بخفة الورقة او أقل


رياض الأسدي
2010 / 3 / 29 - 12:49     

بالنسبة لي لم أعد رجلا ورقيا عابرا بينكم مصنوعا من ورق كرتون, بل أصبحت ورق مختبر شفاف. يمكنك أن ترى أجزائي الداخلية بعد التعري ناتئة. فقد قضيت قسما كبيرا من حياتي في السجون والسجون الصحراوية والمعتقلات ودور الحجز ولأسباب ورقية دائما : لصق بيان سياسي, حيازة كتب ممنوعة, الاحتفاظ بجريدة سرية، كتابة تقارير ورقية ضدي من أناس لا أعرفهم.. ورق.. ورق.. خفّ وزني على نحو مريب. لكني بعد خروجي من السجن - بقدرة قادر- أخيرا لم أعد أهتم لكلّ ما كان ليس لأني إنسان ورقي وهش, بل لرغبتي في الخفة حتى عددته شيئا لا معنى له: مثل كتب قديمة لم تعد صالحة للقراءة؛ فلا البروليتاريا انتصرت في العالم, ولا حزبنا امسك بالسلطة, ولا الفقراء نالوا ما يتمنون ولا امتلأت الأرض قسطا وعدلا,, لا زال الوحش رابضا هناك؛ والجميع سيقوا إلى حروب متواصلة وحصارات رهيبة حتى خفّ وزنهم وطاروا بعيدا. بعض من أعرف نجا بجلده, هاجر, لحمة وطفرت من قدر فائر, أما أنا فلم احظ بطريق للهرب من البلاد. فشلت. بقيت انتظر الخفة المتناهية. آخر مرة القي عليّ القبض وأنا أحاول اجتياز الحدود إلى الأردن أودعت عاما ونصف في مختلف الدوائر الأمنية حتى أفرج عني من أبي غريب. خف وزني كثيرا ولم يعد يعرفني حتى المقربين مني. خشي الحراس من أن ارتفع في الهواء بعد هبة ريح قوية, فزنجلوني في جميع الأيام العاصفة. وفي (جمهورية العزاب) تلك كنت أمين مكتبة السجن : يعني ورق في ورق. قرأت كثيرا من البلادات الورقية هناك.
منذ خمسين عاما وأنا أقرا الكتب. كلّ الكتب تشربتني تقريبا. قرأت معظم كتب التاريخ والسياسة والاقتصاد والقانون حتى حفظت المواد عن ظهر قلب : من قانون العقوبات البغدادي إلى آخر قرار لمجلس قيادة الثورة في جريدة (الوقائع العراقية) حتى أصبحت مرجعا لكثير من المحامين, وهم, مالت الله! لا يبخلون علي بتلك الآلاف القليلة الرائعة بعد كلّ استشارة, والخيّر ومدة يده. لكني في المدة الأخيرة شرعت أقرأ بعض الكتب المستنسخة فهي - كما يبدو- كلّ ما تبقى لي من هذا العالم المليء بالسطور المتقاربة, تحت شمس تموز وبرد كانون.
وحينما بدأت العمل كاتب عرائض بباب المحكمة الشرعية من اجل كسب قوت يومي ازدادت الخفة كثيرا حتى ناداني بعضهم خفيفا للتحبب. فليس ثمة مهنة يمكنني أجادتها غير كتابة العرائض: جاسم الخطاط - هذا أسمي الله يكرّم- يعرف خطي جميع القضاة والموظفين والمدعين العامين وحتى بعض المراجعين. خط لوز. ثم اجتهدت في تقديم الاستشارات القانونية المجانية أخيرا رغم إني لم احصل إلا على الابتدائية الملكية القديمة. وغالبا ما يناديني القضاة ب(أستاذ) لمعرفتهم بقدراتي القانونية حتى أصبحت محسودا من زملائي كتاب العرائض. وما أن تشكُل عليهم مسألة حتى ينادوني : أستاذ خفيف عيوني هاي الشغلة شلون نعالجها؟ ليجد المراجع جوابا شافيا. إلى أن جاءني احدهم قائلا: قم! شكو؟ السيد المدير يريدك.. زنجلت الكرسي وطاولة الحديد اللتين هما كلّ ما املكه في هذا البلد وسرت بالقرب منه وهو يمسك يدي بتلك الطريقة التشبيكية المعروفة في عقف الساعد, يد هلامية ولا عظم فيها.. يتبعه اثنان من زملائه يشبان شخصيات في أفلام كرتون. ثم القوا بي في الحوض الخلفي لبيكب مسكربه جاؤا بسائقها "سخرة" حيث قيّدت بواسطة جامعة إلى درابزين السيارة. وضعوا (الجامعة) حتى آخر حبة.. وقال من فعل ذلك : لك أنت ما تأكل؟ هيكل عظمي.. كان معي كثيرون من الورقيين أمثالي – أعرفهم!- لكني لم أستطع تمييزهم لأن الشمس مالت إلى الاختفاء وراء سحب ترابية وردية. ثم تحركت السيارة أخيرا بعد أن القي فيها احد المشردين الذي ما أن رآني حتى شرع بالضحك وهو يكرر : وررق وررق وررق! كصوت ضفدع.. لم أهتم كعادتي في السنوات الأخيرة.
