عصر التمويل – المال السيد (23)


عبد الله أوجلان
2010 / 2 / 16 - 22:59     

لا شك أنّ بلوغَ المال مستوى التَّحَلِّي بقوةِ القيادة الاجتماعية تطورٌ هام. وسيبقى استيعاب المجتمعِ ناقصاً للغاية، ما لم يُحَلَّلْ هذا الأمر. فالمالُ هو القيمةُ التي تُؤَمِّن السيولةَ في الحياةِ الاقتصادية، (ربما) كمثالِ الدمِ الجاري في العُروق، والمُحَمَّلِ بالقُوتِ اللازمِ لجميعِ الخلايا في سبيلِ تكوينِ الطاقةِ اللازمة للجسدِ كلِّه. هو الظاهرةُ الاجتماعيةُ الأكثر جدية، والتي تقتضي إدراكَ ماهيتِها وكيفيةِ وصولِها هذه المنزلة. حصيلةَ أيةٍ مِن العواملِ والمؤثرات التاريخية والاجتماعيةِ اكتَسَبَ هذا الجهازُ الذي لا يمكن إنكار حَملِه للتلوثِ المروع مكانتَه تلك؟ ما الذي يُحَقِّقُه فعلاً في المجتمع؟ مَن هي الشخصياتُ والمجموعات التي مَدَّها بالمكاسبِ أو أَلحَقَ بها الخسران؟ أَيُمكن العيش بدونه أم لا؟ ما الذي يُمكن إحلالَه مَحَلَّه؟ وهكذا دواليك.
كون المالِ وسيلةً للتبادل أمرٌ مفهومٌ تماماً، لأنه وسيلةٌ تؤدي وظيفةً بسيطة. مع ذلك، يجب تَوَخِّي الحيطةَ والحذر. ما الذي يتم تبادلُه؟ هل بإمكانِ المال أنْ يَكُون أداةً قادرةً على تأمينِ المعيار العادلِ فيما بين الشيئَين المتبادَلَين؟ جليٌّ أنّ المشكلةَ مُثقَلَةٌ منذ البداية بالمشقاتِ الكبرى. فمثلاً مسألةُ تبديلِ تفاحةٍ بأجاصٍ باعتبارها أبسطَ أشكالِ التبادل. لِنَفتَرِضْ أنّ المعدلَ هو واحدٌ مقابلَ اثنَين: تفاحةٌ واحدة = أجاصتَين. ولِيَقُمْ المالُ بوظيفةٍ كهذه في السوق. لماذا واحدٌ مقابلَ اثنَين، لا ثلاثة؟ أو لماذا ليس واحداً مقابلَ واحد؟ حينها سيَدخُلُ الجهدُ والقيمةُ في صُلبِ الموضوع بأبسطِ الحالات. وقد تتزاحمُ الأسئلة على التوالي. ما الذي يُضفي القيمةَ على الجهد؟ وقد يُقال بجهدٍ آخَر، لِيَتَكَرَّرَ السؤالُ إلى ما لانهاية. واضحٌ أنّ تأمينَ المالِ للمعيارِ العادل في مسألةِ التبادل والبيع والشراء يَتَبَدّى كأمرٍ عسير. ويَرجح احتمالُ كونه سيحظى بقوته واعتباره من هذا الخَيار. فهو مقبولٌ لأنه قَبِل بذلك وارتضاه لنفسه. أما البحثُ في أساسه عن العدالة والقيمةِ والكدح والجهد وغيرها من المعايير، فليس سوى عبث عقيم. فالمتواجدون داخلَ الزمان والمكان قالوا باختيارِ وسيطٍ لِتَسهيلِ أعمالهم. والشيءُ الوسيطُ المبتَكَرُ سَمَّوه المال. نحن نسعى لتعريفِ المال من خلالِ هذه القصةِ المقتضَبة. لكننا وجهاً لوجه أمامَ أداةٍ وسيطةٍ قادرةٍ على خلطِ كلِّ الأشياءِ وقَلبِها رأساً على عقب، بمجردِ تَخَلِّيها عن دورِها هذا وتَقَمُّصِها أدواراً أخرى.
لنُبَسِّطْ الأمرَ بمثال. يُبَيِّن المجتمعُ قبولَه لامرأةٍ ما عندما تَرتَبِطُ بِرَجُلٍ، وتَقدِرُ على العيشِ معه بنمطٍ نسُمِّيه بالمشرِّف تحت سقفِ بيتٍ يجمعهما. كيف سيَكُون الوضعُ حينما تَخرُجُ المرأةُ من كونها كذلك، لِتُسكِنَ في بيتها عدةَ رجال، أو العكس، عندما يَقُومُ الرجلُ بإسكانِ عدةِ نساءٍ في منزله؟ بطبيعةِ الحال، وبأخفِّ الأقوال تعبيراً، سوف تنقلب الأمورُ رأساً على عقب. الأمورُ أكثر تعقيداً في موضوعِ المال. لِنستطردْ في مثالنا. عندما تُخِلُّ المرأةُ بما أَجمَعَ عليه العموم، قد تُطرَد من البيت للوصول إلى حلٍّ ما. ولكن، قد لا تَسير الأمورُ في مسألةِ المال بهذه السهولة. فمَن يَكُون المالُ بحوزته – إنْ لَم يَكُن شريفاً – يمكنه القول: أوافقُ على ما يُضافُ إلى الأموال مِن مالٍ آخر. علماً أنّ المجتمعَ بِقَبُولِه ذاك لم يُصَيِّر المالَ وسيلةً، تماماً مثلما الحالُ في مسألةِ المرأة. بل وتَرجح كفةُ الاحتمالِ بِكَونه نَظَرَ إلى تكديسِ المال على أنه الذلُّ واللاشرفُ الأكبر.
