عندما يكون التذكر طقسا للحرية والنسيان دافعا للعبودية !


جمال محمد تقي
2010 / 2 / 23 - 23:06     

التذكر بمعنى التفكر بما حصل او وقع وتوثيق الحاصل والواقع فعليا كخطوة لا بد منها للسير باتجاه التكيف الايجابي مع الاحداث والتأثير بها لما يخدم عملية تغيير الواقع نفسه ،هو وظيفة معرفية خالصة لا تتحقق الا اذا توافرت ادوات التفكر ذاتها واجتمعت في العقل الفردي او الجمعي بدوافع الحاجة والتحدي والعمل والضرورة التي تحتوي الصدفة ولا تناقضها ، اما النسيان فهو تواري لصور الماضي خلف صور الحاضر الذي يحتوي اسراره ، والنسيان لا يفرز الا معاكسات تحبط السعي نحو معرفة حقائق الاحداث وصورها وروابطها وعلاقاتها ببعضها وبالجاري منها في الحاضر .
يمكننا ان نضع ما يقوم به علماء الاثار والانثربولوجيا والمصادر والتاريخ وفلسفته من محاولات لاعادة معرفة الماضي وبكامل ابعاده في خانة عملية التفكر بمعناها "الفسلجي التاريخي الذي يحتوي الفسلجي العضوي ويذوبه في سوائله الجارية " كما ويمكننا ان نضع النسيان في بعده الاول "التاريخي" في خانة التغييب الموضوعي للماضي والتعامل مع الواقع وكانه مستقل بذاته اي وكانه حاضر بلا ماضي !
من المسلم به ان الازمان الثلاثة ـ الماضي والحاضر والمستقبل ـ تشكل خطوطا متمددة من بعضها البعض وهي متصلة بتواصل متغير باستمرار ، واسرار الاستدلال او التفكر كامنة ومنقولة الصور والاثار من الماضي الى الحاضر باشكال جدلية مركبة ولا تخضع لميكانيك القواعد الثابتة في ازمان اللغة كوعاء للتفكير والتفكر وشيفرة للاختزال والتذكر ، وذات الشيء من الحاضر للمستقبل .
فقدان الذاكرة الكلي او الجزئي عند الافراد يفقدهم القدرة على التكيف مع الحاضر بشكل كلي او جزئي اما فقدان الذاكرة الجمعية كليا او جزئيا فيؤدي الى الانحطاط والعشوائية وفقدان القدرة على التكيف مع الحاضر والمستقبل ، فاي عملية هدم او بناء بحوافز موضوعية كانت او ذاتية تكون شبه عدمية دون ذاكرة جمعية وفردية موثقة .

