عمر القاسم مؤسس وعميد الحركة الأسيرة


رشيد قويدر
2010 / 2 / 25 - 16:00     

كتاب: "مانديلا فلسطين"

يصدر قريباً عن دار التقدم العربي ـ بيروت، والدار الوطنية الجديدة ـ دمشق، كتاب "مانديلا فلسطين ... عمر القاسم مؤسس وعميد الحركة الأسيرة"، للكاتب رشيد قويدر يقع الكتاب في مئة وعشرين صفحة من القطع الوسط، ويشتمل على ثلاثة فصول، اشتملت مقدمة، سيرة حياة الشهيد القاسم، وشهادات مختلفة لأصدقائه ورفاقه من الأسرى وعلى درب النضال، من أسرته والذين واكبوا نشأته ونضاله، ومن أدباء وكتّاب وصحافيين عرفوه عن قُرْب، وفصل عن عرس الدم؛ الوداع للشهيد الذي أعاد فتح سفر بيت المقدس في اليوم الرابع من حزيران/ يونيو في العام التاسع والثمانين بعد الألف والتسعمائة للميلاد.

القاسم الذي كتب في حلكة الزنازين أجمل قصص الكفاح والحب
رشيد قويدر



"طوبى لمن اتبع هدى النضال ... فالحياة مشوار نضال" نايف حواتمة
لم يترجل عمر القاسم، ولن يُسدل الستار على تراجيديا كفاحية وطنية إنسانية متواصلة، لم تنل منه قساوة الزنازين الصهيونية أو مؤبداتها، مجسداً فلسطين، بكل تجلياتها وهمّتها ومعاناتها، وبكل ما امتلك من أصالة نضالية إنسانية، وتجربة وعمق انتماء وثبات مواقف، حالة امتزاج وامتلاك لمزيج الأخلاق الأدب والتاريخ، ما تمتلكه الذاكرة الجمعية الفلسطينية لهذا الشاخص الإبداعي الكفاحي في عمق الرمز المتوالد.
ذلك لسببين مباشرين؛ الأول هو المعلم الأول المخلص لمنجزه الإبداعي الكفاحي، شاء أن يكون اسمه ملهماً للنضال، وشاء أن يكون شغفي ـ وغيري كثيرون ـ في تتبع سيرته وتجربته، وكأني به قد كتبها تحت ظلال شجرتيّ زيتون، وليس في قساوة عنصرية الزنازين الصهيونية، وهكذا فهو الشخصية الآسرة التي تفتح على المخيلة الإبداعية النضالية وبشكلٍ أعزل في الأسر وحلكة ظلامه، وكأني به أيضاً "ديوجين" في إصرار النور على الظلام، الذي استمده من انتمائه، ودوره في أجواء الثورة وتزخيم انطلاقتها، بما تمثل من رغبة عارمة في الحياة والنور ...
لعل هذا هو سبب الخلود والاستيلاد الدائم، وهو نقيض الموت. وذاتها السيرة التي تسهم في إرواء العطش الإيديولوجي والأخلاقي الأدبي الوطني الإنساني الكفاحي في وقت واحد ...، أما الأمر الآخر الذي لا يبرح الذاكرة فهو يتعلق بجانب هام من سيرة القاسم، فقد عاش زمناً وحياة فلسطينية عاصفة، منذ نعومة أظفاره شكلت موضوعة حكايته وبناءه المعماري الذاتي،، وهي ما ارتكزت عليها توجهاته وتفكيره وجُلّ نضاله عبر انتمائه المشتمل على أدق الحيوات والشخوص التي عاشها وامتزج بها، ومن ثمّ انغماسه في التعبير اليومي عن أعمق ما في روح شعبه، فهو مشحون برموز ودلالات في فرادات وقراءات مقاومة الاحتلال والاستبداد والتسلط من أي جهةٍ كانت ...
رموز وشخصيات نابضة بالحياة، استمدّها من طفولته ومأساة شعب فلسطين؛ ونواميس بثقافات كونية أممية في إنارة مانعة لعمى الألوان الشعبوي ـ السياسي في سنوات شبابه وانتمائه، وضعته في مصاف الاستيلاد الدائم والإلهام الكفاحي ... تكفيه مؤونة للعمر والحياة ونحو الخلود وضد الموت، وإِلامَ أفضى القاسم ! ...
