الوعي العربي -سؤال في المابعديات-

أحمد شيخ محمد حلب
2004 / 7 / 20 - 06:36     

في محاضرة اقيمت في مكتبة الاسد بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة طرح احد المحاضرين فكرة اثارت انتباهي ، وتتضمن هذه الفكرة أن الوعي الاوربي يفرز دائماً سؤال ( ماذا بعد ؟ ) وأن الوعي العربي لا يستطيع طرح هذا السؤال لانه ما يزال يعيش في مرحلة الماقبليات ، والسؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا لا يفرز الوعي العربي مثل هذا السؤال ؟
وفي حقيقة الأمر أن الوعي العربي يفرز مثل هذه التساؤلات ولكن ضمن مناخ فكري وتاريخي آخر . فمن المعروف أن الوعي الأوربي وبعد التطور التاريخي الذي وصل إليه يفرز تساؤلاته دائماً بصيغة مستقبلية ، حيث تبقى تساؤلاته مثقلة بهم النظر إلى المستقبل، لأن الماضي لا يعني له الكثير إلا بالمقدار الذي يفيد حاضره ويؤسس لمستقبله .
أما المضمون الفعلي للتساؤل العربي فهو ما تطالعنا به وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمكتوبة على مدار اليوم ، وهي ما فتأت منذ أولى هزائمنا أمام عدونا التاريخي في عام 1948 تطرح السؤال تلو السؤال ماذا بعد ؟ ولكن لا يفوتنا أن هذا السؤال مختلف جداً عن نظيره الغربي لأنه سؤال مثقل بهموم الانكسار والهزيمة والضعف .
1967 وماذا بعد ؟ 1982 واحتلال أول عاصمة عربية( بيروت ) من قبل إسرائيل ، وماذا بعد ؟ 2003 واحتلال عاصمة الرشيد ، وماذا بعد ؟ قصف الطائرات الإسرائيلية لعين الصاحب ، وماذا بعد ؟
والتساؤل هنا يمتلك مشروعيته ولكن ما هو الأساس الذي بني عليه وكيف ستكون الاجابة ؟ ولمن يسأل ، ومن سوف يجيب ؟
والمسألة الهامة هنا هي كيف نطرح مثل هذا السؤال بدون أن نقف على الماقبليات ؟ إن الإجابة اكبر من أن تكون محصورة في مقالة صغيرة لأنها توصف الوعي العربي في مواجهة المشكلات التي تطرح عليه .
لقد أجاب الوعي الغربي على مثل هذا التساؤل بصيغة تؤسس للاستفادة من الماضي باعتباره جزء لا يتجزأ من عملية التراكم الحضارية التي مرت بها المجتمعات الغربية ، فطرح سؤال ما قبل الثورة الفرنسية وما بعدها ، وما قبل الإصلاح الديني اللوثري وما بعده ، والمجتمع الماقبل برجوازي والماقبل الرأسمالي والمابعد امبريالي في بداية القرن ، والذي نراه اليوم بصيغة ما بما يسمى العولمة . وبطبيعة الحال فأن الأساس الذي بنيت عليه مثل هذه التساؤلات تمتلك بطبيعة الحال مشروعيتها التاريخية ، وتضمر معاني للتقدم والتطور ، تحمل في طياتها وعلى الدوام بذور لمراحل أكثر تطوراً ولتساؤلات أخرى تطرحها في مواجهة ما يعتري مسيرة تطورها من مشكلات .
ولكن كيف أجاب الوعي العربي على مثل هذه التساؤلات ؟
لقد تبلور الرد من خلال خطابات نخبه الفكرية والمتمثلة بتيارات رئيسية ثلاث ، السلفية الاسلامية والاصولية الماركسية والتيار القومي و بأشكال متعددة ومختلفة ومتباينة فيما بينها . والقاسم المشترك للتيارات السابقة هو في عدم قدرتها على انتاج وعي نقدي مطابق لواقعها تستطيع من خلاله النهوض بمهماتها التاريخية وهذا ما سنحاول إلقاء الضوء عليه في الأسطر التالية.
