محمود أمين العالم: المجتمع المصري في حاجة إلي حزب شيوعي والثورة ليست عملاً إنقلابياً


أمينة النقاش
2010 / 6 / 27 - 15:56     

محمود أمين العالم:
نعم المجتمع المصري في حاجة إلي حزب شيوعي
والثورة ليست عملاً إنقلابياً
أجريت هذا الحوار مع المفكر الراحل محمود أمين العالم في منتصف عقد التسعينيات من القرن الماضي، ولسبب لم أعد أتذكره ، اختفي هذا الحديث ضمن أوراق مكتبتي التي تئن من فرط تراكمها وعصيانها علي التنظيم، وقبل أيام هممت بترتيب تلك الأوراق، فعثرت علي الحوار الذي أعده شهادة بالغة الأهمچ
أمينة النقاش
يعد الكاتب والمفكر والناقد والشاعر «محمود أمين العالم» من أبرز الوجوه العلنية، التي تتحدث باسم الشيوعيين في مصر. بدأ «العالم» حياته العملية استاذاً جامعياً، حتي فصله مجلس قيادة الثورة، مع عد دمن كبار أساتذة الجامعات، ضمن عملية تطهير الجامعة، أثناء أزمة مارس الشهيرة، بين الجيش والقوي الوطنية المطالبة بالديمقراطية عام 1954 .وفي نفس العام تم اعتقاله وبعد خروجه من المعتقل عمل بالصحافة بدار «روز اليوسف» ومجلة «الرسالة الجديدة» إلي أن اعتقل مرة أخري. في حملة الاعتقالات التي قادها «جمال عبد الناصر» ضد الشيوعيين في بدايات 1959، في أعقاب رفضه - أي العالم - للرسالة التي حملها إليه «أنور السادات» أمين الاتحاد القومي آنذاك - التنظيم السياسي للثورة - يدعوه فيها إلي حل الحزب الشيوعي ، ودخول الشيوعيين كأعضاء في الاتحاد القومي.
وفي أعقاب الأفراج عن الشيوعيين في عام 1964، عاد «محمود أمين العالم» للعمل بالصحافة في دار الهلال، ثم تولي خلال السنوات السبع التالية مناصب متعددة ، كان من بينها رئاسة هيئتي المسرح والكتاب، ورئاسة مجلس إدارة دار أخبار اليوم الصحفية. وكان عضوا بأمانة تنظيم «طليعة الاشتراكيين» - الكادر السياسي لتنظيم الاتحاد الاشتراكي الذي كان يعمل بشكل غير علني - عندما قام الرئيس الراحل «أنور السادات» بإنقلابه في 15 مايو عام 1971، تم القبض عليه، لكنه لم يقدم للمحاكمة. وبعد الأفراج عنه ، غادر «العالم» مصر في بداية السبعينيات حيث أقام في فرنسا، وشارك في قيادة المعارضة المصرية لحكم السادات في الخارج ، إلي أن عاد إلي مصر مع بداية عهد الرئيس مبارك قبل عدة سنوات، حيث يصدر مجلة فصلية تحت عنوان «قضايا فكرية».
والحوار مع «محمود أمين العالم» هو متعة بكل المقاييس، إذ ينقلك في اللحظة نفسها من الحديث عن «لينين» إلي الحديث عن «ابن تيمية» ومن «ت.إس. إليوت» إلي الصوفية والمعتزلة، ومن «إنجلز» و«ماركس» إلي «ابن رشد» و«الشيخ» رفاعة الطهطاوي ومن الشعر وموسيقاه، إلي السياسة ومفرداتها، وفي قلب هذه المتعة الخالصة، لم يكن هناك مفر، من طرح الأسئلة الموجعة!
