أوهام حول حصار غزة


رفيق حاتم رفيق
2010 / 6 / 8 - 12:52     


أبحرت مجموعة من السفن باتجاه غزة المحاصرة منذ سنوات و على متنها مئات المتضامنين من جنسيات مختلفة بالإضافة إلى أطنان من الأدوية و الأطعمة و مواد البناء ، كان التحرك رمزيا القصد منه توجيه الأنظار إلى حصار أكثر من مليون و نصف مليون إنسان في شريط من الأرض لا يزيد مساحته عن 128 كلم مربع ، يعد بالمقاييس العالمية الأعلى من حيث نسبة السكان في الكيلومتر مربع ، أهله معدمون في غالبيتهم عرفوا شتى صنوف الاضطهاد و الاستعمار و الفقر و الجوع و المرض فتكت بهم على مدي نصف قرن الصهيونية و الرجعية المصرية و المافيا الفتحاوية قبل ان تأتي حركة حماس لكي تحول الشريط إلى إمارة ظلامية تهدم البيوت فوق رؤوس أصحابها و تجبي الضرائب و تفرض الفصل بين الجنسين في المدارس و الشواطئ .
لم يقبل الكيان الصهيوني خرق الحصار و لو بشكل رمزي و هو الذي استمد وجوده من دوره كشرطي في خدمة المصالح الامبريالية فلو انتهى هذا الدور فان مبرر وجوده يكون قد تلاشى لذلك هاجم جيشه أسطول الحرية من البحر و الجو بوحشية و هو في المياه الدولية مما أدى إلى سقوط عشرات القتلى و الجرحى .
لم يكن ما حدث مجرد خطأ في التعامل مع الوضع و نقصا في المهنية لدي الجنود أو دفاعا عن الذات في وجه المتضامنين المدججين بالهراوات و قضبان الحديد كما قال القادة الصهاينة ، و روج الإعلام البرجوازي ، و إنما كان جريمة خطط لها و تم تنفيذها عن سابق إصرار و ترصد ، فالكيان أغرق أسطول الحرية في الدم لوضع حد لمحاولات خرق الحصار ، لقد أراد التأكيد انه ماض في تأدية دور الشـــرطي إلى آخر مدى يمكن تصوره .
في كل حدث هناك بالمعنى الديالكتيكي سلب و إيجاب و الايجابي أن الكيان و هو ينفذ جريمته قد أدمى وجهه و بدت يداه ملطختين لا بدماء العرب فقط هذه المرة و إنما أيضا بدماء متضامنين أمميين جاؤوا من أربع و أربعين دولة ، و قد أثار هذا موجة غضب عارمة فانطلقت الاحتجاجات عبر العالم حيث خرجت الجماهير المناضلة في مسيرات ضمت مئات الآلاف من البشر و هي تهتف لفلسطين و الحرية .
لقد تنادت قوى ديمقراطية من قارات مختلفة منذ سنوات طويلة للتضامن مع الشعب العربي الفلسطيني ، و من المناضلين الأمميين من رفع السلاح في وجه الصهيونية مثل الياباني كوزو اوكاموتو و رفاقه ، و هناك من استشهد في ساحة الكفاح الثوري المسلح أو في ساحة الاحتجاج السلمي مثل راشال كوري ، و الآن يصمم كثيرون على السير على خطى هؤلاء الثوريين و لا تكاد يتوقف توافد المتضامنين الأمميين على فلسطين سواء لكسر الحصار على غزة أو الاحتجاج على الجدار العزل و هدم البيوت .
إن حدثا بحجم المجزرة الأخيرة لا يمكن أن يمر دون محاولة استثماره سياسيا و إيديولوجيا من قبل القوى المتصارعة ، و قد برزت بشكل خاص الدولة التركية التي استغلت ما جرى لتحقيق جملة من الأهداف مثل الضغط على الاتحاد الأوربي للقبول بها عضوا فيه من خلال الظهور بمظهر القوة الإقليمية التي يمتد نفوذها لكي يشمل الوطن العربي الغني بالخامات ، كما تريد أن تقول للامبريالية الأمريكية إنها الأقدر على احتواء التأثير الإيراني المتزايد في المنطقة و بطبيعة الحال فان هذه الأهداف تتداخل فيها جملة من العوامل الاقتصادية و السياسية .
و قد أدركت إيران هذا الأمر و حاولت تدارك ما فاتها سريعا فأعلن علي شيرازي ممثل الإمام على خامنئي استعداد إيران لتأمين سلامة السفن المتجهة الى غزة في عرض البحر بل إنها تستعد هي أيضا لإرسال سفن لكسر الحصار .
إن ما ينبغي ألا ينساه العرب أن تركيا تريد مصالحها و لن تكون نائبة عنهم في الدفاع عن قضيتهم ، فهي ترتبط بعلاقات دبلوماسية مع الكيان المجرم و تقوم بمناورات عسكرية مشتركة معه بما في ذلك فتح أجوائها لتدريب الطيارين الصهاينة على الطلعات الطويلة و هي عضو في الحلف الأطلسي و مبادلاتها التجارية مع الكيان فاقت مليارين و 500 مليون دولار خلال العام الماضي فقط ، و هي التي تقتل الشعب الكردي و يغزو جنودها بين الفينة و الأخري شمال العراق و تحتل أرضا عربية هي لواء الاسكندرونة ، و بالتالي يجب الكف عن الأوهام فالرجعية التركية لا علاقة لها بتحرير فلسطين .