لقد كان التكور حول الذات والاجترار للماضي ( الذهبي ) سمة وعنوان بالنسبة للتيار السلفي الاسلامي ، فلما افرغت مقولاته الكبرى ( التوحيد – الفتح - الجهاد--) من مضمونها واستنفذت مهمتها التاريخية لم يستطع هذا التيار تخطي نفسه فلجأ إلى الاغراق في التفصيلات الدقيقة للحياة اليومية فجاءت أسئلته عاكسة واقعه بشكل دقيق وكذلك ما بعدياته ( ما قبل الدخول للخلاء ومابعد الخروج منه ، ما قبل الجماع وما بعده ----- الخ ) والذي ألفت ألاف الصفحات بمثل هذه الأمور وعلى امتداد قرون متعددة من الانحطاط العربي الاسلامي في الوقت الذي كانت فيه هذه المجتمعات تتعرض لأعتى الهجمات من القوى الخارجية من مغول ومماليك وعثمانيين ، بالاضافة إلى الاعداء الداخليين من حكام فاسدين ومفسدين . وقد سلحت التيارات السلفية نفسها بوعي ميتافيزيقي دامجة الحاضر بالماضي والواقعي بالمتخيل فرأت في كارثة فلسطين مؤامرة يهودية مازالت منذ أيام النبي محمد والآن قد أتت أكلها ، فجندت نفسها للدفاع عن الله ضد أعداء الله ( اليهود ) وللثأر للأنبياء من قتلة الأنبياء ، ففارقت الحسي والمعقول لترتدي حلة دونكيشوتية متناسية أن صراعها مع عدوها التاريخي ( اليهود ) ليس صراعاً دينياً لاهوتياً ، بل هو صراع حضاري بكل جوانبه. والتفسير الغيبي والميتافيزيقي هو ما يواجه به الخطاب السلفي جميع المستجدات ( ففي المأساة العراقية ما زال القصاص لدم الحسين هو العقاب الذي يناله الشعب العراقي ، ولكن هذه المرة على يد الأمريكان ) . " في اليوم الخامس للعدوان الأمريكي على العراق كان النقاش محتدماً في كلية الشريعة في جامعة دمشق حول سؤال ، فيما إذا قدر للمسلمين فتح الهند فهل تحق الجزية على المجوس وأخذ نسائهم سبايا أم لا ؟"

- القراءة التبسيطية والاختزالية للواقع ، ومحاولة البحث عن حلول لمعضلات الواقع الراهن في الماضي والتسلح بمنطق الثنائيات ( الإسلام و الغرب - الاسلام والحداثة – الإسلام والديمقراطية ---) وضع هذا التيار في الطرف المقابل بالنسبة لمقولات الحداثة ( العلمانية ، الديمقراطية ، التنوير ---- ) ولكن بدلاً من قراءتها بعين الحاضر قام بقراءتها بعين الماضي وبالباسها لبوساً اسلامياً بحيث بدت معظم المقولات الحداثوية مستلهمة من تراثنا ولنا السبق في ابداعها مضموناً ولكن اختلفت التسميات ، فوجدت الديمقراطية أصولها في الشورى والاشتراكية في الزكاة --- الخ

- ولعل الأزمات الكبيرة والتاريخية هي المحك الذي يبرز الدرجة التي وصل اليها المجتمع في ظل انكساراته ، ولنا في هزيمة الـ 67 مثالاً صارخاًُ على هذا الأمر حيث أن أصحاب العود السلفي ( رأى في الهزيمة عقاباً لنا لأننا ضللنا سواء السبيل واعتبرها قدراً لا مهرب منه يتعلم منه المسلمون درساً للعودة إلى صراط السلف الصالح ، الفلاحون المصريون اعتبروها عقاباً على تملكهم أراضي الاقطاعيين ) ، بمثل هذا الوعي قوبلت هزيمة الـ 67 من قبل تيارنا الأنف الذكر ، وهذا بالطبع سوف يؤسس لمرحلة نكوصية ترى في الماضي حالة خلاصية وتعلن أن المشروع الماركسي والقومي هو سبب انهيارنا فكانت الساحة مواتية لهم لطرح ايديولوجيا نكوصية ارتدادية وللإعلان وبشكل قطعي أنها هي حاملة المشروع الحضاري للعالم العربي والاسلامي ، وبالطبع قدمت حلولها المبنية على مثل الوعي السابق الذكر فأخذت تتشدق بمنطق النهايات الكارثية لليهود كما وعدنا الدين الحنيف ، فلننتظر إلى يوم الدين حتى يحسم الأمر على أحسن وجه وكل ما يصيبنا الآن من كوارث على يد هذا العدو ما هو الا اختبار لصبر المؤمنين وامتحان لقوة جلدهم ، و لقد اتخذت من المساجد ساحات لمعاركها ومن الدعاء والاستجداء سلاحاً فتاكاً لمواجهة أعداء الدين، ولكن العبرة في النهاية ( فالحق يعلو ولا يعلى عليه ) .

