بستان رودس


حمودي عبد محسن
2010 / 6 / 11 - 14:01     

بستان رودس

في كل مساء من أيام عطلتنا التي قضيناها في جزيرة اليونان ، كنا نذهب إلى بستانه الجميل الذي يقع في المدينة القديمة ، وفي سوقها الرئيسي ، وخلف سور عال ضخم لقلعة عظيمة ، تجسد سنوات الحروب ، وأبطال ملاحم شعر الإغريق ، والآلهة الراعية لأوديسوس ، إذ في هذه الجزيرة وقف تمثال رودس العملاق ، وهو من عجائب الدنيا السبعة ، وقف إجلالا لإله الشمس هيليوس ، ساقاه متباعدتان تمر من بينهما سفن السلام والحرب . البستان عبارة عن مطعم هادئ ، في مدخله ببغاء كبير زاهي بألوان ريشه الأخضر والأصفر والأسود يقف على جذع شجرة قديمة ، يرحب بالقادمين من بعيد ، وتزين البستان أشجار خضراء مثمرة بأنواع الفواكه التي تتدلى من غصونها إلى أسفل ، وهناك عين ماء رقراقة صافية تحيطها زهور تبعث روائح عطرة ، وأضوية خافتة تبعث ضياء أشبه بألوان قوس قزح ، وتمتد أيضا ساقية ضيقة ملتوية ، وملتفة على حافات البستان يخرخر فيها ماء عذب . كنا نجلس أنا ومحبوبتي قرب عين الماء ، نستقي شرابا أحمر من يد ناعمة لفتاة حسناء كأنها عذراء هذا البستان ، ننتشي في الشراب فرحا وبهجة ، وأكثر ما كان يثير البهجة هي تلك العصافير المزغردة بأصوات لطيفة تتردد في البستان . وينما كنا في طقوسنا المسائية المعتادة البهيجة جلسا فتى وفتاة ليس بعيدين عنا تحت شجرة مشمش محملة بثمارها الناضجة الزاهية بلونها ، وقد كانت الفتاة تذرف الدموع بصمت والفتى ينظر إليها بذهول واندهاش ، لا أدري لماذا اعتقدت حينها أنها دموع حزن الفراق أو الوداع الأخير ، وأنا أعرف أن آلهة الإغريق لا تبارك دموع الحزن ، بل تبارك دموع الفرح ، فتجلت لي أن هذه الآلهة لا قلب لها ، وأنها آلهة ملوك وأباطرة وأبطال حروب ، وأنها قاسية متعصبة ، غير مرغوب فيها ، غير جديرة بالعبادة ، وقد غدت لي إنها غير موجودة على الإطلاق ، بالرغم من أن قدسيتها كانت طاغية على شعب اليونان في زمن قديم . لم تمر لحظة انفعالية لهذا المشهد حتى نظرت باستغراب إلى وجه محبوبتي الذي توهج بسرعة تأسفا لفيض الدموع مثل نهر نيزك ، وغالبا ما كان يلوح في سمات وجه محبوبتي ذلك الطابع الذي يعبر عما في داخلها ، خاصة وراء نظرتها الثاقبة ألف تفسير ، المرتبطة بتغير ملامح وجهها ، إذ نظرتها كانت فيها ملامح حزن نحو البعيد كما لو أنها أرادت أن تخلدها في هذه اللحظة بالذات ، إلا أنني اكتشفت أنها تبدو أقوى من المعتاد ، ونحن ننظر في اتجاه بعضنا بشيء من الحنان ، بشيء من الألفة في نفس الوقت ، لكن نظراتها بدت لي في هذه المرة فيها شيء من الغرابة ، وإفراط في الابتعاد والحزن والقلق ، لذلك بدت لي أن الأمور قد لبست رداء الحيرة ، والتبست أكثر مما عليه ، فخرجنا من البستان بعد أن دفعنا فاتورة الحساب ، واتجهنا نحو ساحل البحر من نهاية السوق .
