(القبيس)


رياض الأسدي
2010 / 2 / 18 - 23:28     

رأيت نفسي آخر مرة في (سي دي) يباع في سوق الهرج بعد سقوط بغداد بأيام قليلة: يتمايل فيه (الأستاذ) شخصيا مرتديا زيا عربيا. كانت تلك آخر مرة شاهدته فيها، وأنا أميل على صدره هازّة كتفي البضّين العاريين، فيميل( الأستاذ) نحوي مرة أو مرتين منتشيا والكأس بيده؛ تلك كانت نعمة حسدتني عليها صويحباتي دائما. لكنهن لم يحسدنني قط على هذا الذي يشبه الدم القديم على راحتي. يوووووه!
- من دلّك على هذا الدرب ساقطة؟
- الله دلني عليه.
- الله شعليه؟! أنت وحده ساقطه.. من كنت تذهبين مع خالك لتنظيف البيوت وقلبي قارصني.
- بغداد همين راح تصير ساقطة. مثلي.
- شنو ولج هيونطه؟! دولة وعلم وقانون وريّس مثل الموس الباشطه..
- هههههه!
- لحد يسمعك عوبه! استري علينا.
- لو يجي القبيس مراح أسكت!
- القبيس منو هذا بعد؟
- هههه هجع هههه هجع ههههه هجع!
ثم طقطقت أصابعها بقوة طويلا. ليلة صاخبة أخرى لحفلة غجر خاصة. كانت الأيام كلّها مصنوعة من طبول، ورباب، ودفوف، وصنوج، وهزّ ورك حتى آخر الليل. تختلف هذه الأيام عن تلك التي كنت اعرف. كثيرا. لكنها أيام الله. كلها أيام الله طبعا. فهو صاحب الأيام كلّها من بداية الفيلم حتى النهاية : يوووووه! اخبط بالحكي؛ آه من الصعب أن أتذكّر بعد كلّ ما كان، مهنة عمال المنازل، تلك، التي كنا نزاولها معا. أحيانا تبدو في رأسي كومضة سريعة وكأنها محيت من ذاكرتي؛ بصقت على الأرض من غير قصد أمام (الأستاذ) وأنا سكرانة طوخ كلّش، فاستعدت كلّ ما كان بالتدريج.. يوووووه أن تكون المرأة راقصة غجرية تحتاج إلى مدة من الزمن للتأمل في ما كان، على الأقل. ولج مخربطة دونيه صرنا على لسان اليسوه والمايسوه، بسببك. ماتوا أخوتك وصرت قحبة مووووو؟ هذه القضبان تترك أثرا واضحا على الراحتين. شكرا على أية حال للأيام المعدة سلفا. والله. كان الخروج صعبا بعد عامين من السجن عارية، هنا. ولم يعد الأمر مهما في إخفاء عوراتي .. أبدا. تعلمت. يوووووه.
أما كيف تسرّب ذلك (السي دي) إلى العالم؟ ولم تتسرّب حكايتي معه؟ تلك عادات البشر وعلينا أن نتقبّل الأمر بروح أولمبية – كما يقول الأستاذ- دائما. دائما. وهذا ما لم أستطع تفسيره حتى الوقت الحاضر. أن أشاهد نفسي بعد كلّ ذلك الروع الغريب: سنتان عارية من أجل بصقة واحدة غير متعمدة.. كان الجميع يحدّقون (بالأستاذ) وهو يضحك متمايلا، وأنا لم يذكرني أحد في السي دي: أنا عاملة المنازل (زنّوبة) الصغيرة. هل نسيتموني؟ لقد أصبح كلّ شيء واضحا منذ البداية. كلّ شيء.. إلا مضاجعة (الأستاذ) لي وهو عار ٍ.. يووه حدث ذلك قبل الإصابة.. كنت أرقب عجيزته المشعرة بنظرة خفية. فقد كان يكره النظر إلى عجيزته على أية حال. كما تؤكّد التعليمات. وكان الناس مهتمين ب(الأستاذ) فقط, ولا أحد يعرف من تكون هذه البنت المتمايلة طوال الوقت.
