النفوذ السياسي للشركات متعددة الجنسيات


بابكر عباس الأمين
2010 / 4 / 27 - 03:32     

تزامن ظهور الولايات المتحدة كقوة عظمي في أول القرن العشرين
مع ظهور شركاتها التي تعمل في دول أخري. ولأن هذه الشركات قد ضاعفت ثروة أمريكا, فقد أصبح لها نفوذاً مؤثراً في دوائر صنع القرار, بحيث بات تحديها بمثابة تحدي لأمريكا. وبعد أن حازت تلك الشركات علي نفوذ وحماية سياسية, فقد أصبح من السهولة لها أن تدعو وكالة المخابرات أو الجيش الأمريكي, للتدخل لحماية مصالحها عندما تُهدد في الدول الأخري. وبتقدم القرن العشرين, أضحت الشركات متعددة الجنسيات أهم عامل في تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية.

كانت أول عملية إزاحة رئيس دولة أخري, من أجل مصالح تلك الشركات, هي الإطاحة برئيس نيكاراقوا, سانتوس زيلا عام 1909, لأنه سعي لتقليص سيطرة الشركات الأمريكية علي إقتصاد بلاده. ووضعت عملية الإطاحة به الأساس لسياسة أمريكا في التدخل المباشر في الدول الأخري لمصالح تلك الشركات. ثم جاءت مرحلة تحوَّل بعدها رجال المال وممثلو ومُلاك أسهم الشركات من مجرد التأثير علي السياسيين الذين يصنعون القرار, إلي صُناع قرار وسياسيين.
وأوضح من يمثل هذه الظاهرة في القرن العشرين هو جون فوستر دالاس, الذي عمل لعدة عقود لأكبر الشركات ثم تقلد منصب وزير الخارجية.

يجدر بالذكر أن دالاس كان قد أشرف علي عملية الإطاحة بنظام دكتور مُصدق في ايران عام 1953, ليتسني لشركات النفط الأمريكية الهيمنة علي نفط إيران. وقبل الإنقلاب علي مُصدق, مارست شركات النفط نفوذها في فرض حظر علي صادرات إيران النفطية لأن حكومة مُصدق قد قامت بتأميم صناعة النفط. وفي شيلي, حاول رئيسها المنتخب ديمقراطياً, سلفادور اللندي, تأميم الشركات الأمريكية التي سيطرت علي إقتصاد بلاده. فقامت تلك الشركات بتمويل الإنقلاب ضده بالتعاون مع المخابرات الأمريكية عام 1973.

أما في القرن الحادي والعشرين, فإن أوضح ما يمثل هذه الظاهرة هما إدارتا جورج بوش, الإبن, الذي تدير أسرته أعمال نفطية هائلة منذ ثلاثة أجيال. وبلغت أسهم نائبه, ديك شيني في شركة هالبيوترن 37 مليون دولار. وكان ديك شيني قد بدأ التنسيق مع هالبيوترن منذ عام 2001 لمنحها عقود للعمل في العراق. كما أن شركات النفط الأمريكية والبريطانية قد مارست نفوذها السياسي لإطالة الحصار علي العراق, قبل الإحتلال, لأن شركات نفطية صينية وروسية وفرنسية قد حازت علي عقود نفطية فيه. ثم دفعت تلك الشركات بمشروع إحتلال العراق 2003, لتهيمن علي ثرواته النفطية.

ولكي نتخيل ثراء هذه الإمبراطورية المالية, فإن هناك 500 شركة قد سيطرت علي 80 في المئة من التجارة العالمية عام 1998. وبعام 2000, فإن أربع شركات هي جنرال موتورز, وول مارت, أكسون وفورد قد فاق دخلها الناتج القومي للدول الأفريقية مجتمعة. وفي هذا الصدد, فقد صدقت نبوءة كارل ماركس حينما ذكر بأن الرأسمالية ستتطور إلي مرحلة الإمبريالية, بتصدير رأس مالها للخارج لإستغلال موارد الشعوب. ولهذه الإمبراطورية المالية المقدرة أيضاً علي ممارسة نفوذها والتأثير علي الإتفاقيات الدولية والإقليمية. فعلي سبيل المثال, مارست بعض الشركات وعلي رأسها إكسون نفوذها, ونجحت في رفض أمريكا التوقيع علي إتفاقية كيوتو 1997, التي دعت للحفاظ علي المناخ العالمي بتقليل كمية ثاني أكسيد الكربون الصاعد لطبقة الأوزون (تنتج أمريكا ربع الكمية العالمية منه).

ولهذه الشركات نفوذها في البنك وصندوق النقد الدوليين, حيث تمارس, مقابل القروض للدول النامية, الضغط لفرض شرط الإنفتاح وإعادة هيكلة الإقتصاد, وبالتالي, إشاعة التوتر السياسي والإجتماعي نتيجة تصفية مؤسسات القطاع العام وتسريح العمال. وحتي العون المالي الذي تقدمه الحكومة الأمريكية للدول النامية, فغالباً ما يكون مرتبط بمصالح تلك الشركات. تشترط الحكومة الأمريكية علي معظم الدول النامية إنفاق 70 في المئة من العون الأمريكي في شراء منتجات الشركات الأمريكية. هذا يعني أن هذا المال يتم إعادة تدويره في الإقتصاد الأمريكي, مما يساعد علي نموه إضافة إلي فتح أسواق خارجية جديدة.

