عن الإعلام البرجوازي المسيطر المتلاعب بالعقول


فنزويلا الاشتراكية
2010 / 3 / 21 - 21:17     

كانت 15 دقيقة من بدء بث رواية "عالم العوالم" إذاعياً كافيةً لإثارة الهلع بين سكان نيويورك ونيوجيرسي معتقدين بأن الولايات المتحدة الأمريكية يتم اجتياحها من قوى خارجية. كان هذا الحدث الفارق في تاريخ الإذاعة في 30 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1938 عندما قام الممثل والمخرج وكاتب السيناريو والمنتج الأمريكي أورسون ويلس بالتعاون مع مسرح ميركوري بتأدية الرواية المذكورة بنص إذاعي على شكل أخبار عاجلة حول سفن فضائية هزمت القوات الأمريكية الشمالية باستخدام أسلحة خاصة وغازات سامة، وقبل البث أعلنوا وبوضوح أن ما سيتم تأديته هو غير واقعي. ورغم ذلك انهارت مراكز الشرطة بسبب الفوضى التي ازدادت في التطور وأظهرت الهستيريا الجماعية قدرة الإعلام المسيطر خلال 59 دقيقة فقط.

ولا يزال كما كان، نبأ عبر إذاعة أو محطة تلفزيونية أو أسطر في صحيفة ما، وإن كانت لا تمت للواقع بصلة وتخالف أعين المرء نفسه، قادرة على أن تصيبه بفوضى ذهنية ليصدق ما كان يعلم علم اليقين بأنه ليس قائماً. ولذلك وفي 27 يونيو (حزيران) من عام 1818 صدرت للمرة الأولى صحيفة أورينوكو بوست للتبليغ عن الإنجازات السياسية والعسكرية التي كان يحققها المحرر العظيم سيمون بوليفار لمواجهة الأكاذيب التي كانت تلفقها في حينه صحيفة عميلة تابعة للتاج الاسباني وهي لا غاسيتا دي كركاس، التي كانت تغيّر في الحقائق لأنها تمتلك تأثيراً متمثلاً بأن كلماتها مطبوعة على ورق بأحرف منسقة ومرتبة فحسب.

27 يونيو (حزيران)، هو اليوم الذي اقترح النائب عن الحزب الشيوعي الفنزويلي غارسيا بونسه من معتقله-الذي دخله بتهمة التخطيط لتمرد عسكري-أن يكون يوم الصحفي، ومنذ 1964 وبعد مرور 40 عاماً لا يزال الفنزويليون يحتفلون به. وفي الـ27 من شهر يونيو (حزيران) الماضي خرج آلاف من أنصار الثورة البوليفارية كان على رأسهم صحفيون ضد الإرهاب الإعلامي، مطالبين بنموذج إعلام تشاركي جديد عبر تقوية الإعلام الأهلي البديل. وتزامن مع المسيرة خروج معارضين للثورة في مظاهرة إثر تحديد الحكومة البوليفارية مهلة زمنية للقنوات الإذاعية لتقدم أوراقها لدى السلطات المختصة حتى تظهر أنها تعمل بشكل قانوني ومن أجل تجديد رخص عملها وتسديد ما عليها من نفقات للدولة. وفعلاً، أعلن رئيس وكالة الاتصالات الفنزويلية CONATEL ديوسدادو كابيلو في الأول من شهر أغسطس (آب) عن إغلاق 32 محطة إذاعية خاصة، بفعل امتناعها عن الالتزام بالقوانين التي حددتها الوكالة.
عارض قرار الإغلاق قرابة 200 فنزويلي اجتمعوا أمام مقر الوكالة، ويعود العدد القليل لكون عدداً من وسائل الإعلام الخاصة لا تحظى بتعاطف فنزويلي واسع، فبالإضافة لأنصار الثورة يوجد معارضون آخرون لها لا يصطفون مع المعارضة البرجوازية بشكل مطلق ويعلمون كما يعلم الفنزويليون جميعهم بدور وسائل الإعلام تلك في انقلاب عام 2002 عندما امتنعت عن نقل الأحداث بعد اعتقال الرئيس تشافيز وتابعت بثها للأغاني وأفلام الرسوم المتحركة وأبلغت عن أن سير الحياة يتم بشكل طبيعي ولا شيء خارج عن المألوف في تواطؤ مكشوف مع الانقلابيين، مما أدى لغضب أنصار الثورة منهم ولامتعاض قطاع آخر من الفنزويليين كذلك.