- أما التيار الثاني الذي كان له دوراً لا يستهان به في صياغة وعينا بذاتنا وبواقعنا فهو التيار التقدمي القومي والذي كان اكثر معاصرة وتقدماً من سابقه إلا أنه لم يكن أقل منه تأزماً ، فلقد حاول أن يضع عيناً على الماضي وتراثه والأخرى على الحاضر وحداثته فجاءت طروحاته تلفيقية ، فلم تستطع أن تقرأ الماضي بوصفه تاريخاً من صنع البشر الذين عاشوه ، فصبغوه بصبغة روحية رومانسية ، ولم تستطع ان تتلقف الحداثة الغربية كفعل تاريخي يعتمد العقلانية والحرية والتنوير فكان وعيها محاولة للي عنق التاريخ والحاضر دون الأخذ بالاعتبار للفسيفساء التي كونت تاريخ هذه الامة والشعوب التي عاشت وتفاعلت معها في نفس البوتقة الحضارية . فالأمة ذات جوهر ثابت متمايز عن باقي الأمم ويتمظهر هذا الجوهر بصيغ لغوية (عند الحصري ) و ( رحمانية ) عند الأرسوزي و أخلاقية ودينية وثقافية تكاد لا تجتمع في غيرنا ، وليس هذا مجال للخوض في الفكر القومي من هذه الزاوية ، وما يهمنا هو كيف تجلى وعي هذا التيار في طرح تساؤلاته المابعدية موضوع هذا البحث !!!
لقد نقل التيار القومي القيادة من يد الله إلى يد زعيم الحزب وأصبحت أقواله وشذراته وهمساته وحتى ايماءاته هي الناموس الجديد الذي تسير وفقه جموع المتحزبين إليه وعادت فكرة المريد للظهور مرة ولكن بشكل يكاد يكون أكثر تنميقاً و أكثر إيغالاً في الاستلاب والقهر .
لقد أصبح سؤاله المابعدياتي مرتكزاً وبشكل أساسي على ما قبل هذا الحزب وما بعده وما قبل هذا الزعيم وما بعده ، فمن الطبيعي أن نرى أن حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق ما قبل صدام حسين هو بالتأكيد غيره فيما بعده ، وليس هذا هو بيت القصيد ، لكن المشكلة الحقيقية هي في الوعي الزائف الذي قدم من قبلها والذي استخف بعقول الجماهير وسفهها في أشد مراحلها تقهقراً في العصر الحديث أي بعد هزيمة الـ 67 وهذا ما عبر عنه ياسين الحافظ بقوله : ( كل محاولة للتهوين من حجم الكارثة جعلتني شديد الادانة لكلبية " أي الوقاحة التي تستهين بالرأي العام وتستغفله " نشرت وانتشرت بعد الهزيمة ، كلبية تقول أن عدوان حزيران فشل لأنه عجز عن اسقاط الأنظمة التقدمية أو أن هزيمة حزيران قد فتحت الباب للشروع بتحرير فلسطين . ولم يتساءل هؤلاء كيف تنهزم أنظمة تقدمية تقود أكثر من أربعين مليون نسمة أمام ثلاثة ملايين يقودهم نظام غير تقدمي ! ولم يتساءل هؤلاء أيضاً فيما إذا كان حزيران مدخلاً لتحرير فلسطين أم تسليماً لبقية فلسطين ؟ )
وما يزيد الطين بلة هو أن هذا النفس المفارق للواقع ما يزال يقض مضجعنا حتى اليوم بمفارقات تزيد من التغييب الحقيقي لشعبنا عن مواجهة واقعه ومنعه من تملك وعي يساعده على تخطي انكساراته ، وقد بدا ذلك واضحاً في المذكرة التي أرسلها الحزب السوري القومي الاجتماعي لمؤتمر القمة العربية المنعقد في بيروت عام 2002 والذي جاء في نصه : ( لقد عبرت الأمة عن براعة في استعمال مكامن قوتها ودقة تصويبها السياسي وأكدت بالملموس أن اسرائيل الكبرى وئدت وأن اسرائيل الوسطى قد