سعادة الله


رياض الأسدي
2010 / 3 / 12 - 07:46     

هو :
سأهاجم أحلامه، سأحاصره أينما حلّ, هذا السائق البدين, الذي يشبه بالون منفوخ, منقذي, صاحب التريلا البيضاء التي تشبه صندوق حذاء كبير وضعت عليه علامات أجنبية كبيرة. يقف كلّ أسبوع هنا. تقريبا. يقولون مرسوم على صندوقه الحديدي الضخم دعايات لحوم. هل ينقل كلّ هذه الكميات من اللحوم حقيقة؟ سائق مريش وبلد عجيب. كان يرتدي دشداشة بيضاء مبقعة بزيت قديم وكليته خضراء ولحيته البيضاء تذكر بالآباء الذين يأتون باللحم الطازج بأكياس نايلون. أنا لم أتذوق اللحم إلا الخائس الملقى عنوة في المزابل, اعتدته مذ وأنا صغير, فالحصول على قطعة لحم نظيفة وكبيرة في هذا البلد أمنية لا تتحقق إلا لمساعدي سائقي التريلات. وسأحاول اختراقه من اجل تغيير حياتي. طبعا. لا بدّ من ذلك. ولن اتوانى عن استخدام كلّ الوسائل. يمكنني فعل المزيد. روحي فائرة. فلا شيء ينقذني من البؤس العرمرم هذا إلا أن أكون مساعد سائق تريلا. أن تكون مساعد سائق تريلا هو منتهى الأمل في هذا العالم. قد يشتري لي قميصا بكم وبنطلون كاوبوي من البالات بباب الشرقي. يفعل سائقو التريلات المزيد إذا ما سنحت الفرصة لأحد ورافقهم.
قالت لي فطيم أم الجرب, الوسخة, هاي البنص عقل مرات, معروفة, لم تبق بنفس كلب, وماكو واحد بحيّ التنك لم ينكحها: هل تعرف ولك, عليوي, نغل, تدري العراق هذا - ولاية علي!- ازكن ديره بالدنيا..؟ أنجبي ولج عوره أم الجرب شلك بهلكحي.. شلون زنكين شلون؟ قحبة واحنه نعيش بالتنك والمزابل؟
يقولون يقولون شبيك طفرت جرو, ابن القحبة!؟
فطيم لم يعد ينام معها احد من الصبيان غيري لأن مهبلها يخرّ جراحة. رأيت ذلك بنفسي.
- هاي شبيك قحبه؟
- يقولون: سفلس.
- سفلس شنو؟
- مرض.
- مال نسوان؟
- إي.
- هو أنت هم مره مثل النسوان؟
- ليش شبيه مو عندي زرف مثلهن؟
- قومي ولي!
- هاي شبيك الليلة؟!
- تره اقلب التنك على راسك.
- شبيك؟ شبيك؟!
- راح أغير عيشتي..
- هههههههه!
كان التنك يتساقط وسط صراخ متواصل.
هو أيضا:
لا يعلم تماما أين رآه لأول مرة، لكنه الآن, يعرفه جيدا بسبب تكرره وسماع صوته الكريه ذاك؛ هو نفسه هذا الفتى الذي يلاحقه في مناماته كلها تقريبا؛ الصوت المتحشرج الذي يشبه عفاط عنز جبلي قفاز: الله يساعدك، عمي. لم يخبر أحدا عنه حتى زوجته التي تنام إلى جانبه بعد طواف مدن كثيرة وعبور حدود متواصل. وثمة كثير من الأطفال يومؤن للسيارات الكبيرة المارة على الشارع الدولي العام : وحده كان مميزا: تكاد الريح أن تطيره والتريلا بسرعة 90 كيلومترا. لا تعرف ماذا يريد هؤلاء الأطفال حقيقة, لكن بينهم وبين سائقي التريلات علاقات خاصة دائما. ورغم انه لن يقف لهم أحد عادة, ومن الصعب استعمال الدواسة لإيقاف تريلا فجأة, ولأن الوقوف في الطرق البرية يكون مخاطرة غير محسوبة.
كان يبدو قطعة من طين متحركة, بتلك الدشداشة السوداء الكالحة والممزقة من كلّ جانب تقريبا. هو هو. أخيرا. أمامه. بلحمه ودمه. ثم سمع صوته من جديد : هل أساعدك؟ .. هل أساعدك..؟ كان يعمل بقوة وهو يستبدل الإطار الخلفي المعطوب. لم يلتفت إليه حتى, ثم طلب منه أن يناوله بعض الأخشاب القريبة لرفع الإطار. احضرها الفتى بسرعة ملحوظة. ثم ساعده في وضع الإطار الجديد, ساعدان ضعيفان أسودان أنهكهما البحث في المزابل.. استطاع أن يتأمل ملامحه الرمادية عن قرب – كما في أحلامه- الآن وكما ظهر له مرات ومرات : فتى في الثانية عشرة من عمره، أشعث الشعر, عيناه غائرتان، مشوها, يشبه الكائن الذي رآه في أحلامه مؤخرا بتلك الابتسامة الغامضة. قال:
- هل أعرفك من قبل؟
- لا أظن..
- وجهك مألوف بالنسبة لي.
- وجوهنا واحدة.. غالبا.
- ربما..
- يمكنني أن أساعدك في أي شيء.
- أيّ شيء؟
- أي شيء.
- ماذا تعرف عن عمل التريلات؟
- لا شيء.
- لا استطيع أن أعتمد على غرباء في عملي.
- لست غريبا!
- تقول فطيم أنا لا استطيع تغيير حياتي
- فطيم منو؟
حينما توقف مليا للتدقيق في قسمات وجهه مليا هذه المرة عرف أنه الفتى الذي تكرر كثيرا في أحلامه. يمكنه الآن أن يرى اثر الجروح الظاهرة على راحتيه وساعديه.