كالعادة، حدث كهذا-بإغلاق بعض قنوات البث الإذاعي-لا يمتلك وقعاً إعلامياً هاماً في دول العالم، إلا أنه حدث في فنزويلا الاشتراكية، لذا فقد تعاطى الإعلام السائد في فنزويلا وخارجها مع المسألة على أنها حالة شاذة وأنها من علائم الحكم المستبد، ولأن، كما ذكرنا أعلاه، الإعلام-بشكل عام-يمتلك مصداقية لا تشكيك فيها لدى الناس فتم تصديق أن ما جرى هو اعتداء على حرية التعبير. والمشكلة الحقيقية عندما يصدّق أنصار الاشتراكية-باختلاف تياراتهم-أن في فنزويلا فعلاً انتقاص من حرية التعبير وتوجه نحو نظام حكم استبدادي، وأن "الثورة بدأت بشكل جيد ولكن انحرفت" وغيرها من العبارات المقولبة لتوصيف حالات و"تجارب" سابقة، وبما أن تكرار هذه العبارات وحده هو ما يمكن أن تقوم به وسائل الإعلام العربية التي غالباً ما تكون تعمل بأجندات موجهة ضد كل ما هو اشتراكي أو لأنها ببساطة لا تمتلك من القدرات ما يمكنها من تغطية واستيعاب كل شيء، تقع الكارثة عندما يردد اليساري-وخاصة الاشتراكي العلمي-ذات العبارات التي ترددها البرجوازيات المحلية ويستخدم نفس التوصيفات للثورة البوليفارية أو لسواها.

بعد إغلاق القنوات الإذاعية تمت مصادرتها ولكن لم يتم تشغليها من قبل الدولة، بل سيتم تسليمها للإعلام البديل الأهلي، غير التابع للبرجوازية أو للحكومة البوليفارية، وطالبت الجمعية الوطنية للإعلام الأهلي الحر والبديل "بتسليم كافة موجات البث التلفزيوني والإذاعي للشعب" ليقوم الفنزويليون العاديون بأنفسهم بتشغيل وسائل إعلامهم وإن مثال تلفزيون أفيلا الناجح الذي يعمل فيه طاقم شاب وجزء كبير منهم من الطلبة-وغيره-يجعل من أنصار الإعلام الأهلي أكثر تمسكاً بمطالبهم بالمزيد من دمقرطة وسائل الإعلام، التي تستبد بها البرجوازية التي تسيطر على أكثر من 90% منها! فالمعضلة ليست بمواجهة البيروقراطية الحكومية في النضال لدمقرطة وسائل الإعلام، بل مواجهة البرجوازية التي لا مجال لمقارنة ما تمتلكه من قدرات إعلامية بتلك التي تمتلكها الحكومة البوليفارية، وإن كانت الأخيرة قد أخرجت للوجود بوصولها للسلطة عدداً من المنابر الإعلامية الديمقراطية فإنها بذات الوقت واجهت حالة منقطعة النظير من توالد تلك البرجوازية التي لا تحترم القوانين المتعلقة بالتشغيل والحصول على رخص للعمل ودفع الضرائب.

يكتب مارك ويسبروت في صحيفة الغارديان البريطانية في 4 أغسطس (آب) تحت عنوان "حرية تعبير؟ فنزويلا تتغلب على الولايات المتحدة" حول تقرير هيومان رايتس واتش الذي انتقد عدم تجديد رخصة قناة RCTV في فنزويلا: ”RCTV فقدت رخصتها بسبب قافلة طويلة من المخالفات التي كانت لتنتهي بملاكها في السجن في الولايات المتحدة، ولا يزال لديها جمهور عن طريق الكايبل.." رغم أن السيد ويسبروت نفسه وقع في خطأ الاعتقاد بأن القناة قد أغلقت، وهي لم تغلق بل لم تجدد رخصتها التي انتهت في حينه، وكما يشير فإن ملاكها لو كانوا في الولايات المتحدة التي يقومون الآن ببث القناة منها لرميوا في السجن. ليس هذا بسبب المخالفات فحسب، بل لدورهم العلني في انقلاب عام 2002، فليس هناك أي دستور في العالم سواء مكتوب أم عرفي يعتبر الانقلاب فعلاً ديمقراطياً أو يعتبر مواجهته تقييداً لحرية التعبير، باستثناء دستور الإعلام الفنزويلي البرجوازي ومن يدور في فلك الأمريكي الشمالي عن قصد أو عن ضعف.