ورغم الثراء الفاحش لهذه الشركات, ورغم تدني الأجور في الدول النامية, إلا أنها تمارس إستغلال العمال فيها لتحقيق أقصي قدر ممكن من الأرباح, بإطالة ساعات العمل دون أجر إضافي وعمالة الأطفال, وعدم مراعات سُبل الحماية والصحة. وحتي عندما تساهم تلك الشركات في إنشاء بنية تحية وتوفير فرص عمل وتكنلوجيا, فإن ذلك يمنحها ورقة مساومة مع الدول المضيفة تحصل منها علي مكاسب كالإعفاء الضريبي وتفادي نظم البيئة وقوانين العمل. ولبعض هذه الشركات إعلاميين ووسائل إعلام تعمل علي نشر ثقافة الإستهلاك لسلع غير ضرورية, كأدوية مقاومة الصلع والمنشطات الجنسية والعطور والمساحيق وأدوات التجميل النسائية. وتنفق تلك الشركات ملايين الدولارات علي الإعلان, الذي يخطط له مختصون في علم النفس, بحيث يترسب في ذهن المُتلقِّي كأنما تلك السلع ضرورية. بل أن لبعضها "علماء" ظلوا ينفون, لسنين, أن زيادة ثاني أكسيد الكربون هي السبب في إرتفاع حرارة الكوكب.
إنتهاك حقوق الإنسان:
يُعد تغيير الأنظمة الديمقراطية بأنظمة مستبدة إنتهاك لحقوق الإنسان, كما حدث, أثر نفوذ الشركات الأمريكية, في شيلي وإيران ونيكاراقوا. إلا أن تلك الشركات قد ضلعت ضلوعاً مباشراً في إنتهاك حقوق الإنسان. ومثال لذلك, تزويد شركة كاتربيلا الأمريكية للجيش الإسرائيلي بجرافات يستخدمها في هدم منازل الفلسطينيين. وكانت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة قد بعثت برسالة لهذه الشركة, مفادها أن بيعها لتلك الجرافات لإسرائيل يُعد إنتهاك لحقوق الإنسان.

وفي نيجيريا, ذكرت هيومان رايتس ووتش, أن شركة شل قد تواطأت مع الشرطة والجيش في إنتهاكات حقوق الإنسان, عندما قمعت إحتجاجات سكان دلتا النيجر علي الآثار البيئية السيئة للتنقيب عن النفط فيها. وكانت دلتا النيجر عذراء ثم تلوثت المياه والزراعة والغابات فيها بعد التنقيب. ورغم إعدام الحكومة النيجيرية للمهتم بالبيئة, كين سارو عام 1995, إلا أن الحكومة الأمريكية واصلت علاقتها الوطيدة بجكومة نيجيريا للمصالح النفطية.

وفي الهند, لم تراع شركة يونيون كاربايد معايير السلامة المتبعة في الغرب. لذا, حدثت كارثة عام 1984 في مدينة بوبال التي مات فيها 11 ألف نتيجة تسرب الغاز السام. ولم تقتصر آثارها علي البشر فقط إنما شملت المياه والزراعة أيضا. في تلك الكارثة, إنتهكت يونيون كاربايد إثنين من حقوق الإنسان هما حق الإنسان في الحياة وحقه في بيئة نظيفة, لأن التمتع ببيئة نظيفة وصحية حق من حقوق الإنسان. ولما طلبت الحكومة الهندية من رصيفتها الأمريكية تسليمها مدير الشركة بناءً علي قرار المحكمة بتهمة القتل الجماعي, رفضت الأخيرة رغم وجود إتفاقية تبادل المجرمين بين الدولتين.

كما أن شركة نستل السويسرية قد إنتهكت حق الإنسان في الحياة, عندما تسببت منتجاتها في وفاة مليون ونصف شخص خلال الثمانينات, لأنها أدخلت مواد معدلة جينياً في تلك المنتجات. وفي عام 2005, كشف روميو مونالا, قائد عمال شركة نستيل في كلومبيا, أن نستيل قد أدخلت حليب منتهي الصلاحية في منتجاتها. وعلي آثر ذلك ضلعت نستيل في إغتياله بوسطة مليشيات محلية. وكانت شيفرون وكوكا كولا قد ضلعتا, بصورة غير مباشرة, في عملية إغتيال لقادة الإتحادات العمالية في أمريكا اللاتينية والفلبين, لأنهم عملوا علي نشر الوعي بالحقوق العمالية.

وتعمل تلك الشركات في الدول النامية علي التأثير في البِني السياسية والإقتصادية والثقافية, مما يشكِّل خطر علي الأمن القومي في حالات كثيرة. إن إصرار الدول العربية, لا سيما النفطية, علي الإرتباط الأحادي بالإقتصاد الغربي وبتلك الشركات لا مُبرر له. وذلك لأن الخبرة والتكنلوجيا متوفرة أيضاً لدي شركات روسية وصينية وهندية لا تسعي للتأثير علي البِني المحلية. ومن ناحية أخري, فليس هناك معاملة بالمثل من قِبل أمريكا, لأنها, رغم إدعاءها لمبدأ التجارة الحرة, فقد منعت شركة الموانئ الأماراتية من الإستثمار في الموانئ الأمريكية عام 2006.