كلانا في المطعم:
فعلا كما كنت أسمع تماما- ليس كلّ ما نسمعه كذب على أية حال – غيرت رأيي. فطيم ماتت بالسفلس. وحدها لم يدخل غرفة التنك احد. كانت المشكلة من يدفنها. لا احد يجازف بذلك. سحلها الصبيان والقوا بها على اكوامزبال كثيرة. من الصعب معرفة مصيرها. ربما أكلتها الكلاب. لماذا خلق الله الكلاب؟ ربما لهذه المهمة. رغم ذلك ثمة خيرون في هذا العالم.. كما تقول فطيم, ألم يقولوا : لو خليت قلبت؟ أنا لم أفهم هذا القول حقيقة حتى وافق الحاج نوري بعد ان قبلت قدميه مئات المرات وأقسمت له بالعباس إني لن أسرقه. قبل على العمل معه على سبيل التجربة : شف أبن الخرء, أسم عليوي لا يروق لي, سأدعوك سعدي.. سعدي أحبه.. لدي كاسيتات كثيرة له. لا تعرف سعدي؟ عمرك خسارة.. عندك جنسية؟ لا. هل يوجد عراقي بلا جنسية؟ لا تعرف أمك وأبوك؟ هآآآآآآآآآآآآ. تعرف الزباله بس. مو مهم. مو مهم. سأستخرج لك جنسية إذا أحسنت السيرة وأصبحت خوش ولد ومطيع. ليس هذا صعبا عليّ. أنا حجي نوري تريلا أعرف نصف بغداد. وإذا كنت غير الذي أراه في أحلامي سوف أدفنك في الصحراء. هناك. ستحفرك الكلاب بعد يومين وستاكلك.. لن ادفنك عميقا. لدي خبرة في ذلك. لماذا خلق الله الكلاب؟ هووو سؤال صعب. ليس ثمة ما هو أسهل من الدفن لكن بعض الناس لا يستحقون ذلك. وأنت مجرد جرذ ولن يسأل عنك احد في هذا العالم. فهمت؟ لقد ولدت خطأ.. الله يخلق ومحمد يبتلي! آخر واحد كان معي منحته أسم ناظم, سرق (العدة) واختفى بعد ثلاثة أيام : سبّحته وأطعمته ونظفته, ووضعت له كولونيا أنا نفسي أضعها قبل مضاجعة زوجتي. كانت رائحته مياه آسنة والله العظيم, ناظم الكلب ذاك, ثم اشتريت له بنطلون كاوبوي وقميص احمر. دعني أدلك عجيزتك حمار. تستحي؟ نغل. بعدين بعدين يذهب كلّ الحياء منا.. عجيزة وسخة مثل صاحبها. ماذا تأكل أنت؟ حصى؟ أنت كومة عظام متحركة. لكن رائحتك ممتازة الآن. لنصعد إلى الكابينة. هاي شبيك؟ سبع. لا تخاف من عمك الحجي. كلكم جراء كلبة واحدة, انتم المشردون, تذكر ذلك جيدا؛ لكني سأسير وراء أحلامي، وأجعلك زوجتي الثانية.. ستكون سعيدا.. طريق التريلات لا يرحم. رغم أني لا تصدق أحلامي غالبا, ثم تذكر أنا لا أثق بك, ولا بأمثالك, أبدا, لكني سأسير معك, اتبع العيار إلى باب الدار, وفي أي وقت أشاء أتركك على الطريق حيث لا يقف لك احد وقد تلتهمك الكلاب البرية. فعلت ذلك كثيرا.. هل تفهم؟ لا تهز رأسك فقط وقل : نعم أستاذي! هلوو داد! تخبل! تعال.
كانت التريلا تسير بسرعة حتى وصلنا مطعما صغيرا بألوان زينة تظهر في النهار, يرتاده سائقو التريلات واللوريات وبعض السيارات الخاصة. عرفت من الحاج نوري أنه يأكل في هذا المطعم من أيام الحرب العراقية الإيرانية :
- حجي رحت أنت للحرب؟
- طبعا. كنت سائق تريلا أيضا.
- تحمل لحم أيضا؟
- لا مطي, احمل دبابة.
- مثل دبابة الاميركان؟
- مثلها. تقريبا.
- كان عندنا دبابات كثيرة؟
- كان.
- وين راحت حجي؟
- ب... أمك! لا تسأل أسئلة اكبر من رأسك.
- تقول فطيم: العراق كلش زنكين؟
- وأنت حضرتك عراقي؟
- لعد أنا شنو؟
- أسكت, فطيم منو؟
- من رخصتك حجي..
ذهب إلى تواليت المطعم, وهناك تقيأ ما أكله, ثم غادر لا يلتفت إلى أحد حيث رأى ثمة بقعة زيت كبيرة تحت التريلا, كثيرا ما كان يكرر الحاج نوري : نحن مثل بقع الزيت هذه.. هل تراها؟