يقول ويسبروت: "في الحقيقة، هنالك إعلام معارض في فنزويلا أكثر من الولايات المتحدة. كما أن هناك نقاش أكبر بكثير بفنزويلا في الإعلام الرئيسي يمكن رؤية ذلك ببساطة بالنظر إلى أكثر وسائل الإعلام أهمية في البلدين. في الولايات المتحدة على سبيل المثال، حتى أكثر المعلقين اليمينيين عدائية لن يقدموا فكرة إعدام الرئيس. لكن غلوبوفيزيون واحدة من أكبر شبكات التلفاز مشاهدة، قدمت برنامجاً حيث قام أحد الضيوف بذلك." وفعلاً كانت الدعوى بشكل صريح لشنق الرئيس تشافيز، وفي إحدى المرات توعد أحدهم بأن يفعل بالرئيس تشافيز كما فعل بموسليني.
ويتابع ويسبروت "لو كان في الولايات المتحدة إعلام كفنزويلا لما كان باستطاعة باراك أوباما أن ينتخب رئيساً أبداً. ذلك لأن غالبية الأمريكيين كانوا ليصدقوا.. أنه مسلم لم يولد في الولايات المتحدة. فكروا بفوكس نيوز والواشنطن تايمز كالغالبية الساحقة من الإعلام الأمريكي، تلك هي الحقيقة في فنزويلا، إلا أن الإعلام أكثر تسييسا وأقل مصداقيةً من أكبر وسائل الإعلام اليمينية الأمريكية." المعارض البرجوازي مانويل روزالس لا يجاوب عندما يسأل عن مئات ملايين الدولارات التي جناها خلال عامين من موقعه كحاكم لولاية سوليا بإشارة واضحة منه بأنه لن يتمكن من تبرير مصادر تلك الأموال بشكل شرعي ومع ذلك فإنه يحصل على تأييد جيد من الفنزويليين قد لا يقل عن 25%، فالإعلام الفنزويلي البرجوازي المسيطر يظهره على أنه الرجل المناضل المتصدي للديكتاتور وهو الآن فار من العدالة يلتجئ في البيرو ولا يمر أسبوع دون أن تجري إحدى وسائل الإعلام البرجوازية مقابلةً معه لأخذ رأيه "المتبصر" في الشؤون الفنزويلية.

"ما الذي يحصل عندما تهدد أكبر وسائل إعلامنا بالدوس على الخط وبأن تصبح لاعباً سياسياً؟" يسأل ويسبروت ويجيب بنفسه "إنهم تقريباً لا يقومون بذلك، لكن في عام 2004 قبل أسبوعين من انتخابات ذلك العام، قررت مجموعة سينكلاير للبث في ماريلاند والتي تمتلك أكبر سلسلة من القنوات التلفزيونية في الولايات المتحدة، قررت بث فيلم يتهم المرشح جون كيري بخيانة معتقلي الولايات المتحدة في فيتنام. 19 سيناتور ديمقراطي أرسلوا رسالة للـFCC للتحقيق، وبعضهم أصدر بيانات علنية تقول إن رخصة المجموعة ستكون في خطر إذا ما أكملت مخططها. وتراجعت سينكلاير ولم تعرض الفيلم." في فنزويلا عندما منعت الحكومة البوليفارية إصدار نتائج استطلاعات رأي قبل فترة وجيزة من أي انتخابات-الفترة بضعة أيام-منعاً للتأثير على سير العملية الانتخابية وعلى الناخبين قامت الدنيا ولم تقعد حرفياً، ولم يشرح أحد ممن قاموا أين التعدي في القانون واكتفوا بمهاجمته ومهاجمة الحكومة من منطلق أن كل ما يأتي منها هو شر. وجيش المايكروفونات وراء البرجوازية يكفي لأن يقنع بذلك دون أي حجة.

