في ذكرى تأسيس الكيان الصهيوني.. المأساة الفلسطينية لا تزال مستمرة


ابراهيم حجازين
2010 / 4 / 18 - 21:01     

لا تزال القضية الفلسطينية تشكل لب الصراع في المنطقة حتى مع محاولات التعمية وذر الرماد بالعيون والتي تهدف الى فك عرى هذا الصراع بمجريات التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المنطفة من بقائها متخلفة ممزقة تعيش شعوبها في ظل احتلالات متعددة الشكل والمستويات والالوان، ويلحقه عمل حثيث لمزيد من التمزيق للكيانات القائمة ووضعها تحت نفوذ وهيمنة قوى خارجية بالاضافة لوجود انظمة دكتاتورية اتوقراطية ترى في شعوبها مجرد رعية محرومة من ابسط الحقوق التي طورها المجتمع الانساني في العقود الماضية، واصبحت عنوانا للكرامة الانسانية المفقودة على هذه الارض.
تسعى "اسرائيل" اليوم لإستكمال مشروعها في فلسطين بالتهويد النهائي للارض وطرد السكان الفلسطينيين من اراضيهم والسيطرة على القدس والاستيلاء على المقدسات العربية الإسلامية والمسيحية، خاصة بعد فشلها في إيجاد ولو مجرد حجر قديم يثبت احقية تاريخية لوجودها الاسطوري على الارض العربية، وهي كذلك تقذف بعرض الحائط بالعملية السلمية التى خدمتها طوال المرحلة السابقة لاختراق المجتمعات العربية وبناء قاعدة اجتماعية وثقافية وامنية لمشروعها الصهيوني وإقامة تحالفات متينة مع قوى متنفذة في المنطقة عن طريق التطبيع السياسي والاقتصادي، الذي سيشكل في المستقبل إن نحج ارضية صلبة لإستكمال مشروعها لتصبح القوة المهيمنة المنطقة في ظل صراع القوى الاقليمية للانفراد في الاستحواذ على المنطقة مع التغيرات الدولية الحالية وغياب الرؤية العربية الاستراتيجية للاوضاع وغياب الارادة السياسية او قل حالة الخنوع والاستلاب العربي.
من هنا اصبح من اللازم استعادة الرواية والرؤيا الحقيقية للمشروع الاستعماري والصهيوني لعلنا ننفض عنا الوهم الذي تلبسنا طوال مرحلة الاستضباع السلمية وغير السلمية طوال ما يزيد عن عقدين ونيف الماضية. ولهذا اخترت مرحلة العشرينيات لنرى بداية تطبيق المشروع الصهيوني.
منذ بدء مرحلة الانتداب البريطاني عكفت الإدارة الاستعمارية البريطانية متعاونة مع الوكالة اليهودية (الاداة التنفبذية للحركة الصهيوينة) على إجراء تغيرات ديمغرافية واقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة في فلسطين لإقامة دولة لليهود فيها.فبدأت عملية منظمة أدت إلى تغيرات ديمغرافية واجتماعية -اقتصادية وضعت قواعد وأسس نجاح المشروع الصهيوني في فلسطين.
بعد الحرب العالمية الأولى سقطت فلسطين تحت الاحتلال البريطاني، هذا الاحتلال الذي اكتسب صفة شرعية كإدارة انتدابية بغطاء أممي بإصدار عصبة الأمم قراراها الخاص بذلك عام 1922.
وفي محاولاتها لتوطيد مواقعها في المنطقة في ظل التنافس الاستعماري المحتدم بين الدول الاستعمارية، اوجدت الإمبريالية البريطانية وخلقت الاداة التي سيقوم عليها وجودها الاستعماري وهي الحركة الصهيونية التي نبتت فكرتها واختمرت في الدوائر الاستعمارية البريطانية واعتمد ذلك على أيديولوجية دينية مغرقة في عنصريتها ورجعيتها بحيث اصبحت استعادة اساطير الخروج العبرانية طقسا إيمانيا للكنائس الانجليزية بعد انفصالها عن كنيسة روما الكاثوليكية. وكانت بريطانيا تحقق هدفين غي آن واحد، تتخلص من اليهود الذين هجروا اوروبا الشرقية هربا من المذابح ضدهم هناك واصبحوا عبئا عليها، كما انها تستعملهم لوضع أسس مشاريعها الاستعمارية في المنطقة العربية، التي كانت تحت حكم الرجل المريض فيما عرف بالمسألة الشرقية. وسرعان ما تلقف اليهود المندمجين في المجتمعات الغربية وخاصة في بريطانيا الفكرة ودعموا تنفيذها خاصة وانهم يستفيدوا من حركة الاستعمار وينزاح عن كاهلهم عبء اليهود الفارين من الشرق.وانحاز زعماء اليهود المهاجرين الى هذه الفكرة بعد ان كانوا يرون في العودة الى صهيون مجرد عودة روحية.