سؤال عن الحاضر
سألت «محمود أمين العالم»
>> ما هو تفسيرك لهذا السقوط المدوي للاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية، وهل تعتقد أن العيب في النظرية الاشتراكية نفسها ، أم في تطبيقها، أم في الاثنين معا؟
- يبدو أن هذا السؤال ، برغم الحديث الكثير، في أسباب ما جري، لايزال مثارا، خاصة وأن كثيرامن الأحزاب التي نواجهها الآن، نربطها سلبا أو إيجابا بإختفاء الاتحاد السوفيتي. وبالتالي يبدو لي أن السؤال متجدد، ولا يتعلق بالماضي، وإنما بالمستقبل، وبالتساؤل عن: هل هناك بقية من أمل؟ وهل هناك مستقبل لهذا الذي كان؟
- في تقديري أننا نغالي في الحكم علي ما جري، لأننا أحيانا ننظر في الشيء في ذاته، معزولا عن عوامل عديدة. وفي الحكم علي الأشياء ، فإن ما يشغلني، هو رؤيتي التاريخية لها، حيث أراها في وضعها التاريخي، وظروفها الموضوعية. لأن حركة التاريخ أمكانية مفتوحة علي عناصر متداخلة، وليست مسبقة التكوين . وكما لا نستطيع عند انهيار عمارة مثلا، القول إن قوانين الهندسة خطأ، فليس من السهل القول عند انهيار« الاتحاد السوفيتي» أن قوانين الاشتراكية خطأ. فممكن أن يكون الخطأ في الرسم الذي أعده المهندس، أو في تطبيقه لقوانين الهندسة، أو في اختياره للأرض التي أقام عليها البناء، ومن الجائز أيضا أن يكون صاحب العمارة رجل نصاب استخدم قوانين الهندسة من أجل الاستغلال. لكن مما لاشك فيه أن بناء عظيما قد شيد، ولا يستطيع أحد إنكار ذلك. ولأننا نحكم أحيانا علي الأشياء من نتائجها. فعلينا أن ندرك أن النتائج - التي قد تخدعنا - لا تكفي وحدها للتفسير السلبي أو الإيجابي للظواهر أننا لا نستطيع أن ننكر أن التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي أقامت في أكثر البلاد تخلفا دولة عظيمة ، كانت الثانية في العالم.
فقد أنشأت قوة عسكرية، وحققت ثورة ثقافية، وأنهت الأمية ، وأعطت للشعوب الشرقية المتخلفة حدودها، ونمت مشاعرها القومية وبعثت اللغات القومية والفنون والغناء والرقص القومي، وأحيت التراث الإسلامي، وبفضل وجود الاتحاد السوفيتي لم تحدث حرب عالمية أخري منذ عام 1945، كما انتشرت حركات السلام العالية بفضل وجوده، ونالت معظم الدول النامية استقلالها بفضل مساندته الاقتصادية والعسكرية.
>> ومن أين أتي الخلل إذن؟
- من الأسباب الرئيسية لهذا الخلل، أن السلطة السوفيتية منذ نشأتها أحيطت بحروب تدخل شديدة ، وبالحرب الأهلية، وبمحيط دولي معاد. فضلاً عن الغاء السياسة الاقتصادية الجديدة، التي أخذ بها «لينين» لبعث الحيوية في الاقتصاد السوفيتي، والتي عرفت باسم «النيب» والتي كانت تستهدف إقامة إنتاجية سلعية تسعي لتطوير المجتمع من قاعدته الإنتاجية، وتتفق مع حقيقته وواقعه كمجتمع متخلف. لكن «ستالين» ألغي مشروع «النيب» نهائيا في عام 1929، حتي يقود جريمة اللحاق بمستويات الغرب الإنتاجية. فانتقل إلي الصناعات الثقيلة ، وعجل بخطوات المنافسة مع الغرب، دون مراعاة لظروف المجتمع السوفيتي. وبعدما كانت الثورة السوفيتية، هي تحالف بين العمال والفلاحين والجنود، أنهي «ستالين» هذا التحالف، بعد أن صمم علي أخذ عائد الإنتاج الزراعي بعقود السلاح، وبالقهر والقمع لتمويل الصناعات الثقيلة، فإنهار الإنتاج الزراعي، وإنفرط التحالف بين العمال والفلاحين، وحتي الصناعات الثقيلة تم بناؤها بقرارات علوية وبالسوط وبالقهر أيضاً. وحتي المصانع الصغري، كان التخطيط لعملها يأتي من أعلي دون مراعاة لظروفها وظروف عمالتها . وفي ظل هذه الظروف تحول الحزب الحاكم إلي سلطة قمعية ، تحمل سوطا للقوي المنتجة ، لتحقيق أعلي عائد لأنجاز الصناعات الثقيلة، بحكم استبدادي قمعي وفردي ، يسعي لمتابعة الغرب الرأسمالي بدلا من أن يكون الحزب قدوة وطليعة ونموذج للتفتح والأزدهار والديمقراطية، وأن تكون السياسات الاقتصادية المتبعة ، متفقة مع مستوي المعيشة، ومع امكانيات البشر، تحولت التجربة السوفيتية إلي تجربة تنمية ، ذات طابع رأسمالي في دولة، علي رأسها ناس يتكلمون عن الاشتراكية.