الـFCC التي أشار لها السيد ويسبروت تعرف نفسها في موقعها على الإنترنت أن "اللجنة الفيدرالية للاتصالات هي وكالة حكومية أمريكية مستقلة." ويضيف الموقع أنه تم تأسيسها في عام 1934 وهي "مسؤولة عن ضبط الاتصالات الداخلية والدولية عبر الراديو والتلفزيون.." وسواها من وسائل الاتصال. في فنزويلا لا يوجد هكذا شيء، وهذه مشكلة في فنزويلا وليست في الولايات المتحدة، ولأن الحكومة البوليفارية تطلب تصحيح هذه المشكلة فإنه بالنسبة لمحبي اليانكيز لن يكون تصحيحاً كما هو الحال في الولايات المتحدة بل سينسون هذا الجزء الذي يشير إليه إليزار رانغل محرر صحيفة أولتيماس نوتيسياس في قوله: "دستور عام 1961، الذي وافقوا عليه، يضمن حرية التعبير ولكنهم تركوا تقييدات محددة، فجعلوا عقوبات على ما يخالف القانون والبيانات التي تشكل جرائماً." وكان فيه النص التالي: "لا يسمح بالسرية، ولا الحرب الدعائية، ولا تلك التي تهين القيم العامة ولا تلك التي تؤدي لعصيان القوانين."

قد يكون الموضوع أبسط من تناوله حتى، إن من يسمح لمحطاته التلفزيونية بإصدار عبارات عنصرية بطرد الكوبيين وضربهم، أو بسجن التشافيزيين "الحمير" وشنق الرئيس وجر جثته في الشوارع وتعليق المسؤولين البوليفاريين على أعمدة المشانق في الساحات العامة والتفرج على جثامينهم، من يسمح لقنواته ببث هذه العبارات-وتحديداً غلوبوفيزيون-ولا يعتذر حتى عن القبيح الواضح منها، توصيفه واضح، ومن جهة أخرى فإن من يسعى لوضع وسائل الإعلام لا بأيدي الدولة ولا البرجوازية بل بأيدي الإعلام الأهلي الحر من الصعب وصفه بالمستبد، من يتجه نحو المزيد من الديمقراطية وفرض القانون ليس مستبداً ، فالمستبد هو من يخرج على القوانين ويحكم رغماً عنها وليس العكس.

الإعلام البرجوازي المسيطر في فنزويلا، وبالتالي في خارجها، هو القادر على تحديد صورة الواقع الفنزويلي حتى بالنسبة لجزء كبير جداً من الفنزويليين بسبب قدرته على التلاعب بالعقول، علينا أن نتذكر موقعه الطبقي، وأن نتذكر أن كل وسيلة إعلام تنقل نبأ من فنزويلا لديها بعد ما، وأن نتذكر مدى الاحترافية التي تمتلكها وسائل الإعلام العربية خاصةً عندما يكون عنوان إخباري فيها هو نفسه مقتبس حرفياً من الأسوشيتد برس، هذه الأخيرة بدورها لا يدعي مراسلوها في كاركاس الحياد في نقلهم للخبر، وإن كاتباً بيروفياً معادياً للـ"تشافيزية" يكون في الأسوشيتد برس حائزاً على جائزة نوبل لتحصل شتائمه للرئيس تشافيز على أهمية ومن بعد أسبوع أو أكثر يصدر التصحيح من الوكالة ذاتها بأنه ليس حائزاً على هكذا جوائز.

هي مشكلة عندما نشكك في كل حرف نقرأه أو نسمعه، ولكنها مصيبة أن نصدق كل ما يعرض علينا، ولأننا اشتراكيون علميون وثوريون، فمن الأفضل لنا أن نلتزم بمنهج علمي للتقييم ليس بالإمكان تناوله الآن، ولكن يمكننا أن نبدأ بألا نصدق كل ما نسمع.