وكان كامبل بنرمان رئيس الوزراء البريطاني قد اعلن خطته منذ عام 1907 بزرع كيان غريب في وسط البلاد العربية فلسطين. وقبيل نهاية الحرب العالمية الأولى كانت لندن قد أعلنت من خلال وزير خارجيتها اللورد آرثر بلفور للحركة الصهيونية، حيث اعلن: أن الحكومة البريطانية "تنظر بعين العطف لتأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وستقدم كل جهدها لتحقيق هذا الهدف".
من جهتها أعلنت الحركة الصهيونية التي تدرك المصالح والمخططات البريطانية في البلاد العربية استعدادها للقيام بدور الحليف والخادم لهذه المصالح والسياسات في المنطقة. في هذا الصدد يعلن ماكس نوردو أحد قادة الحركة الصهيونية عام 1919 أمام لويد جورج وآرثر بلفور "نحن نعرف ماذا تتوقعون منا-تريدون أن نقوم بحراسة قناة السويس...نحن مستعدين لذلك، لكن من الضروري أن نمتلك القوة اللازمة لتنفيذ هذه المهمة".
الجانبين كانا على اتفاق إذن أن يوحدا قوتهما في عمل مشترك في فلسطين. السياسيون البريطانيون كانوا يدركون أن مشروع الحركة الصهيونية لمستقبل فلسطين يساعد في تحقيق المصالح البريطانية ويشكل أرضية دائمة لخدمتها، وفي المقابل فإن الحركة الصهيونية كانت تعي أن مشروعها استعماري في جوهره يمثل جزء من النشاط التوسعي الأوروبي بهدف السيطرة والهيمنة في تلك المنطقة التي أطلقوا عليها مسمَى الشرق الأوسط، .
على هذا الأساس بدأت بريطانيا بتنفيذ برنامجها بالتعاون مع الحركة الصهيونية.الهدف في البداية كان العمل على جذب اليهود المنتشرين في أوروبا مستخدمين سياسات متعددة الأوجه، لكن جلها يستند إلى شعارات أيديولوجية عنصرية ودينية مثل التأكيد على "وجود أمة عبرية عالمية" وأسطورة "أرض الميعاد" واستخدام الوسائل الدعائية التي تفيد "بأبدية العداء للسامية".في الجوهر فإن "معاداة السامية"والصهيونية تستند إلى نفس المقولة الأيديولوجية العنصرية والتي تصر على استثنائية العبريين في التاريخ. كما بين ذلك بكل دقة ووضوح المفكر السوفيتي "ددياني" في كتابه "نقد أيديولوجية وسياسة الاشتراكية الصهيونية".
بدأت الحركة الصهيونية تحقيق هدفها في فلسطين بوضع أسس دولتها المنشودة وبالتالي تحولت فلسطين إلى مسرح لصراع وصدام ثلاثة قوى:الاستعمار الإنجليزي المتحالف مع الحركة الصهيونية من جهة والحركة الوطنية الفلسطينية والتي مثلت توجه الشعب الفلسطيني ورغبته في التحرر والاستقلال.
عملت الحركة الصهيونية ومنظماتها المختلفة وخاصة قيادتها التنفيذية (الوكالة اليهودية )على تهجير اليهود من بلدانهم الأصلية وخاصة الأوروبية إلى فلسطين، وتوفير الظروف المعيشية المشجعة لهجرتهم، لذلك عمل الصهاينة على رفع وتطبيق شعارات "احتلال مواقع العمل" وتطبيق سياسة "العمل العبري" والاستيلاء على الارض واللذان يعنيان طرد العمال العرب من المؤسسات واماكن العمل والمصانع العبرية وإحلال المهاجرين في أماكنهم. أما فيما يخص الأراضي الفلسطينية فجرى اعتماد سياسة شراء الأراضي من الملاكين الكبار والسيطرة عليها بأية طريقة وطرد الفلاحين العرب منها وهي التي كانت وسيلتهم الوحيدة للعيش.