فقد تم الاهتمام بالصناعات الثقيلة، علي حساب الصناعات الاستهلاكية الضرورية للناس، ووجهت نتائج التصنيع الثقيل إلي أبحاث الفضاء وسباق التسلح، وبالتالي كان من المنطقي أن يفقد المجتمع السوفيتي روحه، وأن تفقد كلمة الاشتراكية دلالتها.
ولأن الفساد هو الأبن الشرعي للاستبداد ، فقد دب في مؤسسات الدولة والحكم ، وكثر المتسلقون ووعاظ السلاطين، وفقدت الاشتراكية مصداقيتها أمام الناس إلي أن إنهار النظام تماما.
النموذج والخصوصية
>> هذا عن العوامل الداخلية للانهيار فماذا عن العوامل الخارجية؟
- العوامل الداخلية، هي العوامل الأساسية للأنهيار، لكن ذلك لا ينفي دور العوامل الخارجية. وفي مقدمتها العبء الثقيل الذي تحمله الاتحاد السوفيتي تجاه حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، وحتي بلاد الدول الاشتراكية شكلت عبئا كبيرا عليه. فالنجاح الذي حققه الاتحاد السوفيتي، لم يصبح «نموذجا للاشتراكية» بل أصبح «النموذج للاشتراكية» الذي يفرض علي كل التجارب وأخذت الدول النامية، وبينها مصر عبد الناصر تقلد هذا «النموذج» دون مراعاة لأية خصوصية. فالاشتراكية في معناها الحقيقي، هي مرادف للديقمراطية وكما تعلمنا من «ماركس» و«لينين» أن حقيقة «الكلية» في النظام الاشتراكي هي خصوصيتها. فلا عمومية، بلا خصوصية وبالتالي الخصوصية، هي جوهر التحقيق الاشتراكي. و«للنين» تعبير جميل يقول فيه. أن الاشتراكية ببساطة هي «التحليل العيني والملموس للواقع الملموس». ومن هنا فالقانون العام لابد أن يخصص، وأن يراعي سمات المجتمعات، وهل هي مجتمعات صناعية، أم زراعية، رعوية أم إقطاعية، أم عشائرية، متجانسة أم متعددة القوميات، فكل هذه عوامل تخلق خصوصية التنفيذ للمبدأ العام. وحتي في الرأسمالية، فسوف نجد خلافا في الرأسمالية اليابانية عن الرأسمالية الأمريكية والألمانية والفرنسية، برغم الاتفاق في المبادئ العامة و«ماركس» لم يترك نموذجا للاشتراكية، ولقد كان من الأخطاء الفادحة اعتبار «النموذج» السوفيتي في عهد ستالين نموذجا وحيدا للاشتراكية.
>> إلي أي مدي يتحمل الشيوعيون العرب المسئولية عن تقديس هذا النموذج وتبرير أخطائه؟
- لقد أخطأنا جميعا في مساندة هذا النموذج. ويرجع السبب إلي أن الدور الأسطوري الذي كان يلعبه الاتحاد السوفيتي قد أبعدنا عن رؤية الحقيقة. وكان النقد الخارجي له يأتي من معسكر أعدائه. ولذلك كان يغلب علي نظرتنا إليه، الطابع الأيدلوچي وليس العملي، مع أن الاشتراكية، هي في جوهرها علم، فلو تناقضت الاشتراكية، مع الحقائق العلمية، لوجب علينا اختيار الحقيقة العلمية. لكن هذا للأسف لم يحدث. وتضافرت كل هذه العوامل لتعجل بهذا الانهيار المؤسف. لكن ذلك ليس حكما بالأعدام علي قوانين الاشتراكية فنحن نحتاج إلي إدراك حقيقي للواقع، اذا يدرك خصوصية المواقع وإنسانية الظروف، واللحظة التاريخية التي ينشأ فيها، والأطار الكلي لخدمة العمل الجزئي الخاص، وخبرة سوف تضاف لو نظرنا للتاريخ في ماضيه وحاضره وصراعاته التي لم تنته بعد. فالنظام الرأسمالي لم ينته، وليست الرأسمالية هي نهاية التاريخ. بالعكس نحن ندخل إلي خبرة أخري ينبغي استيعابها، لكي نبدأ مرحلة إبداعية جديدة تربط بين الفكر والواقع، وتستلهم خبرات التاريخ، لتتجاوز الأحساس بالمرارة والهزيمة لمواصلة الطريق.