من اهتم بي في السابق حتى يأتي من يهتم بي الآن؟ الدنيا كلّها لم تعد تهتم كثيرا، بعد أن هوى ذلك الشيء الكبير الأسود في ساحة الأندلس. والحناء لما تزل على راحتي منذ ذلك الوقت. وأنا مازلت أرقص في البيوت الخاصة. ألعب دور غجرية دائما وفي كلّ المراحل ،وما أنا بغجرية.أبدا .لكني تعلمت الرقص وحدي أمام المرآة بعد أن غادر الجميع..غابوا.. في وهدة من الزمن غريبة كصفير حادّ في الآذان. الحناء الأصيلة بلون الدم تذكّر بالصفير دائما. لم تغب عن راحتي أبدا. ثمة علاقة ما بين الحناء والصفير لما أدرك كنهها بعد. ربما أعرف ذلك في زمن لاحق. ثمة أشياء سوف تتكشّف حتما مثل هذا (السي دي) أشياء كثيرة في هذا العالم لا أعرف عنها شيئا، على الرغم من أن صويحباتي يعدنّي من(اللوتيات) جدا. بهيي بهيي!
سيارة قديمة (بيكب) حمراء ,متعتعه ،موديل1972 وضع عليها درابزين أسود قوي يترك أثر صدأ على الراحتين دائما؛ عرفت ذلك فيما بعد، وسألت نفسي: ماذا تترك قضبان السجن على الراحتين يا بنت ؟ عرفت عرفت!عندما صعدنا في (البيكب) كنا ستة أخوة. لكن تبخّرنا بعد ذلك. الواحد تلو الآخر بخ بخ بخ بخ بخ! ويقولون نحن لا نتبخّر!!يا معوّد حكي.. نحن أول من تبخّر هنا، والله ، طرنا في هواء بعيدا : كل ّواحد في جهة؛ نصيح هآآي أنت هآآآآآي أنتَ . أنتِ .هوو هوو. هييي هييي. لماذا لا نلتقي مثل ما كنا نفعل سابقا؟ لا لا لا نستطيع. وأين سنلتقي لو أردنا ذلك ؟ ذهبوا بعيدا ولم أعد أراهم. يمآآآآآآآآآآآآآ! وبعد سنين من العمل في خدمة المنازل .افترقنا. هكذا. الله. وما كنت أحسب أن نفترق يوما ما. أبدا أبدا. أما عند أول صعود لنا في (البيكب)؛ فقد كان عجيبا: العمارات تمرّ بسرعة، والعالم زحام شديد، والدنيا هوسه. والأبواق لا تكف عن الصياح طاط طاط طاط. حقيقة فرحنا بالأبواق كثيرا. وكنا نضحك. وكلّ واحد منا نحن الستة كان يصيح أيضا:طاط طاط طاط. ضجة كبيرة. الله!!. لكن البيت كان أفضل على أية حال من الخروج للعمل.
لم نخف.طبعا. مثلنا لا يخاف معنا خالنا: الخال عواد يجلس في صدر البيكب.جالس جالس مثل شيخ عرب. يوووووه طبعا طبعا. وكان يخرج يده ويلوح لنا في كلّ استدارة تقريبا. وهو يتحدث مع (السيد أبو المكتب) الذي يسوق البيكب، شكو علينا. اللللللله. كان يعرف كلّ ما في الدنيا هذا الخال الوحيد لنا. نغل نغل!: تقول عنه أمي دائما وهي تمتدحه. ليش خالي نغل؟ لأن عنده روح بزون. يعني شنو؟ يوووووه فمن لديه خال مثل عواد لا يخاف في الدنيا شيئا. طبعا!. قرفصنا في الحوض الخلفي للسيارة كدجاجات خائفات. وكانت الدنيا شتاء، والريح باردة، والسيارة تخبّ الأرض خبّا حتى تكاد أن تطيّر الخرق البالية والجرادل النايلون والمكانس.