هذه الممارسات أدت إلى تغيرات واضحة في البلاد خلال سنوات العشرينات،فحتى عام 1922 كانت الحركة الصهيونية قد نجحت في أن تستقدم إلى فلسطين كمهاجرين حوالي 93الف شخص فإن عدد الذين هاجروا ارتفع إلى 164الف مهاجر صهيوني عام 1929 وفي نفس الفترة ارتفع عدد سكان فلسطين العرب من 660ألف إلى 757ألف .كان السبب في الارتفاع السريع للمهاجرين اليهود هو قدرة الحركة الصهيونية على جذبهم لفلسطين وتوفير العمل والأرض لهم. هذا الواقع يتكشف من حقيقة أنه في الفترة ما بين سنوات 1922- 1927 نما حجم ملكية المنظمات الصهيونية من الأراضي من 594ألف دونم إلى 903ألف دونم، على حساب ملكية الفلسطينيين لأراضيهم.
التغيرات المشار إليها أدت إلى تدهور الأوضاع المعيشية للأكثرية المطلقة من الشعب العربي الفلسطيني وبالتالي بدأ يرتبط ويتبلور في وعيهم خطورة هؤلاء المهاجرين الأجانب ومخططات الحركة الصهيونية على أوضاعهم المعيشية والخطر على وطنهم فلسطين وهذه حقيقة هامة لأدراك طبيعة الصراع الذي احتدم ولا يزال على أرض فلسطين. أصبح العرب الفلسطينيون يرون أن الخطر يتمثل في أن يصبحوا هم مهجرين في وطنهم وخارجه. والنتيجة الطبيعية لهذه الأوضاع أن نشأ توتر حاد بين المجموعتين:العرب سكان فلسطين والمهاجرين الأجانب إليها والذين ينظر إليهم العرب كأعداء لهم ارتبطوا بسلطات الانتداب الاستعمارية ومخططاتها العدائية. وكان تزايد العداء بين الطرفين يتحول في كثير من الأحيان إلى صدامات عنيفة.
الحركة الصهيونية كانت تقوم بوعي وتخطيط بتغذية هذا المشاعر العدائية وكانت تنظم أعمال ونشاطات بهدف تعزيز الهوة وبناء جدار فاصل بين السكان العرب والمهاجرين إلى إلى فلسطين وذلك للمحافظة على نقاء وانعزال العنصر المهاجر لإنجاح مشروعها. ولتحقيق ذلك عملت الحركة الصهيونية مبكرا ومنذ عام 1920على تشكيل قوة مسلحة (الهاغانا) هدفها المعلن حماية المستعمرات لكنها في الحقيقة والواقع كانت تشارك القوات المسلحة الاستعمارية البريطانية في طرد الفلاحين العرب من الأراضي التي كان يستولي عليها الصهاينة، حيث كانوا يعملون معا على قمع محاولات المقاومة التي كان يبديها الفلاحون الفلسطينيون.
سياسة الحركة الصهيونية هذه كانت تثير العداء والرفض من جانب الفلسطينيين. فمنذ عام1920 بدأت الصدامات بين المهاجرين وبين السكان العرب، التي كانت تكشف عن المصالح المتضاربة بين العرب والصهاينة.في النتيجة كانت السنوات اللاحقة سنوات صدام وصراع مستمر فكانت تتكرر الصدمات وتؤدي بدورها إلى وضع الأساس لصدام جديد. الصدام الأكبر كان عام 1929 (ثورة البراق) والسبب المباشر للصدام كانت محاولات الصهاينة الاستيلاء على حائط البراق وتهويده، وأثبتت التحقيقات اللاحقة أحقية العرب في ملكيته، لكن الأسباب الكامنة للخطة الصهيوينة تتمثل في تطبيق المشروع الصهيوني. وفي هذا المجال يشير تقرير لجنة التحقيق التي شكلتها لندن للبحث في أسباب الثورة تلك ، أن عدد الفقراء من الفلاحين الفلسطينيين المشردين من اراضيهم قد وصل إلى 29,4% كنتيجة لسياسة الاستيلاء على الأرض من جانب الحركة الصهيونية وفي هذا نجد أسباب زيادة حدة التوتر والصراع في البلاد.
