – أشبه بالمقدسات - لا علاقة لها بعلم الجدل الماركسي النسبي.. يحدث هذا في موقع شعاره الرئيس : حوار متمدن !

والأدهى من كل ذلك أن المساهمات والتعقيبات تترى من لدن عقليات مثقفة وشخوص ذوي تجربة نضالية، تنتمي - بشكل أو بآخر- الى مختلف التيارات الماركسية المعاصرة ... ابتداء من المدارس الاشتراكية الديمقراطية اليمينية (الاممية الثانية) بمختلف تجليلتها القديمة والجديدة، مروراً بالمدرسة الماركسية - اللينينية ذي المرجعية الستالينية.. والمدارس المتزمة والمتناحرة اليسارية: كالماوية والتروتسكية – هذه الاخيرة تتبع جُلّها الامميتين الرابعة والرابعة والنصف "- .. والمدرسة الوردية للرومانسية الثورية (الغيفارية).. و مختلف الشِّيَع الفوضوية "الانارخية" المتمركسة -المعادية أغلبها للينينية- .. والمدرسة الكبرى السائدة، على وهنها وانشطاراتها الراهنة، المتمثلة في الاحزاب الشيوعية الخارجة من معطف "الاممية الثالثة"، التي أسست بمبادرة من " لينين" في سنة 1919 .. حتى نصل الى " التشافيزية"، أو ما يطلق عليها "الشعبوية الاشتراكية المعاصرة" أي تجربة فنزويلا الجديدة وطموحاتها في احتضان كل – أولنقل- جُلّ المدارس الاشتراكية تحت لواء " أممية خامسة" مزعومة، أوالمزمعة تأسيسها. ومن الجدير تبيانه في هذا المجال أن نذكر أثنين من كبار منظري الماركسية المعاصرة، الذين لايخفيان مساندتهما وتحمسهما للتجربة الفنزويلية وطموحاتها وهما: الاقتصادي المجري والماركسي المتميز: " اصطيفان ميجيريس " وتلميذه المنظرالماركسي البريطاني :" جون فوستر"

وحتى يكون طرحنا موضوعيا ومنهجيا – بالمعنيين العام والخاص- نكتفي بهذه المقدمة، كطرح أوليّ، تمهيدي ليكون منطلقاً للمساهمات والمشاركات من قِبَل كتّاب وقرّاء " الحوار المتمدن" الكرام، على أن نعد لاحقا بايراد دستة من الاسئلة المحورية على شكل - كروس ايكزامين - ليشكل كل سؤالٍ ملفاً للنقاش والمناظرة، بجانب مجموعة من الاسئلة الفرعية المحفّزة أو"الاستفزازية" – ان صح التعبير- لنأمل أن تشكل جميعها قاعدة لنقاشات فكرية ونظرية خصبة وجادة، بُغية الركون الى فهم موضوعي علمي لطبيعة ظروف عالمنا المعاصر، وظروف بلداننا، مرورا بمسحٍ تاريخي علمي لمجمل الحقبة التاريخية الماضية لدنيا العرب والاسلام، المسمى: بالحضارة العربية الاسلامية أو حتى-مبالغة- بالمجد التليد والمشرق لماضي العرب! وذلك بهدف الوصول الى جذر الصراع الاجتماعي القائم حالياً، كما أسلفنا، حتى يتسنى لنا تحديد التناقضات الرئيسية والفرعية الراهنة، انطلاقا من روح ومِجَسّ الدياليكتيك، لتشخيص الواقع الموضوعي ( تحليل ملموس لواقع ملموس )، كما هو وليس كما نتمناه في مخيلتنا! ..وبالتالي النّأي عن أطروحات "سوقية" و"عدمية"، لاتتردد في لَيّ ذراع الواقع لتلائم النظرية المجردة المحشوة في أذهان أصحابها!

لعله من الأهمية بمكان أيضا الوقوف على الاتفاقات والاختلافات في وجهات النظر بدقة، محاولين تحليل الجذرالنظري والفلسفي للأراء المتعددة، المنبثقة من تداخل العوامل الموضوعية والذاتية، المتحكمة في تشكل استنتاجات محددة، تطرح على شكل رؤى - مصيبة أو مخطئة- من أجل فرز وجهات النظر تلك، واعادتها إلى مصادرها ومنابعها الفكرية، الأمر الذي يسهل علينا من تطبيق منهاج علمي سليم، في مقارعة الحِجّة بالحِجّة، وتصويب الاطروحات السليمة ودحض غير السليمة منها، عبر مشخال المنهج الجدلي