الأدوات على العموم بدائية جدا، تتكون من أشياء محلية الصنع غالبا، جرادل فافون منبعجة قديمة وجرادل نايلون حمر و خضر وزرق تشبه رؤوس محاربين موتى من عصر الطناطل، وقطع قماش مستهلكة فقدت ألوانها تماما لكنها صالحة للعمل؛ كلّ شيء يتحرك بقوة في السيارة. يوووووه. وجدنا صعوبات كبيرة في الحصول على الأدوات بعد أن قلّت الأقمشة القديمة في البيت، وبيوت الجيران، والأقارب، والمعارف. لكن الخال عواد النغل عمل المستحيل على توفير كلّ شيء. كان من الصعب أن نفهم حقيقة لم يحافظ الناس على ملابسهم المهلهلة ونحن نحتاجها في العمل؟ ظننا إن تلك مسألة في غير صالحنا دائما. فما الذي ينفع الناس احتفاظهم بملابس قديمة وممزقة؟
لم نسكت بإزاء هذه المشكلة، فسألنا الخال عواد عن السرّ في شحّة الملابس القديمة؟ صمت الرجل قليلا، ثم شرع يتفكّر في الأمر مليا؛ فهو الذي يعلم كلّ شيء دائما عن الدنيا وأهلها وأحوالها وتقلّباتها؛ أليس هو (البنا) الوحيد في العائلة قبل ان يفقد يده في الحرب؟ في الحقيقة كان مساعدا لبنا لأنه عامل قديم، ولم يستطع أن يكون بنا طوال حياته، وإن لقب (البنا) قد أطلقته عليه أمنا للاعتزاز به فقط. زفر الخال زفرة طويلة كعادته، وقال : " هذا الأمر الذي سألتموني عنه أكبر من رؤوسكم. أعملوا ولا تسألوا عما ترون. مفهوم؟ ". ماذا كان يقصد؟ عجيب هذا الخال النغل. كلّ شيء عجيب فيه.
وكان الشرط الوحيد لربّ العمل ـ السيد صاحب المكتب البدين المسمى أبو خضراء ـ هو أن نأتي بعدّتنا الخاصة معنا دائما، فهو ـ كما يصرّح دائما ـ غير مسؤول عنها، لأننا نستهلك ما يكفي من أدوات العمل اليومي. وأصبح الحصول على الخرق أمرا صعبا جدا. لقد اتفق مع الخال عواد على ذلك منذ البداية، وحتى قبل أن ينبّهنا إلى أن الأمانة هي رأسمال هذه المهنة الوحيد. فأكّد إن علينا الإتيان بمكانس جديدة وخرق نظيفة وجرادل غير منبعجة لأن العمل يجب أن يكون على ما يرام. وأن نعيد كلّ شيء إلى مكانه كما كان سابقا تماما في المنازل التي نزاول تنظيفها لكي يرضى عنا ( الاكباريه) يوووووه ومن هم (الاكباريه) يا خال؟ قال : أهل الفلوس. وعندما سألناه وما (الإكبارية) ولماذا يكون عندهم فلوس ونحن بدونها دائما؟ قال ضاحكا: " هذا السؤال حتى (القبيس) لا يعرف الإجابة عنه. وعندما سألناه ومن هو القبيس؟ قال: شيء كبير مثل إله مثل نبي مثل إمام.. لا أعرف. ثم أردف: هذه كلمة اكبر من رأس خالكم عودة نفسه. كان من الصعب علينا أن نتصور كلمة اكبر من رأس الخال عودة الذي يعرف كلّ ما كان وما يكون، وعلى (الموده) كما يداعبه السيد أبو المكتب قائلا : "عوده أحسن موده " أما الأمانة فلم يحدثنا بها أحد، لأن الخال عواد هو الكفيل لنا.