قناعتي الشخصيةُ هي أنّ الأمرَ كان كذلك تماماً. فهذا الوسيطُ المبتَكَرُ والمطروحُ للوسط بهدفِ تيسيرِ الأمور، كان محدوداً بزمانٍ ومكانٍ نسبيَّين لأبعدِ حد، ولم يُقبَلْ به بتاتاً لِيَنتشرَ في عمومِ الزمان والمكان. ثمة حدثٌ فظيعٌ مِن سوءِ الاستعمالِ هنا (الاستعمال بنوايا ضامرة). كان بمقدوره القول: لا أَقبَلُ ذلك البتة. لكنّ المُمسِكَ بِمِربَضِ الفرس، ربما عبَرَ أسكودار منذ زمنٍ بعيد. وعندئذٍ، لن يَكفيه حُكمُه للخلاص. بالتالي، وللمرةِ الثانية، تَرجحُ كفةُ الاحتمالِ القائل بتحولِ المالِ إلى فاحشةٍ لا نِدَّ لها في تلاعُبِها حسبَ الأجواء، وكما تَهوى. فقد تُؤَجِّر نفسَها مقابلَ دولارٍ لأجلِ شخصٍ ما، ومقابلَ ألفِ دولارٍ لشخصٍ آخَر. إذ لَم يَعُدْ ثمة قوةٌ قادرةٌ على صَدِّها واعتراضِ طريقها. لكنْ، كيف تَمَّ الوصول إلى هذه الحال؟ لِنَستأنفْ في تبسيطِ الأمرِ نوعاً ما باللجوء إلى لغةِ الاقتصاد.
بالرغمِ مِن أنّ ابتداءَ الاقتصاد من المقايضةِ لا يَتَّسِمُ بمعانيَ ملحوظة، إلا أنّ المقايضةَ ذاتَها عاملٌ اقتصاديٌّ هام. يُسمّى الشيئان الممكن مبادلَتُهما ببعضهما بالسلعة أو البضاعة. وبينما لم يَكُن المجتمعُ متعرفاً بعد على أيةِ قيمةٍ عدا قيمةِ الاستخدام، لَم يَستَسِغْ أو يُصادِق أخلاقياً على المقايضةِ حتى أجَلٍ طويل. بل بَقِيَ متشبثاً بنظامٍ نسميه باقتصادِ العطايا والهدايا. فأيُّ شيءٍ ينتجه أو يحظى به، ويَعتَبِره قَيِّماً ونفيساً، كان يُقَدِّمُه هديةً لِمَن هو مُعَزَّزٌ لديه. فثقافةُ الهدايا تُعَبِّرُ عن العُلُوِّ والرفعة. ومَن يُعلى مِن شأنه يُمنَح الهدايا. هكذا يَكُون العزيزُ قد تَمَّ تكريمه وتشريفه. أما الأشياءُ الأخرى المتبقية، فكانت تُستَهلَك في الحياةِ اليومية. هذا وكان لا يُنظَر بعينٍ إيجابيةٍ للتكديسِ والادخار أيضاً. هكذا عاشت الجماعاتُ البشرية على مدى ملايينِ السنين. فأخلاقُ المجتمعِ ووجدانُه لم يَكُ يستسيغُ بأيِّ شكلٍ من الأشكال تبادلَ السلعِ والأمتعة، أو مقايضتَها بالنقود. ذلك أنه لَم يَكُن يفكرُ بإمكانيةِ وجودِ مقابلٍ أو ثمنٍ للقيمةِ التي أَنتَجَها. بل ولَم يَكُ يَرَى مجردَ التفكيرِ بذلك مناسباً من الناحيةِ الأخلاقية. وربما كان بفطرته السليمةِ أو بِوَعيِه الأخلاقي يَعتَبر ذلك طريقةً من الحيلةِ والمكر.
إذا كانت عتبةُ المقايضة هي عتبةُ الاقتصاد، فلن يَكُون دخولُ الاقتصاد على هذا النحو مدخلاً حسناً بطبيعةِ الحال، لأنه عُمِل به رغماً عن التقاليدِ الأصلية. قد يَكُون بالإمكان افتراض كونِ المقايضة القيمةَ الأساسيةَ للعلاقةِ الاقتصادية. لكني على قناعةٍ بأنه مِن غيرِ المعقول اعتبارَه الافتراضَ الوحيد. بالمقدورِ عَلمَنةَ الاقتصادِ بالمؤثراتِ الأخرى عدا المقايضة، أو بالأصح بالمستطاع – وبكلِّ يُسر – تطوير الأشكال الأخرى المختلفةِ عن المقايضة، حتى والمرتكزةِ إلى المقايضة المقبولةِ غيرِ المتأسسة على الوساطةِ كالمال. ولن تتخلفَ النظريةُ والممارسةُ العملية عن الإبداعِ بشأنِ تطويرِ تلك الأشكال. الأهمُّ من المقايضةِ هنا هو مسألةُ تَحَوُّلِ الأمتعةِ إلى بضائع. تُعَرَّفُ تَبعيةُ قيمةِ الاستخدامِ للمقايضةِ بِالتَّسَلُّع. يتقاربُ توقيتُ ظهورِ ظاهرةِ السلعةِ في المجتمع مع بدءِ العصر الحضاري. والسلعةُ هي العاملُ الأساسي في القبولِ بالتجارة. وبدءُ كينونةِ السلعةِ نفسِها يتزامن مع لحظةِ خروجها من حوزةِ أولِ مالكٍ لها. أي أنّ الرضى بإخراجها من حوزتِه هو بدايةُ ظهورِ السلعة. وعندما يَأخذها أحدٌ ما مقابلَ شيءٍ آخر، يَكُونُ أَجَلُ السلعة قد اكتمل. لِنُعطِ مثالاً آخَر مجدداً. لِنَتَصَوَّرْ شخصاً بَدَّلَ غزالاً اعتنى به ورعاه سنين عديدة بماعزٍ رعاه شخصٌ آخَر سنين عديدة. مِن المحال البرهان في أيِّ وقتٍ من الأوقات على أنّ هذا التبادلَ عادلٌ ومتساوٍ، لأنه لا أحدَ يَعلَمُ كَم تَصَبَّبَ جبينُ كلِّ واحدٍ منهما عرقاً. والأهمُّ من ذلك، لا يمكن أبداً اعتبار الماعز والغزال نِدَّين متكافئَين. لا شكَّ أنّ الغرضَ من هذه التشبيهاتِ الجزئية (التشبيه بالأمثلة) هو التِماسُ واستشعارُ التناقضِ في منطقِ المقايضة. ومثلُ هذه التناقضات موجودةٌ دوماً.