التنافس الفردي
>> هناك من يقولون أن سقوط الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي ، دليل علي صواب الاجتهاد القائل بأنها لابد أن تنتصر في دولة رأسمالية متقدمة، بينما يري آخرون أن سقوطها في الشمال المتقدم يجعلها لاتزال قادرة علي أن تلعب دورا في الجنوب المتخلف ، فما رأيك؟
- اعتقد أنه علي ضوء انهيار التجربة السوفيتية، وبعض التجارب الأفريقية، وانهيارها في اليمن، وتحقيقها لبعض النجاح في الصين، فإنه ينبغي مراعاة العناصر الرأسمالية في مشاريع التنمية ، كمراعاة التنافس الفردي، والإنتاج السلعي، والتفكير في نمط تنمية جديد يستوعب كل القوي الاجتماعية العاملة، ويتفق مع الاحتياجات السوق العالمية. وأنا بالطبع لا أدعو لفك الارتباط بالسوق العالمي، بل إلي تغيير طبيعة هذا الارتياط، من تبعية مطلقة، إلي سعي للتكافؤ. علي أن يرتبط ذلك بالرؤية الخاصة، للظروف الخاصة، للمجتمع الخاص، للوضع العالمي الخاص، لنكتشف الصيغة الخاصة التي تحتاج إلي حزب وتحالف مجتمعي من أجل إحداث التغيير.
ومن هنا فأنا أكرر القول أن الحزب الشيوعي، لا ينبغي أن يتحرك من أجل الاستيلاء علي السلطة، بل يلعب دور القوي الدافعة في المجتمع من أجل تطويره وتثقيفه وتنويره وتجميعه وحشده لتحقيق ما سماه «جرامشي» «الكتلة التاريخية» ليحقق الحزب نوعا من الهيمنة المجتمعية علي نفسه ليخرج من هذه الهيمنة سلطة سياسية وليس العكس.
ومن أخطر الأفكار التي يمكن أن تشل دور الشيوعيين، هو التعجل في صناعة التاريخ، وهو تعجل، يرفض تأهيل المجتمع لما قبل اللحظة الثورية، ويضع أفكارهم في مصاف الفكر الفاشي والقومي الشوفيني، الذي يعتقد أن الثورة هي عمل إنقلابي!
>> وهناك من يعتقدون أن الحافز الفردي، هو حافز غريزي لا يمكن إنكاره، وأن الشيوعية تفترض أن البشر ملائكة، ليست لديهم دوافع ذاتية، فما رأيك في هذا الاعتقاد؟
- ومن قال إن الاشتراكية، ترفض الحافز الفردي. إن الاشتراكية لو نظرنا إليها بمفهوم ديمقراطي، فهي صراع للتمييز بين مختلفين - والاشتراكية لا تنفي الصراع، بل تدعو للتنافس في الإبداع وليس في إكتناز الثروات، والتنافس في إبراز الكفاءة وتحقيق الوفرة، واحترام الاختلاف والتمايز والمواهب بين البشر. وهذا يرجعنا إلي فكرة الخصوصية، فلكل فرد خصوصية، التي ينبغي احترامها وتهيئة الظروف للاستفادة من هذه الخصوصية، لكي يحدث نوع من تشابه الخصوصيات، وتشابك الاختلافات، لتحقيق الدفعة الكاملة لكل التيارات للتغيير والتطور.
مفهوم خاطئ
>> في الأفكار الكلاسيكية للماركسية، التي أصبح صعبا الآن القبول بها - فكرة الحزب الواحد، وديكتاتورية البروليتاريا، هل تعتقد أن هذه الأفكار مازالت صالحة للبقاء؟
- لم تكن فكرة الحزب الواحد أبداً، جزءاً من النظرية الماركسية ولقد كافح «لينين» من أجل مشاركة الأحزاب البورجوازية في السلطة لكنهم رفضوا. لكنني اتفق معك في أنه باسم التجربة السوفيتية، وباسم ديكتاتورية البروليتاريا، برز «الحزب القائد»، و«الحزب الأم» وبالتالي الحزب المسيطر، الذي بدت الأحزاب الأخري إلي جانبه، أحزابا ديكورية ، وتكاد تتبني نفس أفكاره وتدور في فلكه . لكن «لينين» كان يحاور جميع المختلفين معه، وسعي عبر نضال طويل لكي يكون في الحزب تيارات واتجاهات مختلفة مع وجود المركزية. وأنا أزعم أن الاشتراكية هي مرادفه للديمقراطية، لو قرأنا أدبياتها الحقيقة، إذ كيف نتصور أن نصنع الاشتراكية ببشر مختلفين، دون وجود تنوع وتعدد، ولقد كانت هكذا التجربة السوفيتية في بدايتها، لكنها تغيرت مع حروب التدخل الخارجي والحرب الأهلية، لتتحول كما قلت إلي التجربة «النموذج».