نتج عن أحداث عام 1929 عدد كبير من الضحايا، فحسب المعطيات الرسمية القتلى من اليهود كانوا 133 والجرحى 339 أما في الجانب العربي فعدد الضحايا كانوا حوالي 116 والجرحى 232 شخص.الأرقام المشار إليها تشير أن الصراع بين العرب والهاجرين قد وصل إلى العداء المكشوف .
إن أسباب هذا الوضع تكمن في ساسة وممارسة الحركة الصهيونية وسلطات الانتداب البريطاني. فالسكان العرب الذين كانوا ضحايا المشروع الصهيوني رأوا في المهاجرين أدوات تحقيق هذا المشروع. وكان لطابع العلاقات الإقطاعية وشبه الإقطاعي المهيمنة في فلسطين دورا في التأثير على قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية ورؤيتها المبنية على أساس ديني، فرأت في المهاجرين العدو الرئيسي، بينما انتهجت سياسة مهادنة مع سلطات الانتداب.أي أنها أخطأت في صياغة موقفها من التناقص والعدو الرئيس في تلك المرحلة. ويبدو ان هذا كان قدر القيادات الفلسطينية التي كانت تركز العداء للفرع مع ضرورة ذلك لكنها كانت تترك الاصل او تحاول تحييده او ان تنصبه في موقع الحم النزيه.
أما قوات الاحتلال البريطاني فكان من مصلحتها توتير العداء على أساس ديني من خلال تطبيق "سياسة فرق تسد" مما يساعدها في أن تكون خارج دائرة مركز عداء الجماهير العربية ويوفر مزيد من الذرائع لاستمرار هيمنتها على البلاد.لذا اهتمت السلطات الانتدابية في الدفع لزيادة الصدام بين العرب واليهود وذلك بتعزيز توجهات بعض القيادات التقليدية العربية. واستخدمت سلطات الانتداب لهذا الهدف التناقضات القائمة بين الأسر الإقطاعية في البلاد، خاصة بين أكبر عائلين مؤثرتين ( الحسيني والنشاشيبي ).العائلة الأولى تملك مواقع مؤثرة في المجلس الإسلامي وبين الفلاحين ولذلك كانت الأقل تهادنا مع الانتداب وأكثر عداءا للحركة الصهيونية بينما العائلة الأخرى ذات النفوذ في بلدية القدس وبين التجار فكانت ذات نزعات متهادنة مع سلطات الانتداب وما يترتب على ذلك من صلات مع المنظمات الصهيونية. وهكذا في الحركة الوطنية الفلسطينية في هذه المرحلة سيطر تياران:تميز الأول بتوجهه نحو استخدام االايديولوجية الدينية في صراعه مع الخصوم وموضوعيا لم يكن يملك أي خيار أخر في ظل تأخر البنية الاجتماعية والثقافية والتعليمية للمجتمع الفلسطيني آنذاك. وهذا استفاد منه موضوعيا الاستعمار البريطاني الذي سعى بكافة السبل ليظهر نفسه خارج دائرة أعداء الشعب الفلسطيني على أساس أن الصراع ديني بحت وليس مشروعا استعماريا بريطانيا. بينما كان الاتجاه الثاني شيئا فشيئا يصبح ممثلا لنزعة التهادن والتعاون مع الاستعمار وسياساته.هذا الأمر كان له تأثيره الحاسم على دور الحركة الوطنية الفلسطينية والقصور الفكري والسياسي الذي لازمها منذ مرحلة التأسيس وانعكس على مجمل النضال الفلسطيني ومصير الشعب الفلسطيني نفسه حتى الآن.
الوهم الذي ساد في الاوساط العربية بامكانية تواجد سلمي "لإسرائيل" سلمية طبيعية ليس له ارضية موضوعية في الواقع فلا تزال الاستراتيجية الامريكية هي نفسها التي صاغها رئيس الوزراء البريطاني عام 1907 بالعمل على تمزيق الوطن العربي وإبقائه متخلفا، لأنهم يدركون إن رفعوا أيديهم عن بلادنا، فإنها قادرة على ان تخطط طريقا يختلف عما هو قائم الآن.