لدى عودتنا مجدداً إلى موضوعِ المال بناءً على القبول بوجودِ تلك التناقضات، فسننتبهُ بنحوٍ أفضل إلى الحِيَلِ والألاعيبِ التي يشتمل عليها. إنَّ فهمَ خاصيةٍ أخرى جيداً يحظى بأهميةٍ قصوى لدى التعرفِ على المجتمعات؛ ألا وهي عدم كونِ الظواهرِ الاجتماعية ظواهرَ فيزيائية. إنّ H2O هو جزيءُ الماء دائماً في ظروفِ الدنيا القائمة، ولا معنى آخَر له، وإنْ لَم يَكُن ذلك حكماً مطلقاً. أما المجتمع، فهو حِزمةُ الظواهرِ التي أَنشأَها الإنسان، حتى ولو كانت تَحمِلُ بين طواياها المجاهيلَ الكبرى. وقد يُغَيِّرُ المجتمعُ ما أنشأه بنفسه، لِيَبنيَ إنشاءاتٍ جديدة. تَظهَرُ القاعدةُ التالية إلى الوسط: الوقائعُ الاجتماعية وقائعٌ منشَأة، وليست هِبَةً من الطبيعةِ أو الإله. إذن، والحالُ هذه، فالمالُ أيضاً واقعٌ مُنشَأٌ وبكلِّ يُسر. وموضوعُ المقايضةِ والسلعِ أيضاً وقائع افتراضيةٌ منشَأة، وليست هِبَةً من الطبيعة أو الإله.
مِن أفدحِ الآثامِ التي اقتَرَفَها الوضعيون هو إدراجُهم الوقائعَ الاجتماعيةَ والوقائعَ الفيزيائيةَ في الفئةِ نفسِها من حيث نوعيتها كظواهر. فعندما نُساوي بين الظاهرةِ الاجتماعيةِ والواقعِ الثابتِ اللامتغير، نَكُون قد فَتَحنا البابَ على مصراعَيه أمام البراديغمات الاجتماعيةِ المُثقَلَةِ بأقصى درجاتِ الضلالِ والزيغ. من المستحيل عدم تَلَمُّسِ هذه المخاطر عندما ننظر إلى الاقتصاد من الجانب الوضعي. وإذا ما فُهِمَت القوموياتُ حينها كتعبيرٍ عن الحقيقةِ الموضوعية Nesnel القائمة، فسيتم السقوط آنئذٍ إلى منزلةِ هتلر وستالين المتماثلَين على الصعيدِ الفلسفي، وإنْ كانا مختلفَين في المكانة. فكِلاهما، وجميعُ الوضعيين، والمنادون بالماديةِ البحتة أيضاً لن يَنجوا عندئذٍ من النظرِ إلى الحقائق التي يَقبَلون بها كظواهر مطلقة. فضلاً عن أنّ المؤثرَ الآخَرَ الذي يَجعَلُ موضوعَ المال حساساً للغاية، إنما يتأتى من المفهوم الذي يَنظُرُ إلى المجتمعِ من هذا السلوكِ الوضعي. أي، اعتبار المال حقيقةً كاملة. بالتالي، فالتبادلُ بوساطته يتحول طردياً إلى إدراكِ أنه الحقيقةُ الكاملة.
إنّ البحثَ والتمحيص في كيفيةِ دخولِ المال في الاقتصاد بالتزامن مع المقايضة، والتطوراتِ التي طرأت عليه طيلةَ التاريخ ليس موضوعنا. لكنّ تَحَوُّلَ المالِ تدريجياً إلى عاملٍ لا غنى للاقتصاد عنه، يُفيدُ بتفاقمِ المخاطر التي يحتويها. فإذا ما قَارَنّا عمليةَ مقايضةٍ واحدةٍ مع ما تحتويه من تناقض، فسيتم استيعاب مدى الأوضاع الخطرة والنزاعاتِ والشرور الناجمة عن اكتسابِِ المال قوةً لا حدودَ لها في المقايضة. فكَون الشيءِ تشخيصاً ملموساً لآلافِ التناقضات ليس بالأمرِ اليسير. وبوصوله عصرَ التمويل بعد قطعِه المسافاتِ الشاسعةَ على دربِ الاقتصاد بحالته المتناقضةِ تلك، فإنّ العملَ على جعلِ المجتمع مفهوماً، دون الالتفاتِ إلى الوضع البارزِ للوسط بكلِّ هَولِه، لن يعنيَ شيئاً سوى خداعَ الذات. الهَولُ والكارثةُ التي نقصدها هو وصولُ المالِ إلى أكثرِ العصور تطوراً، رغمَ كلِّ تناقضاته المحتدمةِ. هذا السجلُّ أَشبَهُ بِتَعيين طاغيةٍ جدِّ متعجرفٍ قائداً لجيشٍ جَّرار. فالحالةُ المؤقتة لهذه الأداةِ المرحلية للغاية، والمشكوك في أمرها، والمستندةِ بدايةً إلى قَبولٍ آنِيٍّ بها من قِبَل المتواجدين المعنيين فقط من المجتمع؛ يتم الإعلاء من شأنها لِتَصِلَ طابقَ الإله مع الزمن. بل وممسكةً بقوةِ القيادة والسيادةِ الأكثرِ اقتداراً في قبضةِ يدها.