والدرس الذي نستخلصه مما مضي، أن جوهر الاشتراكية هو الديمقراطية، وأنه لا اشتراكية، بدون مشاركة وتعدد واحترام حتي الاختلاف.
>> هذا عن الحزب الواحد، فماذا عن ديكتاتورية البروليتاريا؟
- عرض «ماركس» قضية ديكتاتورية البروليتاريا بشكل بسيط وموضوعي. فقال إن من يحكم في النظام الرأسمالي، هم الرأسماليون الذين يقيمون سلطة ديكتاتورية للرأسمالية، أما نحن فنزيد بدلا من سلطة الرأسمالية المستغلة، سلطة للمنتجين وبدلا من سلطة المستغلين - بكسر التاء والغين - نكون سلطة المستغلين - بفتح التاء والغين - وأطلق ماركس علي تلك السلطة، رابطة المنتجين، في مواجهة الطبقة الرأسمالية، وكان هذا هو المعني الذي قصده ماركس، لكن الكلمة أخذت شكلا آخر فيما بعد، لتصبح مرادفا للاستبداد. ولكن من الناحية العلمية، فإن كل نظام في العالم هو ديكتاتورية للطبقة التي تحكمة، والأنظمة الديمقراطية سواء في أمريكا أو الغرب، هي أنظمة ديكتاتورية، تسيطر عليها البورجوازية الرأسمالية الحاكمة. وفي المقابل فأن الاشتراكية تسعي لكي تبني رابطة المنتخبين ، أو ديكتاتورية المنتخبين. والمعني المجتمعي لإصطلاح ديكتاتورية البروليتاريا هو إقامة سلطة المنتجين تمهيدا، لإلغاء الاستغلال نهائيا من المجتمع ، وتحقيق الحلم الشيوعي بالحرية، حيث تصبح ديكتاتورية البروليتاريا، هي سلطة مؤقتة، تقوم بإلغاء ذاتها حين تتحول القوي الاجتماعية كلها، إلي قوي للإنتاج والإبداع، وينتقل المجتمع بمجمله ، وفقا للحلم الشيوعي، من عالم الضرورة إلي عالم الحرية المطلقة.
كان هذا المصطلح إذن مفهوما نظريا تحليليا للواقع الاجتماعي، لكنه للأسف تحول في الواقع إلي ممارسة قمعية، كرست ديكتاتورية قيادة الحزب، وبيروقراطيته واستبداديته، وفقدت الطبقة العاملة في ظله قدرتها علي الإنتاج والإبداع. ولذلك فهذا المصطلح ينبغي أن يغير أساسا، حتي لا نتورط في الدلالة، وحتي لا تختلط المفاهيم بالممارسات، والحلم بالواقع في الدلالة، وحتي لا تختلط المفاهيم بالممارسات، والحام بالواقع ، فالواقع أحيانا يفسد الأحلام - لكن جهد البشرية طوال تاريخها هو العمل بدأب لتقريب الواقع من الأحلام.
أتهام صحيح
>> هناك اتهام شائع للشيوعيين العرب بشكل خاص والمصريين علي وجه الخصوص، بأن مواقفهم كانت ملحقة، بموقف الاتحاد السوفيتي . فهل تعتقد أن سقوط المركز سوف يعطي الأطراف حرية استقلال أيديولوجي؟
- الاتهام والاستنتاج صحيحان . فالحزب الشيوعي المصري مثلا فرض عليه في عام 1924 اسم الحزب الشيوعي، بدلا من الحزب الاشتراكي الذي كان يتمسك به الشيوعيون المصريون. ولقد أدي ذلك إلي خروج عد دمن أبرز المثقفين من الحزب بينهم علي سبيل المثال «سلامة موسي» كما اصطدم الحزب الشيوعي المصري، «بسعد زغلول» وبحزب الوفد وهو حزب البورجوازية الوطنية استنادا إلي قول «ستالين» أن البورجوازية الوطنية قد القت أعلام الوطنية. ومنذ أنقطعت الحركة الشيوعية المصرية في الأربعينيات صلتها بالأممية، وهي تتطور بشكل أفضل ، أتاح لها بلورة كثير من المفاهيم والأفكار، كما هيأ لها مناخا للصحة الفكرية، لم يتوفر ربما للأحزاب الشيوعية الأخري.