إن كل ما قدرت عليه تركيا حتى الآن هو سحب سفيرها مؤقتا من الكيان و إلغاء بعض الاتفاقيات العسكرية بينما قطعت دول مثل فنزويلا و بوليفيا و نيكاراغوا تلك العلاقات أو جمدتها . و إذا كانت إحدى سفن أسطول الحرية ترفع العلم التركي فهل يعني ذلك ان الدولة التركية تقف وراء المحاولة الأخيرة لخرق الحصار؟ هل لأن العدد الأكبر من الشهداء هم أتراك يعني أن اردوغان بطل و أان تركيا أصبحت فجأة دولة مواجهة ؟
لقد ابتهج البعض بالدور التركي و بدعوة الدولة التركية حلف الأطلسي إلى الانعقاد و ضخموا المسألة و قالوا ان اردوغان عربي أكثر من العرب أنفسهم ، و قد انعقد المجلس مثلما كان ينعقد دائما و أصدر قرارا لا يختلف في شئ عن القرارات السابقة الصادرة في مثل هذه الحالات ، و لم تختلف تركيا عن الدول العربية في الشجب بل إنها أصرت على الاحتفاظ بعلاقاتها بالكيان فعن أي بطولة يتحدثون ؟؟؟
و تجدر الإشارة أن الوهم حول الدور التركي تنشره و تغذيه الظلامية الدينية من خلال مجموعة من وسائل الإعلام منها قناة الجزيرة التي سخرت خلال الأيام الأخيرة جهدها للتأثير على الجماهير فإضافة إلى تغنيها ببطولات "الإسلامي" اردوغان القائد الهمام الذي سيعيد المجد للإسلام فإنها على مدى يوم كامل ظلت تردد ان الشيخ رائد صلاح جرح جروحا بالغة و هناك عملية خطيرة تجري له ، بل أشارت إلى أنه ربما قد فارق الحياة و في المساء اتضح ان الخبر كاذب ، بينما سكتت مثلا عن حالة المطران كابتشونى الذي أصيب في قدمه بطلقة نارية وعمره تعدى 84 عاما، وهو الذي تم إبعاده من فلسطين عام 1974 بعد سنوات قضاها في السجن بتهمة نقل أسلحة لفتح و لم تشر إليه مجرد إشارة لأنه مسيحي .
ان القضية الفلسطينية جزء من قضية التحرر الوطني الديمقراطي العربية و قد تبين ان الانعزاليين الفلسطينيين من جماعة عباس الذين يروجون الوهم حول حل فلسطيني عبر المفاوضات مع الكيان ترعاه الامبريالية الأمريكية ، أو جماعة حماس التي تروج لحل إسلامي لا يقدمون غير المآسي ، و لا فرق بين دويلة عباس في الضفة و إمارة حماس في غزة فكلاهما تحت مظلة الاحتلال الصهيوني ، مما يعني أن على الشعب العربي الفلسطيني و الأمة العربية مواصلة النضال و تصعيده لا ضد الامبريالية و الصهيونية فقط و إنما أيضا ضد الرجعية الفلسطينية و العربية ، و لن يكون هذا النضال مثمرا دون توفر أدواته التنظيمية المناسبة من حزب شيوعي و جبهة وطنية متحدة و جيش شعبي و هي الأدوات التي أثبتت فعاليتها في بلدان مثل الصين و فيتنام وغيرهما ، و أمكن بواسطتها قهر الامبرياليين و تحرير الشعوب و الأوطان ، و هنا بالذات يتوجب على اليسار الفلسطيني و العربي التخلي نهائيا عن التحالفات المغشوشة مع التيارات الظلامية الدينية و التيارات الليبرالية المرتبطة عضويا بالامبريالية و التشكل كقطب مضاد بهوية شيوعية واضحة المعالم تقدم للشعب و الوطن بديلا ثوريا قابلا للتحقيق على أرض الواقع يلف من حوله أوسع الجماهير .
و إذا كان البعض يتعلل بحالة الجزر الراهنة و ضعف القوى لكي يبرر الاستسلام الطبقي و الوطني فما عليه إلا أن ينظر إلى ما يجري في النيبال و الهند حيث أمكن لحزبين شيوعيين ماويين إطلاق حربين شعبيتين حققتا حتى الآن انتصارات كبيرة .
ان الوضع العربي مؤهل للثورة و تستغل الأطراف الرجعية الآن ذلك لصالحها فتبدو كما لو كانت البديل الحقيقي لما هو سائد ، و الحال أنها امتداد له . و إذا لم تنهض القوى الثورية العربية بمهمة تنظيم الجماهير على قاعدة برنامج وطني ديمقراطي للتحرير ذي أفق اشتراكي فإن التاريخ سوف يعيد إنتاج نفسه و لكن هذه المرة لا في شكل مأساة مثلما حدث في الخمسينات و الستينات عندما نشأت معظم النظم العربية القائمة الآن و إنما في شكل مهزلة حيث سنستفيق يوما على نشأة إمارات ظلامية أو جمهوريات أمريكية يرأسها أشباه البرادعي يكون الكيان الصهيوني شقيقها الأكبر .