إنّ البحثَ في تاريخِ تطورِ المال موضوعٌ مثيرٌ جداً. يُقال أنّ أولَ عُملةٍ ذهبيةٍ في التاريخ ابتَكَرَها كروسس الليدي. كما يُقال أنه مَكَثَ في مدينةِ سارد التابعة لِمانيسا، والتي تَسَبَّبَ النبشُ فيها عن الذهب بمشاكلَ كثيرة، فلَم تَبقَ ويلاتٌ إلا وحَلَّت بها. المالُ شيءٌ يحظى بوضعيةٍ عويصةٍ للغاية، بحيث لا يمكن البقاء معه، ولا من دونه. المعلومُ فقط هو تَسارُعُ تطورِ مقايضةِ السلع وتكديسِ المال يداً بِيَد، واحتلالُ المالِ حجرَ الزاويةِ في الاقتصاد. هذا ويتضحُ من مئاتِ أنواعِ العملاتِ الباقيةِ حتى يومنا الراهن أنّ استخدامَ المالِ كان مستفحلاً جداً في المدنيةِ البرسية والإغريقية – الرومانية.
فالريالُ في الحضارةِ الإسلامية كان قد بَلَغَ مكانةً معتَبَرةً ذات شأنٍ يُعادِلُ ما للسلاطين منه بأقلِّ تقدير. وكان عرشُ المال في المدن منيعاً. وكان الصَّرَّافون اليهود على وجهِ التخصيص قد تَمَتَّعُوا بأهميةٍ قصوى. حيث كان الصَّرَّافون والتُّجَّارُ اليهودُ والأرمن قد خَطُّوا مساراً من احتكارِ المال والتجارةِ موازياً للمدنِ الواقعةِ على الطرق التجارية الممتدةِ من أوروبا إلى بلادِ الهند. وكان هذا الخطُّ من رأسِ المال موازياً في تأثيره البليغِ للهيمنة السياسية، بحيث أَخضَعَ السلطناتِ والإماراتِ لِحَدٍّ كبير. وكان تأثيرُهم يتزايد باستمرار في كلٍّ مِن أوروبا وآسيا. ربما لِهذا الواقعِ نصيبُه الهام من تَزايُدِ ردودِ فعلِ المجتمعاتِ إزاء أقوامِ اليهود والأرمن. إنّ هذا الوضعَ أمرٌ جِدُّ هام، بحيث يقتضي وضعَه نُصبَ العين لدى البحث والسبرِ في المذابحِ المنظَّمة المطبقةِ بِحَقِّ اليهود والأرمن.
بدأ استلامُ المدنِ الإيطالية مرتبةَ الريادة في المالِ والتجارة من العالَمِ الإسلامي بالتوجهِ صوبَ أواسطِ القرن الثالث عشر. ونخص بالذكر نشوءَ البندقيةِ وجنوى وفلورنسا كمعجزةٍ حقيقيةٍ للمال والتجارة. حيث كانت مدناً متلألئةً كالنجوم في ريادتها لأوروبا حتى القرن السادس عشر من جميعِ المناحي، تتقدمها حركةُ النهضة. لم تَكتفِ المدنُ الإيطالية بتحقيقِ ثورةِ النهضة وحسب، بل كانت من المؤسسين الهامِّين لثورةِ المال أيضاً. وبالرغم مِن تَواجُدِ رُوَّادِها الأوائل في العالَم الإسلامي، إلا أنّ مساهماتِها عظيمةٌ للغاية. فتلك المدنُ هي التي طَوَّرَت وقامت بمأسسةِ كلِّ أدواتِ البرهان والتسويغِ المالي التي لا غنى عنها في ظلِّ الحداثة، من قَبيل البنوك، السندات، النقود الورقية، القروض، والمحاسبة. لهذه المستجداتِ دورُها العظيمُ جداً في تاريخِ المال، حيث أدت دورَها كثورةٍ بِحَدِّ ذاتها في مجالِ نماءِ السوق والتجارة. بل وربما ضاعَفَت مِن وتيرةِ التبضعِ والتمولِ مئات المرات. كما كانت نقطةَ عَلاّمٍ على دربِ تصاعُدِ هيمنةِ المال.
كان المجتمعُ يُهيَّأ شيئاً فشيئاً للخنوعِ لِتَحَكُّمِ تلك الوسائل. وما يتحقق كان بمثابةِ إجراءاتٍ تكنيكيةٍ بسيطةٍ ظاهرياً. حيث كانت البنوك ستَكُون أماكناً لادّخارِ المال. والسنداتُ كانت قطعاتٍ ورقيةٍ مقابل المال. والنقودُ الورقيةُ كانت ضرباً من السنداتِ العامة، خفيفة، تُسَهِّل الأمورَ وتُسَرِّعها. والقروضُ كانت الديونَ النقديةَ الممنوحةَ للزبائن الذين ضاقت بهم الأحوالُ مقابلَ فائدةٍ ماليةٍ مناسِبةٍ يتم الإيفاء بها لاحقاً. وكانت أيضاً تُسَرِّع من وتيرةِ العمل، وتَحُولُ دون البقاءِ بلا عمل، وتُعَجِّل من سيرِ الأمور، بدلاً من أنْ يَجلس المعنيُّ كَسولاً خاملاً، وتفيد في سَدِّ الديون بالمال الذي سوف يُجنى، لِتُؤَدِّيَ بذلك دوراً نافعاً ومبارَكاً. والمحاسبةُ كانت عبارة عن مستنداتٍ تَقُومُ بتصفيةِ وتبيانِ حساباتِ الربح والخسارة وأوضاعِ الصادراتِ والواردات، وتَعكِسُ الوضعَ المرحليَّ للأشخاصِ أو الشركاتِ كالمرآة. إنها ثوراتٌ بسيطة، ولكنّ بنتائجَ مذهلة. والمدنُ الأوروبيةُ وعلى رأسها سافيللا Sevilla، لشبونة Lizbon، لندن، أمستردام، هامبورغ، ليون Lyon، آنفيرس Anvers، وباريس؛ قد نَشَرَت ثمارَ تلك الثوراتِ الإيطالية مع محصلاتِ حركةِ الإصلاح في بلدانها بسرعة، لِتُعَمِّمَها على القارةِ بأكملها، وتُعَظِّمَ من شأنها.