- هآآ شلونك أستاذ! جاسم؟
- زين سيدي, عايش
- أحنه نعرف عنك كلّ شيء.. أنت بطلت..مو.. بس قالوا لازم تكتب تعهد جديد.
- مو كتبت مائة تعهد سابق يا سيدي
- لا لا هذا مطلوب للتأكيد!
- أكتب ليش لا..
- وأي واحد يتصل بك تخبرنا..
- سيدي منو يتصل, صرنا شياب!
- بيكم كل البله.. ما تنظفون!
وكان كلّ ما حظيت به في تلك المقابلة لضابط المتابعة هو رؤية ذلك المتشرد وهو يقف منتحيا جانبا. كان لا يزال يضحك وهو بذلك الصوت: وررق وررق وررق.. فصفعه المفوض بقوة قائلا : " لك سعيد هاي الحركات مو علينا!" قفز أسم سعيد إلى رأسي فجأة.. اجل هو هو سعيد فندي سعيد مسؤولي السابق في الحزب الذي قيل عنه أنه أعدم.. هووووو كان يجلس مقرفصا مثل كلب هرم مبلل في نهاية الممر: سعيد نفسه.. أخيرا. لكنه بثياب متشرد. عرفت الآن لم ضحك بتلك الطريقة.. وقال الرجل الذي اقتادني إلى البوابة الرئيسة: يقول السيد الضابط خليك على هذي الطريقة حتى تبقى عايش! ولّي!! ومعها صفعة قوية خلف الرقبة. سقطت على الأرض. سرحت بعيدا. أصبح جسدي مستويا : فلم كارتون. غير مهم.
غيرت أسمي وشكلي وطريقة لبسي وحتى أفكاري.. لم اعد مفيدا بأي شيء لنفسي.. أريدهم أن ينسوني نهائيا. لكن من يستطيع ذلك؟ كيف أقنعهم إني صرت أليفا؟ لا يسار ولا يسار متطرف ولا ديالكتيكية ولا تاريخية ولا يحزنون.. صعب .. صعب.. ثم بدأت أهيئ نفسي بقوة كي أرى سعيد من جديد في أي مكان من هذه المدينة الواسعة حتى بدأت أرفع رأسي لمعرفة الآتين والغادين تاركا عادتي الأثيرة في طأطأة الرأس الدائمة. ترى أين يمكنني رؤيته ثانية ذلك الورقي القديم؟ وما فائدة كلّ تلك العذابات القديمة؟ الشيء الوحيد الذي بقي ملازما لي هو قراءة الكتب إضافة لتلك المهمة الجديدة في الالتقاء بسعيد فندي.. ترى هل لا زال يقرأ سعيد الكتب مثلي؟ هو الذي فسّر لي كل العبارات الغامضة. قرأت كلّ الكتب تقريبا لكني لما أقرأ سعيد جيدا. لم يعدم هذا أحسن خبر.. في السابق كنت أقرأ لأثقف نفسي حزبيا كما كان يفعل سعيد تماما؛ لكني الآن أقرأ للمتعة فقط. عادة سيئة لم تورث إلا الوعي والسجن والتعذيب وضياع المستقبل في كل الأحوال. أما سعيد فقد كان رجلا معرفيا واسعا تخرج من جامعة لوممبا. بيد إني لم أعد مهتما بنوع الكتب التي أقرأها الآن : دينية, سياسية, اقتصادية، حياة فنانات, تاريخ, فلسفة, مجلات جنسية .. يمكنكم أن تعلموا إني التهم كلّ شيء كماكينة طباعة قديمة بلا هدف. يعود سبب ذلك إلى مكان نومي؛ فقد تعطف عليّ صديق بائع كتب مستعملة, كان مسجونا معي عام 1963 وسمح لي أن أنام في دكانه الصغير في سوق السراي مقابل مبلغ بسيط - أغلس عنه أحيانا- شرط أن أغادر المحل صباحا بعد ترتيب الكتب ولا أعود إليه إلا بعد العشاء حيث بدأت الصلاة في جامع الخلفاء القريب. وفي الصلاة أشاهد أشياء كثيرة وأطير إلى أماكن بعيدة. أصلي وحدي رغبة في الطيران.