تراجعت إلى تخوم الخوف على اسرائيل الصغرى ) . بمثل هذه الرؤية المضللة والبعيدة عن كل ما هو واقعي ينتج الوعي التقدمي في اطروحاته خطاباً رغبوياً ارادوياً لا يراعي حتى أبسط المشاهدات العيانية لما يجري على أرض الواقع ، وقد جاء الرد مباشراً من حكومة شارون على المبادرة السعودية للسلام باجتياح الضفة الغربية والقطاع والذي عبر بكل وضوح على عدم صحة ما ورد في مذكرة الحزب السوري القومي الاجتماعي فاسرائيل الصغرى قد امنت وجودها منذ عقود ونحن الذين ما زلنا نحاول تأمين أراضينا التي احتلت من قبلها ، وأما اسرائيل الوسطى فهي في طريقها إلى ابتلاع ما يمكنها ابتلاعه لتؤسس لاسرائيل الكبرى اذا ما بقيت نخبنا التقدمية تتسلح بمثل هذا الوعي الزائف الذي يغض الطرف عن الجذور العميقة لأزمة واقعنا المترهل .
فالوعي النقدي هو ما افتقرت اليه الايديولوجيا القومية العربية بينما نرى أن التاريخ الغربي الحديث والمعاصر مازال يعتبر النقد سلاحه الأول في مواجهة كافة المعضلات ، فكتب كانط " نقد العقل المحض " و " نقد العقل العملي " وألف ماركس " نقد فلسفة الحقوق عند هيغل "، كما نجد في الولايات المتحدة الأمريكية " السوسيولوجيا النقدية " ، وبهذا فالمابعديات هنا تضمر بشكل ما الحس النقدي لكل جوانب الحياة ، وهذا ما تغاضت عنه التيارات القومية التقدمية ( الفكر التبشيري أو الميتافيزيقي – والفكر الوحدوي من هذا القبيل – يخلق تصورات وتجريدات لا تمثل الواقع ، ومن هذه التصورات والتجريدات ينطلق لمعالجة الواقع بدلاً من اعتماد الواقع في موضوعيته القاسية في عناصره وروابطه المختلفة في تحولاته وتناقضاته في بناء ما يصل إليه من تصورات وتجريدات ، لهذا كان هذا الفكر يحاول فرض تلك المواقف على الواقع بدون أي اعتبار لطبيعته وعناصره ويعمل وكأن الارادة مستقلة عن هذا الواقع الموضوعي ، وتستطيع أي تختار أي طريق أو حل تريده ، ولكن الفكر العلمي الثوري يدرك ان الارادة مشروطة بهذا الواقع وقوانينه ، وأن أثرها فيه يرتبط بإدراكه . إن كل عمل سياسي ثوري قادر أن يقود إلى تحولات جذرية عندما يعمل في اتجاه التاريخ ، ومع العقلانية التي تنظم الظاهرة التي ينطلق منها ، ولكنه يصبح عاجزاً مشلول الفاعلية ، منحرفاً ، متخبطاً، عندما لا يمثل هذه الشروط )
وهنا يمكننا القول بأن الوعي السياسي القومي التقدمي بقي طافياً على السطح فلم يستطع الا أن يتصالح ضمنياً مع الوعي التقليدي ويؤسس عليه مما أدى لفقدان طابعه الجذري تارة ،و انخرط في التدليس مما جعله ناطقاً رسمياً باسم المجتمع القديم ،أي أن ما فعله لم يتعدى تحديث التقليد ، أي البقاء في اطار تحديث شكلي ومظهري.

- أما في الاصولية الماركسية العربية فنحن إزاء دين جديد لا يقل دوغمائية وتزمت عن أي دين، فكان المطلق هو الحاكم في كل ما يعرض عليه من أمور ، حيث أصبح التفسير الطبقاوي هو البارومتر الذي تقاس به الوقائع بكل تعقيداتها ( أولم تفسر هزيمة الـ 67 على أنها نتيجة لتقلد الطبقة البرجوازية لمقاليد الحكم والتحكم بمقدرات الشعوب في دول الطوق ).