الغزو الثقافي الذي يضعف لغة الشعوب التي تقع تحت تاثيره يفقدها القدرة على التفاعل المنتج مع الحاضر والمستقبل ، انه يفرض عليها حصارا يجعلها لا تتنفس من الزمن الا الماضي حتى تختنق فيه وتموت متكلسة فيه فتستبدل تماما بلغة الغزاة التي لها ذاكرتها المختلفة عن ذاكرة الشعب الذي تعرض للغزو والاحتلال والوصاية ، فالامعان في مسح ومسخ الهوية الخاصة به تريد مسح ذاكرته اولا لجعله سهل التلقي وطيع الاستجابة من خلال القبض على روح تلك الهوية ومعالمها المجسدة في اغانيه وذوقه وطعامه واثاره ومخطوطاته وفنه ومتاحفه وحتى الاسماء التي يتداولها وكل منتجه الحضاري والقيمي ، ليتم بعد كل ذلك اعادة بناء العقل الجمعي بما يتفق ومركزية المحتل بعد ان يكون قد احتل العقول قبل المواقع والحقول ، تبقى ذاكرة الشعوب المغلوبة على امرها والمجسدة في خبراتها التاريخية ولغتها وفي النحو المفاهيمي والاخلاقي الذي تتمثله ، عقبة امام المحتل لا يعالجها الا بالحرب الناعمة اما مسح الاثار المادية التي تغذي ذاك العقل فيعالجها بالخشن والناعم من الحروب ليحل محلها اثاره هو المادية والروحية معا ، وهنا تكون مقاومة تلك الشعوب لا تقتصر على النيل من وجود المحتل المادي وانما وجوده الروحي والثقافي والقيمي وربما الشكل الثاني من المقاومة اكثر عمقا من الاول !
عندما احتلوا بغداد هدموا مؤسسات الدولة دمروا ارشيفها وراحوا يوزعوه ويفككوه بحقد اسود وكانه اسلحة دمار شامل ، بعثروا ملاكات الدولة الادارية والعلمية الكفوءة ليحل محلهم الجهلة والفسدة والمزورين والانتهازيين ، وكانهم ارادوا تصفير الحالة التوثيقية بالكامل ، اجهزة بلا ذاكرة وبلا مهنيين محترفين ، ومن يحل محلهم للضرورة كي يقوم مقامهم لا يجد ما يعينه فيتخبط وفي النهاية يتبع وصايا المستشارين الذين يشجعون على الارتجال الذي يكرس لعبة الهويات غير الوطنية في اسس عمل الهيئات البديلة لمؤسسات الدولة المهدمة ، العراق لا يبنى وانما يهدم من خلال الاسس التقسيمية والتحاصصية الطائفية والعنصرية والمناطقية الجارية فيه وعليه ، يجرى الاستخفاف بمفردات العقلية الوطنية التي تعتبر ان الاحتلال يستوجب المقاومة وان التأمر مع المحتلين لغزو البلاد لا يمكن ان يبرر بذريعة طغيان النظام السابق باي حال من الاحوال ، لكن ثقافة المقاومة نجحت باستعادة المبادرة بالتوازي مع نجاحها في الميدان الذي استنزف قوات الاحتلال بمعدلات تجاوزت كل حساباته .
كان الامريكان قادرين على حماية المتحف الوطني وعلى حماية دار المخطوطات والمكتبة المركزية ومتحف الفنون التشكيلية اضافة الى دار الوثائق العراقية ـ الارشيف ـ لكنهم متعمدين تركوها لمرتزقتهم واللصوص والموساد ومن لف لفهم ، وبتعمد صارخ راحوا يحرسون وزارة النفط دون غيرها ، وكان اعتمادهم على تعريق الحرب طائفيا وعرقيا ممارسة مجربة في غرس ثقافة الهويات البديلة ، بعد سبع سنوات والحال ما زال سجالا لكن تباشير انتصار الوطنية العراقية تلوح بالافاق وهي ولا ريب ستستعيد تألقها وتقيم جسورا لاتنقطع بين ماضي البلاد وحاضرها ومستقبلها ، ستستعيد كامل ذاكرتها ستعيد توثيقها من جديد وهي في طريقها لبناء العراق العزيز كانسة كل التداعيات والاعاقات ، معيدة تقييم دروس التجربة كلها لتنطلق وهي مطهرة من الادران ولو بعد حين !
تذكروا وتفكروا ابحثوا في الملامح والمواقف عن الخلفيات وعن روابط الماضي بالحاضر لتعرفوا الى اين يؤشر مستقبلها لا تغرنكم الشعارات ولا المظاهر البراقة ، قووا ووثقوا ذاكرتكم ستقوون وتحصنون ميولكم واتجاهاتكم ستقوون مقاومتكم ضد التضليل والزيف والاجتثات والفساد ستنجحون في مقاومة مشوهي الوطنية العراقية ستفرزون وبسهولة من يبيع ويشتري بالبلاد والعباد وهو غارق بالتبعية للطامعين والمحتلين من اخمص قدمه الى قمة راسه ، تفكروا وقاوموا النسيان !