كنا قد عَرَضنا بالخطوطِ العريضةِ كيفيةَ تحويلِ هولندا وإنكلترا لثمارِ تلك الثورة المدعومةِ باقتدارٍ إلى ثورةٍ رأسماليةٍ عامة في ميدانِ الزراعة والتجارةِ أولاً ثم في ميدانِ الصناعة خلالَ القرن السادس عشر. إنّ رأسَ المالِ والرأسماليَّ والرأسماليةَ هي الدرجاتُ التمهيديةُ على سُلَّمِ سلطانِ المال. إنهم المُلوكُ الحقيقيون الواثبون على هذه الدرجات: الملوكُ العُراة. كان العصرُ التجاري وأرباحُه المتعاظمةُ بسرعةِ البرق مَدِينةً بنسبةٍ كبرى لهذا التحولِ المالي ووسائلِ المال. كانت سيادةُ المال تتقدم من الأعماقِ بصمتٍ أَصَمّ. كانت تُراهِن، لا على المُلوكيةِ فقط، بل وعلى الألوهيةِ أيضاً. بل وبشكلٍ ذاتيٍّ مباشَر وغيرِ مُقَنَّعٍ لأولِ مرة. والعصرُ الصناعي كان مَدِيناً له بالكثيرِ الكثير من جهة، ويَمُدُّه بالفُرَصِ العظيمةِ من جهةٍ أخرى. إذ كان مِن المحالِ تحقيق الثورةِ الصناعية في المجتمع، دون التسوُّق، التمدن، التبضع، والتَركيز التجاري. وكلُّ تلك المراحل كانت مستحيلةً بدون المال. كان تَسارُعُ وتيرةِ المال والتموُّلِ قد اتَّسَمَ بدورِ الدورةِ الدموية في أعضاءِ الجسد. فمجرد انقطاعِه عنها كان يعني استحالةَ عملِ الأعضاء، وفقدانَها وظائفَها. وهذا بدوره ما كان يعني الموتَ بعينه.
سيُفهَم الوضعُ على نحوٍ أفضل لدى تحليلنا للعلاقةِ بين المعملِ والعامل. إذ مِن غيرِ الممكن تشغيل المصانع بالعبيدِ والأقنان القرويين القدامى. وما كان للتحولِ إلى عاملٍ أنْ يَتُمّ، دون الانقطاعِ عن السيدِ والأفندي والأرضِ معاً. أي أنّ التحولَ التامَّ إلى عاملٍ يتحقق فقط بالأَجْرِ المطلق. أما الأجر، فهو قيمةٌ لا يمكن دفعها إلا بالمال. هكذا تَكُون تبعيةُ العاملِ الأكيدةُ للمال قد تحققت. كان المالُ قد نَجَحَ في إخضاعِ العبدِ الجديدِ لهيمنته، دون الحاجة إلى الأفندي والسيد. إنها خطوةٌ عملاقةٌ على دربِ التحولِ إلى سلطة. وبهذه الطريقة يَكُون المجتمعُ الصناعي الجديدُ شكلَ المجتمعِ الكبيرِ الأول المعترِفِ بهيمنةِ المال المطلقة، في حين لَم يَكُن أيُّ مجتمعٍ مدينيٍّ سابقٍ قد اعترف بحاكميةِ المال وسيادته لهذه الدرجة. هكذا بات المالُ ثقافةً بِحَدِّ ذاتها في مجتمعِ الصناعة. وكلُّ شيءٍ يَكتَسِبُ معناه حوله. وبقدرِ ما يُفسِحُ الطريقَ أمام الطموحاتِ والخيالات الكبرى، يستحيل الشروع بكلِّ المشاريعِ الضخمةِ من دون المال. وغَدَت كلُّ أُسرَةٍ واعيةً لضرورةِ المال المطلقة، بدءاً من شراءِ حذاءٍ صغيرٍ لطفلها، إلى إنارةِ أضواءِ منزلها، سواءً أكانت تسكن القريةَ النائيةَ في الأقاصي، أو في ضواحي المدن الأكثر تقدماً. كان من المستحيل تَصَوُّر بقاءِ عملٍ أو مخططٍ إلا وشُرِع به في سبيلِ الحظيِ بالمال. أضحى الجميعُ مُرغَماً على تقديمِ كلِّ ما يلزم لإلهِه الجديد، في سبيلِ اكتسابِ المال.
ظاهرياً كانت قيمةُ الجهدِ المقدَّسِ هي التي تُباع. وهذا أحدُ أكثرِ الأخطاءِ النمطيةِ التي أسفرَ عنها المال. فالمُباعُ بالمال، أي المُستَخرَج من اليد ليس الجهدُ وحسب. فلأجل الحصولِ على الجهد، كان ثمة حاجةٌ لجسدٍ سليمٍ أولاً. ولأجلِ الحصولِ على الجسد، كان ثمة حاجةٌ لأُمٍّ. ولأجلِ الحصول على الأمّ، كان ثمة حاجةٌ لامرأة. وهكذا تتكاثرُ لائحةُ السببيات "لأجل" إلى ما لانهاية. فضلاً عن أنّ الجهدَ كان يجب أنْ يتسمَ بالمهارةِ والبراعة، حيث لا يمكن شراءه من دونها. ولأجلِ ذلك كان ثمة حاجةٌ للمعلِّمِ الخبير وصاحبِ الورشة. ولأجلِ هؤلاء كان ثمة حاجةٌ لخبرةِ العمل المتراكمةِ خلالَ آلافِ السنين، ولِكادحيها. إذن، فأجرٌ بخسٌ زهيدٌ – يَزيد قليلاً عن معدلِ إشباعِ البطن – كان لعبةً لإخراجِ كلِّ هذه القيمِ المقدسةِ من حوزةِ اليد. كان التاريخُ والمجتمعُ هما اللذان يُباعان. هكذا تَحَوَّلَ الإنسانُ الفردُ إلى أداة. ما كان لأيِّ إلهٍ اجتماعيٍّ حتى الآن أنْ يَتَحَكَّمَ بعبادِه ويتَسلَّطَ عليهم لهذه الدرجة.