حقاً قال المتنبي "أعمق ما في الحياة الألم"، السّمة الإنسانية التي كررها الثوري بابلو نيرودا: "لا يوجد فضاءٌ أوسع من الألم، وأوسع الأشياء عالم يقطرُ دماً"، وقد صارع القاسم جيشاً بربرياً عنصرياً في قلب مؤسسته وصلافته التي لم تجد ما يستر عورتها، ذاتها التي جعلت من فلسطين الوطن بحيرة من الدم حتى ولج كل البيوت، الصلف المنتشي فوق وليمة الأجساد المشوية بالنار والدخان، إرادة مؤونة العويل للهولوكست المستنسخ بـ "الدايم"، موقناً العنصري أنه يخنق الكلمات وليس ثمة مفر أبداً من أن يكون الموت هوية يبتلعها النسيان وحدّ التلاشي ...، أعاد القاسم في هذا الصمود وصايا الحياة وإيقاعاتها، أعاد جنة المعنى والكلمات والرسالة، وأعاد الصهيل ...
ها نحن اليوم حين نقف في حضرة قامة القاسم، نقف في حضرة متجمهرة لفكرة ممتّدة ... وذات فذّة، وفي هذا التجمهر صنع حكايته مثلما نهر متدفق من منبعه إلى مصبه؛ نهر يقرر متى يفيض في انتفاضاته المتتالية، فكيف لا تنتظم الجموع ... وكيف لا تكون الوحدة الوطنية في منبعها من جموع المعتقلات، ووثيقتها الوحدوية تختمر في رحم المعتقلات ! ...
وهي المعتقلات جبهة الحرب المتواصلة في خطِّها الأمامي اليومي بدقائقه وثوانيه وأيامه وسنواته ... وهي أيقونة الصمود والعذاب والبطولة في وجه الطغاة والجلادين ... وما زال صوته بشحنته الرفاقية النضالية؛ يلفُّ مستمعيه بأجوائه الأخاذة، فيذهبون جميعاً للوحدة ... للصمود ... و "مَنْ خان هان" ... "أرادوها أيقونة عذاب ... ونحيلها إلى أيقونة صمود" ...
لهذا أرادت العنصرية الصهيونية قتله، في سلسلة اغتيال الرموز؛ وهو الشهيد المغدور بالأسر، أرادوا أن يصيبوا قلب شعبه ... لم يخطئوا الاختيار، لكنه فعل بهم ما لم تفعله مسدساتهم المكتومة، وبما يكفي للحياة المديدة، هذا ما تقوله سيرته بصفاء ما بعده شفافية، فالعقل لم يفقد مجراه في صحراء السراب، والعقل في تقدم دائم نحو سماوات الحرية، وسماوات الحرية لن يستطيع أحد أن يزوّرها، أو يسرق صورتها، أو يتطاول على هويتها، حتى وإن سرق أرض وبيوت الناس ...
ذاتهم الناس الذين اتكأ عليهم القاسم فامتزج بهم، وقال: أعلم أن للموت ألف إقنيم وإقنيم، لنوقظ غفوة عذابات الناس المتأججة ... لنمنع صمتاً، لنمنع صمماً يراد له أن يتلبسنا، في الوحدة والنضال يموت الصمتُ ... ويحيا النبضّ، ويستدير التاريخ كلما كاتفتموه بالمسير، لهم أن ينتظروا عجلهم الأحمر الذي لا لطخة فيه، ولنا نحن الفقراء سمكة الجليل، تنبئ لمعجزتنا في مهد المسيح، وأن لنا في كل طفل مسيح ... فهذه السماء من الحرية يا أبتِ، دَعْ وطني يصحو، وعلى نداوة حزننا والنجمة، نطلق صمودنا وإنسانيتنا وحرية فلسطين ... هذا ما لم يقرأه الغاصبون ...
بين دفتيّ الكتاب ومضات من الكفاح الوطني الفلسطيني ... بلغ به نضال الأسرى أقصى عناقه ... وبلغت فلسطين أقصى قدسيتها بدماء الشهداء ... وهم العائدون كالطوفان ...
وفلسطين تبقينَ وحدك الزيتونة الشامخة ... وطنٌ حُرّ ومستقلّ وسيّد ...