فمقولة البلوريتاريا وديكتاتوريتها على سبيل المثال قد أصبحت سيفاً مصلطاً على رقاب كل من تسول له نفسه قراءة الماركسية واقعياً بدلاً من قراءة الواقع ماركسياً ، حيث غدت المقولات التي هي بطبيعة الحال مقولات تاريخية في الفكر الماركسي ، مقولات خارجة عن التاريخ عند معظم أحزابنا الشيوعية ، فكان قسر الواقع ليتناسب مع النظرية بدلاً من تطوير النظرية بما يتناسب مع تطور الواقع هو لب الأزمة في الماركسية العربية " أفليس من الغريب أن يعين بائع عربة مازوت في منصب قيادي في أحد الأحزاب الشيوعية السورية تطبيقاً لسياسة مشاركة الطبقة العاملة في عملية صنع القرار ؟ "
وبحسب تعبير المفكر" فيصل دراج " لقد اخترعت الطبقة العاملة ، واخترع لها حزب واخترعت لها ايديولوجيا ، وهي في واقع الحال غير موجودة ، ومن هنا فقد غاب أي مشروع نهضوي ينتشل المجتمع من واقعه المتردي وغدت الايديولوجيا ستاراً حديدياً حجب الفكر عن مطابقة واقعه ، فلم يكن من بد من البحث عن نموذج ما يعتبر بمثابة قدوة ومثل ، فكان النموذج السوفيتي الستاليني يفي بالغرض ، فبرزت مسألة التنمية كعامل حاسم في التخطيط الاشتراكي على حساب مشكلة النهضة ، فغاب الواقع الحقيقي عن النظر وبدأ العمل فوق المجتمع ومشاكله الحقيقية ، واختزلت مأساتنا إلى البعد الاقتصادي فقط ( استبدلت الماركسية العربية المنظور النهضوي بالمنظور التنموي ، متأثرة بالنزعة التصنيعوية السوفياتية وبنزعة اقتصادوية تتجاهل الأبعاد المجتمعية الأيديولوجية والسياسية للتأخر العربي ، كما تتجاهل عمقه التاريخي المتمثل بالاستبداد الشرقي ، فجمعت في نظرتها المنكرة لمسألة أولوية الثورة القومية الديمقراطية ، بين الميراث التقليدي الأسيوي هذا ، مع الميراث الاوتوقراطي الروسي الذي زركش بماركسية ستالينية متأخرة . فكان المآل أن تجربة التنمية العربية بمنظوراتها التنموية والتصنيعوية لم تثبت ما بعد الحرب الثانية سوى أنها ضرب من محاولة زركشة تحديثية على سطح مجتمع قديم موروث ، فكانت استمراراً للشطارة العربية في جمع المجد من أطرافه القديم والجديد ، القبول بالتقنية الغربية ورفض النظام المعرفي الذي أنتجها " العقلانية – العلم – التقنية – النظرة التحليلية التركيبية – النسبية " هذا الوعي الذي لا يزال منذ محمد علي إلى اليوم ، يطمح إلى قطف ثمار الحداثة ، بدون امتلاك شجرة معرفتها لأنه يجهل حقيقة أن التكنولوجيا ليست إلا مجرد فرع تطبيقي من فروع شجرة المعرفة الغربية ، فالقاع الثقافي والمرتكز الأيديولوجي في عمقهما التاريخي لطائرة الميراج أو الفانتوم أو الميغ مثلاً ، نجدها في فكر " ديكارت – سبينوزا – فولتير – هيغل – ماركس " . وبسبب هذا الانتماء الأيديولوجي ، المفتقر إلى وعي كوني تاريخي حديث ، أصبح لدينا طائرات ولكن لم يصبح لدينا طيران ، أصبح لدينا عسكر ولم تصبح لدينا جيوش ، أصبح لدينا مصانع ولكن لم تصبح لدينا صناعة ، فالوعي العربي اليوم لا يزال يتكور حول نفسه في صيغة نهاجية " أزهرية الأرض متأمركة البنيان " ) .