نقطةُ العَلاّمِ الأخرى الهامةُ في تاريخِ المال كانت تتجسد في تَخَلُّصِه من إظهارِ المعادن النفيسةِ كالذهبِ والفضة كمقابلٍ في المقايضة. تَحَقَّقَت هذه الثورةُ العظمى – ثورةُ المال الأَسْوَد – في أعوامِ السبعينيات. هكذا بات المالُ حراً. كان قد أَنجَزَ تحررَه الأولَ بِربطِه بآلياتٍ من قَبيل الأوراق والسندات والقروض على يدِ المدن الإيطالية الحرة. أما ثورتُه العظمى الثانية، فكانت تحققَت بإنقاذِ الدولار الأمريكي رسمياً من تبعيتِه للذهب والفضة.
كان تَمَّ الولوجُ رسمياً في عصرِ التمويل مع هذه الثورة. هذه هي الظاهرةُ المتسترةُ وراءَ التطورِ التاريخي المسمى بِحَملةِ العولمةِ الكبرى الثالثة. فحملةُ العولمةِ الكبرى الأولى للرأسمالية كانت – مثلما هو معلوم – حَملاتِ الاستعمارِ وشبهِ الاستعمار القارّي لعصرِ التجارة (ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر الميلاديَّين). وحملةُ العولمةِ الكبرى الثانية كانت حملةَ الإمبريالية للعصرِ الصناعي (وتمتد بخطوطها العريضة من بدايات القرن التاسع عشر إلى الربع الأخير من القرن العشرين)، وما تَمَخَّضَ عنها من حروبٍ طبقيةٍ ووطنيةٍ واسعةِ النطاق. وكون المالِ أحدَ أهمِّ البَنَّائين الأساسيين لهذه المراحلِ المستمرةِ ما يقارب أربعةَ قرونٍ بحالها، إنما هي حقيقةٌ لا تَقبَلُ الجدل. بالتالي، لن يَكُونَ من الخطأ نعتها جميعها بعصرِ المال. إنّ الإلهَ الأعظمَ للحداثة الرأسمالية هو الدولةُ القومية (زيوس، جوبيتر)، وهي إلهُ السلطةِ والحرب (آرَس ومارس). أما المال، فكان الإلهَ الجديدَ المتصاعدَ للاقتصاد وللعصر الحديث الذي لا نِدَّ له في التاريخ بالمعنى العام. إنه الإلهُ الذي يطغى على كافةِ الآلهةِ القديمة، ويؤسس عليها هيمنتَه وسيادته!
الخاصيةُ الأساسيةُ لعصرِ التمويل تتمثل في انتقالِ مؤسسةِ المال (بكلِّ آلاتها وأدواتها) إلى مرتبةِ الصدارة. لقد بَسَطَ مراقبتَه التامةَ على الاحتكارات الصناعية والتجارية. كما أَخضَعَ الدولةَ أيضاً لِتَبَعِيته الكاملةِ باعتبارها احتكاراً (وخاصة الدولة القومية). هذا واندَرَجَت جميعُ مستوياتِ الاقتصاد الرئيسيةِ المؤلَّفةِ من محافلِ الاستخدام (الاستهلاك) والإنتاجِ والتبادلِ تحت سيطرةِ المال كلياً. أما الأدواتُ المستخدَمة، فتُشَكِّل لائحةً طويلةً من الآلات، من قَبيل: صندوقِ النقد الدولي، البنكِ الدولي، منظمةِ التجارة العالمية، جميعِ البنوكِ المركزية في العالم، البنوكِ العالمية، مختلفِ سنداتِ القروض، الأسواق والبورصات، سنداتِ الاستثمار والتحويل، بطاقاتِ الاستهلاك، الربا، وأسعارِ العملات. وبوساطةِ هذه المؤسساتِ بات المالُ أَشبَهُ بِشَبَح. أو بالأحرى، بَقِيَ في منزلةِ الحاكمِ الهرمي القديمِ للعائلةِ الأبوية. وتؤدي هذه المؤسساتُ الحديثةُ العهدِ دورَ الولدِ بدلاً منه. لكنّ الحقيقةَ الواقعةَ هي أنّها جميعها تَحمِلُ معها بذرةَ أسلافِ المال.
تُؤلِّف هذه المؤسساتُ شبكةً مدهشةً فيما بينها، بحيث تَكُون مُنَظَّمةً لآخِر درجة، وتتخابرُ فيما بينها ثانيةً بثانية. إنها تؤثرُ ببعضها البعض، ويُرَتَّب حِراكُها على المدى القصيرِ والمتوسطِ والطويل. وقد جَرَت العادةُ على تسميةِ الحركات ذاتِ المدى القصير بـ"المال الساخن"، وذاتِ المدى المتوسط "سندات الاستثمار والتحويل"، وذاتِ المدى الطويل "السندات الطويلة الأجَل". إنها قادرةٌ على تغييرِ الاسم والفترةِ على التوالي. وهي تتحققُ بسرعةٍ تَفُوقُ ما عليه جميعُ الوقائعِ الاجتماعيةِ المنشَأةِ الأخرى. وأداةُ المحاسَبةِ الأساسيةُ هي الدولارُ واليورو. وهي وحداتُ العملةِ للولايات المتحدة الأمريكية والاتحادِ الأوروبي. وإلى جانبِ الاستمرار في التَّمَرُّسِ والمزاولة، إلا أنه يمكن اعتبار هذا النظام مكتملاً. إذن، والحالُ هذه، كيف تتحقق الأرباحُ في ظلِّ هذا النظامِ الجديد، باعتبارها الغايةَ الأولية؟
لقد نُقِلَت كلُّ العلاقاتِ والتناقضات الاقتصاديةِ والاجتماعية والسياسيةِ القائمة في العالم كما هي عليه إلى هذا النظامِ الافتراضي الجديد. بل وحتى أدواتُ الحجةِ والبراهينُ الأيديولوجيةُ والأكاديميةُ والثقافيةُ الأخرى أيضاً قد أَحكَمَ النظامُ مخالبَه عليها. إنّ النظرَ إلى الحقيقة عن كثبٍ أكثر سيُزيدُ من قوةِ إدراكِنا ووعينا.