لكن ذلك لا ينفي أن الحركة الشيوعية العربية، وفي كثير من أنحاء العالم، كانت تنظر للاتحاد السوفيتي كملهم وكنموذج، وفيما عدا انشقاق الحزب الشيوعي اليوغسلافي، وتمرد الحزب الشيوعي الصيني، فقد ظلت الأحزاب الشيوعية الأخري، نسخة كربونية من النموذج السوفيتي. وهذا الوضع فضلا عن أنه ضد جوهر الفكر الجدلي ، فقد لعب دورا كبيرا في عدم تعميق الوجود المجتمعي للحركة الشيوعية العربية.
>> تبدو علاقة الشيوعيين بالتراث القومي، علاقة ملتبسة ، بحيث يبدون أمام الرأي العام كفريق من المتأوربين، فمن أين يأتي هذا الألتباس؟
- استطيع أن أؤكد دون مبالغة، أن التراث العربي، لم تتم معالجته باحترام عميق، إلا بواسطة الشيوعيين العرب المستقلين والمنظمين. وأذكر في هذا السياق دراسات «حسين مروة» و«الطيب تيزيني» و«مهدي عامل» و«بندلي الجوزي» وغيرها من الدراسات لعديد من المفكرين في مصر وخارجها، تأثرت بوضوح بالفكر الماركسي، لعل أبرزها دراسات «عبدالله العروي» .
واستطيع الجزم أنه لا يوجد مفكر ماركسي في الحركة الشيوعية إلا وله موقف إيجابي من التراث العربي الإسلامي، كعمق تراثي، وعمق قومي للحركة الثقافية العربية. وفي الوقت الذي وقف فيه القوميون والوضعيون المناطقة والليبراليون والإسلاميون موقفا تقديسيا أو إنتقائيا أو استبعاديا للتراث فإن الفكر الماركسي، وقف من التراث الموقف الصحيح. فإحترمه في سياقه الخاص، وحرص علي أن يستوعبه بشكل عقلاني نقدي وجدلي ، ودرس كل المذاهب الإسلامية، وفهمها واستخلص منها دلالتها التاريخية والاجتماعية، دون تمجيد أو تقديس أو تجميل أو استبعاد لأي من عناصر التراث.
>> إلي أي مدي يتحمل الشيوعيون المسئولية، عن الربط بينهم وبين الدعوة للالحاد؟
- ليس هناك في الحركة الشيوعية أي كتاب أو وثيقة ضد الدين، وواقع الحال أنه في التاريخ المصري، الذي تبنوا الدعوة للالحاد في كتاباتهم كانوا مفكرين ليبراليين، كان أبرزهم «إسماعيل أدهم» الذي أصدر كتابا بعنوان «لماذا أنا ملحد» بل أن الحركة الشيوعية المصرية في العشرينيات كان من بين أعضائها «الشيخ أبو الفتوح» رئيس اتحاد العمال، كما كان أكبر الأقسام لهذه الحركة في الأربعينيات، هو قسم الأزهر. وكان «إنجلز» يقول أن للدين ثلاث دلالات، الأولي السلوان، والثانية الدعم الأيديولوجي للسلطة، والأخيرة دلالة ثورية. فهو قد يصبح أداة للسلوي من واقع مرير، أو كركيزة ليدعم السلطان سلطته، أو ثورة علي واقع مستبد، وكل الأديان عند بداياتها، كانت ثورات عظمي ، ثم امتطيت لصالح القوة المهيمنة، وتحولت علي حد قول «ابن خلدون» من حركة دينية ثورية إلي «ملف عضود» ولقد قاوم الشيوعيون طوال تاريخهم فكرة توظيف الدين لمصالح سياسية دينوية، كما فضحوا سعي الأنظمة العربية القائمة ، لاستخدام الدين كجزء أساسي، من أيديولوجيتها، لتكريس سلطتها وفرض هيمنتها، وتغييب رؤية الشعوب لواقعها الحقيقي.