لقد أصبحت الماركسية ايديولوجيا ، بوصفها معتقداً رسمياً للسلطات القائمة في البلدان المسماة تجاوزاً " اشتراكية " حيث زعمت حكومات متعددة الانتساب اليها وهي في واقع الحال لم تجسد عياناً سلطة البلوريتاريا ولم تخضع لرقابة هذه البلوريتاريا أكثر مما هو الحال في أية حكومة برجوازية ، هذا بالاضافة إلى أن هذه البلوريتاريا لم توجد أصلاً.
إن ثقافة ووعي هذا التيار هي بامتياز ثقافة النموذج " أي أنها لا تستطيع الوقوف على قدميها إلا بتعكزها على نموذج ما " وما أن ينهار هذا النموذج فإنها ستنهار معه مباشرة ، وفي حال كانت أكثر تماسكاً فإنها سوف تحاول البحث عن نموذج آخر تستطيع الاتكاء عليه ، فإنهيار النموذج السوفيتي قد أدى إلى التشتت والضياع لدى الكثيرين من المفكرين الماركسيين فانقلب عدد منهم إلى النموذج الليبرالي الأمريكي المعولم ( ولكن دون الأخذ بالجانب الايجابي للفكر الليبرالي كالديمقراطية والحريات الشخصية --- ) ، أي تم الانتقال من النقيض إلى النقيض ( أوليس هناك الآن من يراهن على البسطار الأميريكي للخروج من أزماته ) .
وهذا ما يظهر الذات العربية بمظهر سلبي ، عاجزة عن اتخاذ أي قرار يخص حاضرها ومستقبلها رابطة مصيرها بمشيئة القوى العظمى ، فالحل والربط بيد مثل هذه القوى " وهذا ما عبر عنه المفكر الفلسطيني عزمي بشارة في توصيفه لمثل هؤلاء بقوله : أنهم انتقلوا من موسكو إلى واشنطن دون أن يمروا بأرض الوطن " .

وبعد هذا الاستعراض السريع للوعي العربي في مواجهة أزماته وفي ألية طرح تساؤلاته وما بعدياته نجد أن هذا الوعي لا يكاد يطابق واقعه ، لأنه لم يتسلح بالنقد العميق للواقع الاجتماعي بكل جوانبه ، مما دعاه للقفز فوقه وعدم الجرأة على مواجهته لأنه لا يملك أي مشروع نهضوي حقيقي قادر على انتشال الأمة من مأزقها، وما قضية فلسطين إلا تكثيف لمدى الضغف الذي وصلت إليه المجتمعات العربية ، وبكلام دقيق لخص رئيس الوزراء الإسرائيلي بن غوريون بعد توقيع اتفاق الهدنة بين العرب واسرائيل عام 1949جوهر الصراع العربي الصهيوني بقوله : ( ان ما تحقق لنا هو نصر تاريخي عظيم للشعب اليهودي كله ، كان أكبر مما تصورناه وتوقعناه . ولكن إذا كنتم تعتقدون أن هذا النصر قد تحقق بفضل عبقرياتكم وذكائكم فإنكم على خطأ كبير . إني أحذركم من مخادعة أنفسكم ، لقد تم لنا ذلك لأن أعدائنا يعيشون حالة مزرية من التفسخ والفساد والانحلال ) هنا بالضبط تبدأ جذور الهزيمة ومن هنا يبدأ الحل وليس بالخطابات الرنانة والتمنيات وبالفكر التبشيري والميتافيزيقي .
وفي النهاية إنهي كما أنهى غسان كنفاني قصته " رجال تحت الشمس " بسؤال ، " لماذا لم تدقوا جدار الخزان ؟ "
أما أن الأوان لكي ندق جدار هذا الخزان الذي بلغت ثخانته حداً لا يطاق ؟

المراجع :
1- الحافظ . ياسين . الهزيمة والايديولوجيا المهزومة . دمشق : دار الحصاد . ط 2 ، 1997 .
2- عيد . عبد الرزاق . أزمة التنوير . دمشق : دار الأهالي ، 1998 .
3- البيطار . نديم . الفكر الوحدوي . مجلة الوحدة . العدد 7 . الرباط ، 1988 .
إعداد :
حلب