ما الذي يعنيه كون الدولار (واليورو الاحتياطي) وحدةَ المحاسَبَةِ الأساسية؟ أيٌّ مِن العلاقات والتناقضات، وبالتالي التحالفاتِ والحروب في العوالم المُشَخَّصةِ الملموسة تَعكِسُها تَبَدُّلاتُ أسعارِ الصرفِ والمبادلة فيما بين ساحاتِ تراكمِ الدولار والأموالِ الوطنية، وكذلك تَبَدُّلاتُ سنداتِ الاستثمار والتحويل، الأسهمُ المالية، وتَقَلُّباتُ أسواقها، وتَبَدُّلاتُ الربا والأسعار؟ تُرى، أَلَم تنتقل الحربُ العالمية الثالثة، التي طالما يزداد الحديثُ عنها باطراد، إلى هذا العالَمِ الافتراضي الرمزي بدرجةٍ كبرى؟ أَوَلَيست الحروبُ المندلعةُ في العالَمِ الحقيقي بمثابةِ ما يَطفو مِن عالَمِ الزلازل ذاك إلى وجهِ السطحِ بين الفينةِ والأخرى مِن بين الثغراتِ المتولِّدَةِ بالقرب من خطِّ الانكسار؟
لَطالما يُجمَع على الرأيِ القائل بِكَونِ الولاياتِ المتحدة الأمريكية القوةَ المهيمنةَ بعد الحربِ العالميةِ الثانية الكبرى. وما الوزنُ العالَميُّ للدولار كوحدةٍ مالية، سوى محصلةٌ لتلك الهيمنة. المثيرُ في الأمر هو خلاصُ الدولار من استبداله بالذهب بالتزامن تماماً مع بلوغِ هذه الهيمنةِ أوجَها. واضحٌ جلياً أنّ هذا يَعكِسُ كونَها هيمنةً عالميةً تتميز بضربٍ من ضروبِ اللامحاسبة واللامبالاة. معلومٌ أنّ أمريكا أَطلَقَت منذ أعوام الثمانينيات ما يضاهي ترليوناتِ الدولارات أضعافاً مضاعفة إلى العالَمِ دون مقابل. إنه حَدَثٌ مروِّعٌ مفاده أنْ تَجنيَ ترليونَ دولارٍ في العام بتشغيلِ مطبعةِ العملات لوحدها. لَم يُضَخِّمْ المالُ نفسَه لهذه الدرجة في أيِّ عصرٍ أو أيِّ مكانٍ آخَر. هل ثمةَ أداةٌ أخرى عدا هذه الظاهرة توضحُ بشكلٍ أفضل مدى انعكاسِ كينونةِ الهيمنةِ على المال لأولِ مرة، أو مدى الاعترافِ بِكَونِ المالِ ذاتِه هو الهيمنة؟ فإذا ما وضعنا نصبَ العين كون جميعِ الدولِ القومية مديونةً (الغريبُ والمثيرُ حقاً هو أنّ الولاياتِ المتحدةَ الأمريكية نفسَها هي الدولةُ القومية الأكثر مديونية)، فستزداد – مرةً أخرى – قدرةُ إدراكنا لأسبابِ كونِ المالِ هيمنةً بكلِّ معنى الكلمة. فضلاً عن أنّ ألاعيبَ المالِ الصغيرةِ للغاية (حركاتُ تخفيضِ ورفعِ معدلِ الفوائد والأسعار)، والتي يُديرها البنكُ المركزيُّ الأمريكي، تَهُزُّ أركانَ العالَمِ بشدة؛ إنما يوضحُ بكلِّ جلاءٍ مدى رسوخِ نظامِ التمويل. بمعنى آخر، فالظواهرُ التي تُبرهِنُ قوةَ المالِ زائدةٌ عن الحد.
علاقةُ الأزمات بالنظامِ أكثرُ لفتاً للأنظار. فالأزماتُ الدوريةُ المتناثرةُ والمؤثرةُ تسلسلياً في آسيا وروسيا وأمريكا اللاتينية، إنما تجري كلياً في ميدانِ المال. أما الانعكاساتُ على الاقتصادِ المشَيَّد، فتأتي بعدها على الدوام. فبينما كانت الأزماتُ سابقاً تبدأ في العالَمِ المشيَّدِ لِتَنتهيَ في دنيا المال، فإنّ أزماتِ عصرِ التمويل تجري في مسارٍ معاكسٍ كلياً. حيث تُترَكُ أزماتُ الاقتصادِ المشَيَّدِ إلى آخِر الأمر، ولكنْ، يتمُّ إنهاؤها دون زيادةِ حِدَّتها، بعدَ تجييرِ ذاك البلدِ أو أقطابه نحو النهجِ الذي يشاءه أسيادُ دنيا التمويل. سوف يَكُون مثالُ روسيا مفيداً وتعليمياً. فبعدما تَشَتَّتَ الاتحادُ السوفييتي رسمياً في 1991، أُدرِجَ في مرحلةٍ من الأزمةِ المالية المتثاقلةِ طردياً، لِيَتُمَّ تصعيدها إلى الذروة في 1998.