كانت قضية الأمانة محسومة منذ البداية، منذ أن جاء بنا الخال عواد إلى المكتب وقال : "عمي، هؤلاء أبناء وبنات أختي، طرون وأهلهم طرون مثلهم، أبوهم مات في الرشاد(*) فقراء ينامون بلا عشاء طوال الدهر، بل هم نسوا أن ثمة وجبة طعام في الليل؛ الليل للنوم عمي.فإذا ما ضاع من بيوت (العالم) شيء، أنا كفيله وبرقبتي، من الدينار للألف..زين؟ " هكذا سرنا نحن الأخوة الستة كلّ يوم تقريبا : الأولاد الأربعة (علي وحسين وحسن وعباس) والبنتان (فطم وزنوبه) اللائي اختصصن بتنظيف المطابخ والبلاليع ودورات المياه ولمّ الزبال. في حين تولّى الأولاد الأعمال الثقيلة في التنظيف كغسل السجاد وخزانات المياه، وتنظيف غرف النوم والاستقبال، وترتيب الحدائق أحيانا. وكان الخال عواد يأخذ بخشيشا من كلّ منزل، فيشتري لنا بعض الحلوى أو الموطا ويلزمنا بعدم إخبار الوالدة بذلك. لكني أنا زنوبة - أم لسان الطويل -كنت أخبرها بكل شيء، فتضحك، وتقول : عوافي يووووم.
كان أول من غادرنا، ولم نرهما بعد ذلك، علي وحسين. ذهبا إلى خدمة العلم. شنو العلم لا ندري.. لم نفهم ماذا يعني أن يخدم الإنسان قماشا بألوان ويرفرف في كلّ مكان، وبنجوم خضر ثلاث، والأهم من ذلك اليوم : يوم وقفت السيارة البيكب أمام (الدفاع) ونزل الجميع منها إلا نحن الطرون، وترجّل الجميع احتراما للعلم. عجيب. العلم له كلّ هذه المهابة ونحن لا ندري. صدق طرون. في حين راح البوق يصهل : طوطوطوطووطوطو! ولم نفهم أبدا. قالوا : تحية علم! لكن علي وحسين لم يكونا تحت العلم، فماذا كانا يخدمان؟ آآه. الجبهة . الجبهة . الغياب. غابا .التوأمان. في معركة واحدة، البسيتين. يمآآآآآآآآآآآآ! لا أحد ينسى تلك الكلمة أبدا. والعلم : طو طو طو طو طو طو. لم ننسه. ثم بكت أمي حتى عميت. وكرهت العلم والطوطو. فقلّ عددنا وزاد العمل. أصبحنا أنا وزنوبه ننظف السجاد وخزانات المياه. ونرمي بتراب الحديقة بعيدا. ولم نعد نشاهد الخال عواد النغل إلا نادرا..
كان السيد أبو المكتب هو الذي يأخذنا ويعود بنا، وكان يفتّشنا في كلّ مرة نخرج بها من منزل، فقد خفت بريق الأمانة، يقول: الدنيا خربت! لازم الواحد يكون حريص. فتداعب يده الخشنة صدري الناهد الصغير. أما فطم فقد كانت تضحك وتسترخي له. عيب فطم . دولّي زنيبه مو يبطلنا. لكن فطم في ليلة غريبة أحرقت نفسها وهي تصرخ وسط الزقاق الضيق يوووووه! كانت بطنها مثل بالون أسود .
أشاعت أمي وقتها إن المدفأة قد أحرقتها وهي نائمة. أنا كنت نائمة. وعندما فتحت عيني كانت النار قد التهمت فطم. وحدي كنت أعدو في الشوارع وأخواي حسن وعباس يعدوان خلفي: زنوبة زنوبة !حسنا لم يعد ثمة أحد يذهب إلى خدمة المنازل بعد ذلك. والسيد البدين صاحب المكتب لم نعد نشاهده. وعبارته القديمة :انظم لعمال المنازل! لم نعد نسمعها. ماتت أمي ماتت وبقيت وحدي.
عندما ظهرت لكم في آخر (سي دي) يمكنكم أن تشاهدوا (الأستاذ) وهو يداعب شعري، ربما كان يمسح دمعة طافرة من عيني. بصقت على الأرض. فألقي بي هنا، في سجن (الأستاذ) الخاص عارية ربما لأكثر من سنتين لم يكن الزمن مهما، ضاع الزمن معي منذ ان فقدت أخوتي ؛ كنت أشبه القردة.
ـــــــــــ
(*) مستشفى أمراض عقلية ببغداد.