قال لي صاحبي المكتبجي ذات مرة: "سبحان الله لا ولد لك ولا تلد وما زلت تقرأ؟ هل تريد أن تكون كارل ماركس؟" قلت ضاحكا: " لا أخويا لا, يا ماركس يا طركاعه, ماذا حصدنا؟" ولم نجر بعد ذلك إلا نقاشات قليلة حول الموضوع. بالنسبة لي في هذه السنوات الاخيرة كنت أحب الكتب الواضحة, السلسة, والمطبوعة غالبا لضعف بصري. لم اعد ارغب بكتب الفكر التي دأبت على قرأتها أيام زمان. لكن كانت كتب (الاستنساخ)(*) تثيرني جدا لأنها تحتوي على أفكار وأسماء وشروح ومصطلحات لم أسمع بها من قبل أيضا. ثم بقي سعيد يقضّ مضجعي, يطاردني. وبعد أشهر من البحث عنه في مواطن المشردين وسط المدينة رأيته, هو سعيد, الله, أخيرا, يعبر جسر الشهداء مسرعا مثلما يفعل أيام العمل السري, تماما. كان الوقت شتاء, وبدا الرجل غائما مثل سماء بعيدة, متوحدا, بشعر ابيض كثيف, تكاد الريح أن تطيره, خفّ وزنه كثيرا أيضا, وهو يرتدي بنطال مستهلكات كاوبوي أسود وقمصلة جلد كالحة متهرئة فقدت لونها فبدت بطانتها ظاهرة من الجوانب وقميص أسود متسخ عند الرقبة. سعيد بلحمه ودمه, هو, صديقي الذي عرفته عقودا طويلة, لم يعدموه كما أشيع.. شكرا لله, هاهو صاحبي الودود.
سعيد سعيد سعيد! صرخت من بعيد. كان الجو باردا نوعا ما, بدا سعيد غير مهتم بأي شيء تماما مثل كلّ أولئك المشردين الذين يظهرون في المدينة من حين لآخر. بغداد ولادة للمخابيل, وليس ثمة إحصائية صحيحة في ذلك, لكنها الأكبر بلا شك قياسا إلى سكانها. بغداد هذه تدعى (بستان قريش) أيضا, طركاعه. نظارتاه الباهتتان الصغيرتان نفسيهما مثل كعبي استكان عتيق, وشعره القطني المتشعث المتطاير ولحيته الكثة، وأسنانه التي فقدها في السجن الواحد تلو الآخر. هو هو: كانوا يعطوننا كلابتين صغيرة لقلع أي سن مؤلم.. وكنت أنا طبيبهم طوال سنوات طويلة لأني كنت أعمل حلاقا قبل اعتقالي. سعيد كامل. صديقي الصلب. ها هو يزمّ شفتيه بتلك الطريقة المضحكة من جديد. الفرق الوحيد بينه وبين أي متشرد, هو احتفاظه بقوته الذاتية المعهودة نوعا ما, وصلابته الشهيرة- ربما أتوهم ذلك!- التي داستها أقدام السجانين طويلا حتى استحال إلى كائن آخر.. لكنه لم يكن مختلفا . قال:
- هل تعرف الفرق بيننا وبين هؤلاء السجانين؟
- الإنسان في داخلنا والذئب في داخلهم.
- لا. الخطر الماثل بيننا وبينهم.
- هل نشكل خطرا عليهم؟!
- طبعا. إننا نعذبهم كلما التقت نظراتنا..
- لا افهم..
- لذلك هم يعصبون أعيننا غالبا في التعذيب.
وكذلك سيره بملابس نظيفة نسبيا. لكن نظراته بقيت شائهة : لا يكاد يركز على شيء معين وأنت واقف أمامه. مرّ بالقرب مني تماما. سعيد سعيد. لكنه غادرني لا يلوي على شيء. وتحاشيته على مضض.. أنا نفسي، لم أحاول الالتقاء به بعد إنكاره لي رغم السنين الطويلة التي جمعتنا سواء في معتقلات قصر النهاية والأمن العامة والاستخبارات أو في دهاليز (الحرس القومي) من قبل؛ أصبحنا غرباء جدا. سرت خلفه. تجرأت وقلت له:
- هاي وين ليل؟
- بهلدنيا..
- شنو نسيتني؟ (توقف بغتة)
- أنت منو؟؟
غادر سريعا دون أن يلتفت. انتحيت جانبا ورحت ابكي بصمت. لكنه ومن باب غريب أومأ لي من بعيد.. أن تعال.. عدوت نحوه من جديد قال : هلو! جاسم. حتى لم ارفع يدي ردا لتحيته, كان محاطا بعدد كبير من المريدين الجدد الذين ظهروا فجأة وهم يسيرون هذه المرة إلى جانبه وحوله كأنه ملك.. من أين لملمهم.. لست أدري. متشردون مثله. جميعا. أشرت إلى صدري: أأنا المعني بهذه الحركة الجانبية؟ فأكد لي ذلك ثم صاح: شبيك جاسم تعال!
ـــــــــــــــــــــــــــ
(*) نوع من المطبوعات المستنسخة عن الكتب الأصلية ظهرت في العراق إبان الحصار 1991-2003