كنا نمشي على ساحل البحر كمن انبثق من ليالي ألف ليلة وليلة ، نتنشق أنسام البحر العذبة ، وطيف سرور يصلنا من عمق العصور كي تتعلق عيوننا بنجوم السماء المتلألئة فوق هذا الكون العجيب ، وفي داخلنا إحساس بحب الأرض ، وكنوزها ، وروافدها ، وسعتها غير المتناهية ، لتجبلنا عليها بود ، ونعيش أحلام ثراها ، ونعيمها ، وكذلك نعيم السماء ، في برهة سعادة الروح ، حيث كانت أصابعنا متشابكة مسحورة بهذا الكون ، آنئذ تعانقنا بحب وشغف ، لتناصرنا صرخات من البحر التي بدت في صمتها مدوية ، لتضفي سر الوجود العظيم علينا ، وجودنا الحقيقي نحن الاثنين ، بجوهر التأمل لأنفسنا ، ولما حولنا . فجأة رحت أصغي إلى أصوات أخرى ، تلك الأصوات الغامضة التي تأتيني من بلادي ، ومن شبح مآسيها . لم تكن الأصوات متشابهة ، فهي ليست أصوات ملائكية ولا سماوية ، ولا تشبه أصوات آلهة الإغريق ، بل أصوات شعب يكاد يكون في دموع حزينة ، هذه الأصوات التي كنت غالبا أجد نفسي تحت تأثيرها ، لذلك التفتت إلي محبوبتي ، خاصة وهي تعرف جيدا عندما أسهو في البعيد ، وأسرح في الخيال ، وأطلق العنان لذهني ليجول في الذكريات ، فقالت بنعومة لتواسي عبادتي لهذا الشرود :
- هل جاءتك أصوات الوطن ؟!
كنت أمزق صورا لخيبات بلادي المتلاحقة ما بين الضوء والعتمة ، وأنا أقول :
- للأسف ، ليس للعراقيين حياة ، ليس لهم سوى مصير .
حينئذ كنت أرغب أن أسمع موسيقى سومرية عذبة ، تملأ روحي أنغام فرح ، أو أصوات بهيجة من آلهة بابلية تعظم هذا الوجود التي هي الأجدر بذلك إلا أنني لذت بالصمت ، وأنا أطوف بخيالي إلى عذراء بلادي ، وهي تتغنى بأغنية بلادي منبعثة من صميم قلبها في حمرة غروب الشمس ، وتتمطى شاطئ دجلة مثل غصن بان .
تركنا ساحل البحر ، واجتزنا شارع وساحات ضاجة بالسواح ، حتى انحدرنا في زقاق الترف الطويل الذي يؤدي إلى الفندق ، والزقاق كعادته في كل ليلة يزدحم بأصحاب الهوى من الشبيبة المخموريين ، والمتشبعين بالمخدرات ، الصاخبين في ضجيج الرقص والموسيقى ، والخلاعة .صعدنا إلى غرفتنا ، وجلسنا في شرفتها التي تشرف على الزقاق ، والبحر ، لم تأخذنني عجائب البحر ، ولا عجائب الهوى إلى عوالمها ، بل أخذني القمر بعلوه وبهائه وبياضه ، وأنا أضع اليد اليمنى لمحبوبتي على صدري ، لأفتخر بملمسها في حركة ذات مغزى أشبه أن تكون استعراضية للحنان والوجود وعدم الافتراق وكأن في هذه الحركة تجلى وعد خالد بيننا دون شهود ، دون اتفاق ، وعد في صمتنا الأزلي . وضعت رأسها على كتفي مسترخية ، وهي تطرف بعينيها ، وتبتسم ابتسامة لطيفة خفيفة ، وقد توردت وجنتاها تحت سماء زرقاء مشعة فوق كل شيء ، مطرزة بالنجوم ، أحسست بدفء أنفاسها الناعمة ، كما لو أن نسمة من عبيرها لفني بأريجه . كنت مسحورا في هذا النقاء الذي يجمعنا في ليل منور متألق بضوء القمر ، ونحن ومضة في ظلاله على الأرض ، وفي الصمت الذي تحرسه روح الليل المقدس ، صمت كان يدحض ، وينفي الدموع الحزينة ، صمت لم يكن خاليا من البعد والمحتوى العميق كعمق بحر ، لذلك عززته في الكلام حين سألتني بخفوت :
- نحن لن نفترق ، أليس كذلك ؟!
هكذا كنت أديم النظر إلى السماء ، وأنجم تقتاد مع الليل أنجما ساطعة ، وتحكم ليلي المنور ، وأنا أكرر :
- بالطبع ...


حمودي عبد محسن
11 / 6 / 2010