بيت الحكمة : معان ام مبانٍ؟ هل تقوم الحكمة على التمتع ببناء فخم واداء هش؟


حسب الله يحيى
2010 / 5 / 11 - 12:04     


كل بديهيات الاشياء تقول: لا تعني الظواهر ما في البواطن، ولا العلني عن الخفي، ولا المنظر الخارجي عن المحتوى الداخلي، ولا الفخامة والابهة عن المعاني الكبيرة والوعي الناضج والدلالة المؤكدة والمؤشر الصادق.
الاشياء الحقيقية، قد تكون في الغالب على العكس من ذلك .. فالهواء العليل قد يحمل معه ملوثات لا تدرك إلا بالفحص والتمحيص الدقيقين، والماء الجاري قد يحتوي على الكثير من الشوائب، ولسان الانسان العذب، قد تسكن تحته كل كلمات السوء، والوجه الذي يلقاك فرحاً، قد يخفي وراءه وشاية كاذبة تقودك الى الموت، والعسل قد يخفي السم الزؤام..
هكذا الحال مع مؤسسة ثقافية كبرى تحمل اسم (بيت الحكمة) يتم رصد مبالغ مادية ضخمة اليها سنوياً، وقد رصدت لها المليارات هذه المرة لاقامة مبنى فخم هو الثالث بين المباني التي تشغلها والتي كان احداهما قصراً ملكياً فارهاً.. والذي لم يعد كافياً مع المبنى الآخر وكلاهما مازالا قيد الترميمات غير الاعتيادية التي تجري فيهما منذ سبع سنوات!
هذا البيت الذي عرف بـ (بيت الحكمة) يؤمن لمنتسبيه و(الامناء) عليه بشكل خاص خصوصية عالية من الترف والبيروقراطية، ويقع في مرجعيته الادارية خارج وزارة الثقافة، ليكون ارتباطه الاداري والمالي المفتوح مع مجلس رئاسة الوزراء، استثناء من جميع وزارات الدولة.. وهو الأمر الذي يتيح له العمل بشكل فاعل وحر ومفتوح على الخيارات والآفاق كافة.
وكان الأمل ان يكون هذا الاهتمام غير المعهود والمتميز، فاعلاً ومؤثراً في عمل هذا البيت ونقله الى اعلى مراتب العطاء الفكري الذي يؤسس لهندسة بالغة الاهمية ووافرة العطاء النوعي النادر.. الا ان هذا البيت افتقد الى ابسط شروط الحكمة التي يحمل اسمها ولم ينطلق من ابجديات الحكمة والمعرفة المطلوبة منه، وذلك من خلال استئثار امانته على تحقيق اعلى المنافع لهم والعيش في ترف وظيفي واضح، فيما اهملوا كلياً رعاية المفكرين والمثقفين الذين يفترض ان يكون في مقدمة اهتمام هذا البيت الذي حرص كل الحرص على غنى مظهر وفقر حال اولئك الذين شيد من اجلهم ورعايتهم وتكريم وجودهم في هذا البيت.
وعمل (بيت الحكمة) على صرف مكافآت ضئيلة جداً لا يمكن مقارنتها حتى بالمكافآت التي تدفعها الصحف اليومية للمساهمين في تحريرها.. وهو الأمر الذي دفع معظم الكتاب الذين يحترمون انفسهم من مقاطعة مجلة (بيت الحكمة) مما ادى الى توقف المجلة المركزية (الحكمة) ومن ثم (فيض الحكمة) ولم يصدر منهما أي عدد منذ اكثر من عام.. كذلك توقفت المجلات الاخرى مثل: الدراسات الاجتماعية، والفلسطينية والترجمة وغيرها..
اما الكتب الصادرة عن (بيت الحكمة) فظلت رهينة المخازن وعصية على التوزيع وليس من احد يقصد مكتبة البيت التي تبيع الكتب بشكل مباشر.. بسبب محدودية انتشار هذه الكتب التي اصدرتها وهامشية الموضوعات التي تتناولها وعدم تناولها الواقع الراهن الذي يعيشه العراق حاضراً ومستقبلاً وانما انصرفت معظم اصداراتها على تناول قضايا الماضي.. في حين يفترض بهذا البيت ان يقدم احدث واعمق واهم الكتب الفاعلة في الحياة العراقية الراهنة.. ان بيتاً يتخذ الحكمة مناراً لعمله، لا يمكن له انتاج هذا الركام من الكتب التي لا تنفع ولا تضر.. وانما هي مجرد كتب عابرة لا تواكب متغيرات العصر.. وبالتأكيد ما لهذه الاصدارات المتواضعة انشيء 0بيت الحكمة ببناياته العامرة ولا المليارات المخصصة لبناء المزيد ودعم الفراغ والهامشية التي يعاني منها ولا يستطيع الخروج منها.. بسبب انصراف معظم المعنيين بالفكر والمعرفة والثقافة عنه.
ان تفعيل هذه المؤسسة يحتاج الى نخبة من خيرة القامات المعرفية التي ينهض بها العراق ويفخر بوجودهم ونزاهتهم وكفاءاتهم واختصاصاتهم المعمقة وبعكس ذلك سيظل هذا البيت يهدر المال العام ولا يحقق الا مكاسب للقائمين عليه.. وتهميش كل العناصر الخيرة والكفء التي يمكن ان تنهض به وترقى بعطاءاته وتحوله الى جامعة معرفية في عراق يريد ان ينهض من جديد ويتبوأ المكانة الراقية التي يستحقها بعيداً عن المظاهر.. قريباً ومتماساً مع كل جهد خير نبيل.