الحالة المفترى عليها..!!


رداد السلامي
2010 / 3 / 20 - 08:24     

منذ متى وأنت تتجرع هذا البؤس ، سأله صديقه ، فأجاب منذ نشأتي الأولى وميلادي الأول حين خرجت من بطن أم هي الأخرى تشبه مريم..!!

كان عليه أن يكابد كل هذا التكوين الهزيل الذي يغزو جسده ، كان عقله يكبر لكنه يمتص الكثير من لحمه ، الأمر الذي أحاله إلى أشبه بريشة في مهب الريح .

ذاق مرارة الحرمان ، وقاسى في دروبه ، لم يجد قلبا يحتويه منذ أن بدأ يشعر بالوحدة في زمن يستوحش فيه من يحتفظ بإنسانيته وسط هذا التوحش المنفلت وراء الربح والتجارة والتنافس المحموم الذي تغدو معه القيم الإنسانية هباء.

مدهوس على طريقة الأثرياء ، ومقصي دوما يلوذ بركن تجلياته المؤلمة ،هناك حيث يحصي مآسيه التي لا تنتهي ، قال يقلب بعض أوجاعه يا صديقي يؤلمني أن أجد ذاتي مجرد بقايا إنسان رمته الحياة إلى شواطئها المحزنة ، منكسر مأسور ينسدل كالليل في فراغ المتاهة الكبيرة، تلسعه أحاسيس الضياع ، ويذوده الأمل نحو مرافئه التي ما أن يأتيها حتى يجدها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، أن تحيا فقير شيء مؤلم ، أن تفقد الثقة في إن الحياة ربما تحنو عليك يوما بشيء منها تمنيته مؤلم حد الوجع ، أن يسيطر عليك الخوف والجوع ثنائية قريش المرعبة مؤلم أيضا ، أن يعتدي عليك فيكون الفاعل مجهولا لا تدريه ولا تدري أسبابه شيء مؤلم .

لكن صديقه أراد أن يلطف أجواء توتره ، وهو يسهب في سرد مآسيه ومخاوفه ، يا صديقي أنت تسيطر عليك حالة ما في ذاتك ، ربما تحتاج إلى طبيب نفساني كي يؤكد لك أن ما تتحدث عنه مجرد مخاوف وأوهام ، ابتسم بامتعاض بعد أن عض شفتيه ، قال له لا الأمر ليس كما تظن ، وإن كنت لا استطيع أن أبريء نفسي مما تقول ، هناك ما يؤكد أن الحالة التي تتحدث عنها هي مجرد حيلة يخترعها من تجابه ظلمهم وهذا البؤس الذي تراه أمامك ماثلا صنعوه ثم حين تحدث الجوعى والبؤساء عن مظالمهم قالوا مرضى نفسيين .

أترى كيف يخترع الظلمة والقتلة لغة خاصة بهم يعممونها حتى في أذهان ضحاياهم كي يصارعوا بهم بعضهم ، إنها لغة خطيرة التصدي لها وكشفها يحجم من قوتها المضللة ويجعلها تنزوي في ركن قصي لأن ثمة وعي كشفها ، وثمة إدراك أحاط بها علما ، إن القناعة التي تتحدث عنها يا صديقي هي شيء له أسبابه ، أسبابه المادية التي انعكست ، فالفقر والجوع الذي صنعه المسيطرون يخلق هذه الحالة البائسة المربكة التي ترسم ملامحك ببؤس ، وترسمك كما لو انك مريض حقا ، وأنت بائس جائع ليس إلا.

أتدري يا صديقي : أنت تحتاج إلى أن تجابه قناعاتك نحوي ، فأنا لست كما توحي إليك به ملامحي أو توحيه إليك أحاسيسك الداخلية ، أنا إنسان تعتريه لحظات الإحساس بالضياع نتيجة واقع مر ، هذا كل ما في الأمر ، فنظرتك نحوي تتضح من خلال التضاد الذي نحياه معا ، يسر حالك أعماك عن بؤس حالي ، ولذلك نظرت إلى الواقع بعيني حالك ، فيما أنا حالي هو نتيجة واقع مر تراه أنت جيدا ، وأراه سيئا حدا المهانة .

ردد صديقه قول ايلياء : كن جميلا ترى الوجود جميلا.

شاعر كذاب قال له وهو يبتسم ، شاعر كذاب عجز عن التغيير فلجأ إلى حيلة نفسية مفادها أن الداخل يضفي على الخارج جمالا ، هرب من بؤس واقعه إلى رومانسية داخلية لا تغير من حقائق الأشياء ، ولا تمنح الواقع ذرة جمال ، لا اتفق معه كثيرا ، صحيح أن الداخل هو مستودع الأمل ، لكن الواقع القبيح يظل قبيحا مالم نتحرك لتغييره ، لن يكون الواقع جميلا لمجرد أن دواخلنا مليئة بالأحاسيس الداخلية .

ترك صديقه الى غرفة تشبه القبر والقهر ، لكنه ترك تساؤلات في عقله ، إنه يثقب الأماكن المعتمة في الدماغ كي يتسرب اليها جدل يعيد صياغة تفكيره بطريقة صحيحة.