فشل للقوميين
>> هل توافق علي القول، بأن صعود تيار الإسلام السياسي، قد تم علي أنقاض هزيمة التيارين الماركسي والقومي؟
- استطيع القول أن التيار الماركسي لم يهزم. وهو تيار ثقافي متواجد بقوة علي الساحة العربية، وليس هناك مثقف عربي كبير، أو مفكر أو مبدع، إلا وكان قريبا، بشكل أو بأخر من الفكر الماركسي. والماركسية لم تصل إلي السلطة في عالمنا العربي إلا في اليمن، ولم تكن مؤهلة لها. لكن الفكر الماركسي أثر ثقافيا وسياسيا في مراحل تاريخنا العربي المعاصر.. لقد أثرت الماركسية علي المرحلة الناصرية، كما أدخلت للعالم العربية مفاهيم التحالف والتناقض مع الاستعمار، والرؤية الاجتماعية للأدب والسياسة، والمفهوم العلمي لقضية الوحدة العربية. وإن تكن الماركسية لم تتحول إلي مؤسسة سلطة، إلا أنها لاتزال ذات أثر بالغ في التيارات السياسية والثقافية والفكرية علي امتداد الوطن العربي.
لكن يمكن القول ببساطة، أن صعود تيار الإسلام السياسي هو هزيمة للأسف للمشروع القومي، الذي غلب عليه الطابع المثالي والفوقي والنخبوي. كما غلب عليه أيضا موقف التنافس مع الحركة الماركسية، فسعي دوما، إما لاستيعابها ، أو للقضاء عليها.. ولاشك أن الإسلاميين، قد استفادوا من ضعف الحركة الماركسية في علاقاتها المجتمعية، ومن تواطؤ السلطات شبه الليبرالية القائمة معهم. ومن فشل المشروع القومي سياسي واقتصاديا وعسكريا.
>> هناك من يقولون، إننا في حاجة إلي اجتهاد يساري عربي جديد ، فإذا وافقت علي ذلك، فما هي الملامح العامة التي يمكن أن يدور حولها هذا الاجتهاد؟
- أخشي أن يكون وراء هذه الفكرة محاولة للتكيف مع الواقع الجديد، دون قصد. وبالطبع ليس هناك بديل عن التجديد لكن هذا التجديد، لا يتم بمجرد البحث في ملكوت الذهن عن جديد. بل يأتي من حسن دراسة مواقف الماضي، والمصارحة حول أخطائها، وتحليل الواقع الملموس لاكتشاف قوانين اللحظة و«ابن خلدون» كان يقول أن النصوص محدودة وثابتة، أما الوقائع فمتجددة، فلابد أن نحاور الواقع، ولا نلوي عنق النصوص أو نغيرها، فالتاريخ متجدد، كما علينا إتاحة الفرصة للحوار المجتمعي، وأن تتحول منابرنا الصحفية والإعلامية والثقافية إلي وسائل للحوار، وليس أدوات للتلقين، لنصوغ من الواقع الجديد احتياجاته، في ضوء حقائق عالمنا العلمية والسياسية والاقتصادية.
>> هل تعتقد أن المجتمع المصري بحاجة إلي حزب شيوعي؟
- جدا، طالما أن الشيوعية، هي الغاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وتحقيق العدل الاجتماعي والمساواة والحرية، وسيظل توق البشرية لنيل هذه المطالب قائماً، سواء كان من يدعو إليها اسمه «الحزب اشيوعي» أو «الحزب الاشتراكي» أو أي اسم كان. وأنا لا اتفق مع من يرون ضرورة تغيير اسم الحزب، لأنه يؤكد فكرة الالتحاق بالمركز ، كما أن الاحتفاظ بكلمة «شيوعي» هو حرص علي اتجاه البوصلة فنحن نعرف أننا لسنا في مرحلة تحقيق الشيوعية أو حتي الاشتراكية لكن الخشية من الغاء هذه التسمية اليوم، هي أن تحدث تشويشا كاملا في حركة الاتجاه الاجتماعي بشكل عام ، في ظرف ملتبس تختلط فيه الأوراق، ويختلط فيه الصدق بالزيف، والهزيمة بإرادة التغيير. فوجود الحزب الشيوعي، هو ضرورة موضوعية وتاريخية ...