غريبٌ حقاً. كنتُ – أنا أيضاً – في موسكو، ارتباطاً بالمستجداتِ المتسببةِ بخروجي المعلومِ من دمشق في تلك الفترة. كان المسؤولون الروس يقولون بضرورةِ خروجي من روسيا بأسرعِ وقتٍ ممكن، وأنهم سيَقُومون بما يمكنهم عمله في سبيلِ ذلك. حتى رئيسُ شبكةِ الاستخباراتِ العملاقةِ بنفسه كان يقول: "لو كنتَ هنا بعد ستةِ أشهر، لَكان كلُّ شيءٍ سيَكُون يسيراً، ولَما كنا سنتصرف بهذا النحو". أجل، فأزمةُ 1998 كانت قد فَرَضَت الاستسلامَ على روسيا، وكان يتم الاعترافُ بذلك من فَمِ أرفعِ المسؤولين. لا زلتُ أتذكرُ جيداً أنّ رئيسَ الوزراءِ الإسرائيلي آرييل شارون، ووزيرةَ الخارجيةِ الأمريكيةِ أولبرايت، اللذَين أدارا التمشيطَ المتعلقَ بي، كانا ذهبا إلى موسكو على عجَل، وأَمَّنا طردي خارجَ روسيا مقابلَ عشرةِ ملياراتِ دولار. كانت الاتفاقيةُ قد أُبرِمَت مع صندوقِ النقدِ الدولي لهذا الغرض. علاوةً على إبرامِ اتفاقيةِ "التيار الأزرق" بين تركيا وروسيا أيضاً مقابلَ شخصي. هذا هو الشرطُ الذي كانت تَفرضه روسيا، رغمَ معارضةِ أمريكا. فبعدما انجذبَت روسيا إلى سياساتِ الليبراليةِ المحدثةِ التي أرادها لها النظامُ الحاكم، شَرَعَت بالخروجِ تدريجياً من حالتِها المشلولة، لِتَلتَحِمَ مع النظام. وهكذا كانت تتحققُ ثورةٌ مضادةٌ في عصرِ الثوراتِ المضادةِ الافتراضيةِ والمالية!
سيَكُون من المفيدِ جداً تحليل كيفيةِ حكمِ عصرِ التمويل للعالَمِ المشيَّد.
أ‌- لقد تطرقنا مطولاً للروابط بين تَحَكُّمِ الاقتصاد المشيَّدِ بالعالَمِ وبين تصاعُدِ قدرةِ المالِ على السيادة. فغالباً ما تُؤخَذُ المشاريعُ التي تَخدمُ السياساتِ الرئيسيةَ للهيمنةِ أساساً. كيف سيتم التصوُّر والتخطيط للاقتصاد العالمي حسبَ عصرِ التمويل؟ أيُّ المناطقِ عليها التعمق في أيِّ السلع؟ ما هي حصتها؟ كيف ينبغي إعداد وترتيب السياسات الأساسية للبلدان؟ كيف يجب تحديث بُناها الاقتصادية والاجتماعية؟ كيف عليها سدّ ديونها؟ كيف عليها استخدام واستثمار مواردها؟ فضلاً عن ذلك، كيف يجب تجيير وتأهيل البلدان والاقتصاديات التي يسمونها بالعصابات العاصية؟ كيف ينبغي تأمين تلاحمِ وتكاملِ المعسكر السوفييتي القديم والصين والبلدان الأخرى المسماة ببلدانِ العالَمِ الثالث مع النظامِ المهيمن؟ كيف يتوجب ترتيب العلاقات مع إسرائيل؟ وبشكلٍ كليّ، سيتم وضع المشاريعِ أمام كلِّ بلدٍ وشركةٍ ودولةٍ وفردٍ بناءً على نقاطِ العَلاّم التي ينبغي على البلدانِ والدول والشعوب والعالم برمته مواكبتَها لتحقيقِ التواؤمِ والتناغمِ مع المعايير العامةِ للّيبرالية المحدثة في عصرِ التمويل الجديد. ويتم تأمين التمويل، أي الأدوات المالية اللازمة للاستثمارات المناسبة لتلك المشاريع، بعد إلزامها بالعديد من الشروط السياسية والعسكرية. أما الذين لا يلتزمون بذلك، فتُفرَض عليهم الأزمةُ إلى أنْ يَصِلوا نقطةَ الإفلاس. وبالأصل، فعصرُ التمويل يعني عصرَ تأمينِ القروضِ المشروطةِ للمشاريع.
هكذا يُشَغَّلُ النظام. إيضاحاتُنا المقتضبةُ تلك كافيةٌ بِمفردها للإشارةِ بكلِّ وضوحٍ وشفافيةٍ إلى كونِ الرأسماليةِ في عصرِ التمويل ليست اقتصاداً. وهي أدواتٌ مُثلى للبرهانِ على أنّ الألاعيبَ الورقيةَ ليست اقتصاداً، بل هي مفروضةٌ عليه من الخارج. فالأرباحُ العظمى للاحتكار تتحقق على هذه الأوراق. فهل ثمة خروجٌ عن الاقتصاد أكثر سطوعاً من ذلك؟ ما مِن قطاعٍ أو عصرٍ قادرٍ على إيضاحِ كيفيةِ جنيِ الربح المجاني بما يضاهي عصرَ التجارةِ والصناعة بفارقٍ شاسع، بقدرِ ما هو عليه نظامُ التمويلِ وعصرُه. إذ يُلَطَّخُ الجميعُ بالربح مقابلَ قسائمَ صغيرة، لِيَصِيروا شركاءَ للنظام في الجرمِ من جهة، وليُنقِذَ النظامُ نفسَه ويتقوى أكثر من جهةٍ أخرى. إنّ عصرَ التمويل خروجٌ عن الاقتصاد بدرجةٍ أثقل وطأةً مما عليه الصناعوية. وهو شكلُ المجتمع وثقافته.
واضحٌ جلياً أننا وجهاً لوجه أمامَ احتكارٍ مالي على أرفعِ المستويات. إنها مرحلةُ تَحَوُّلٍ احتكاريٍّ خارق، بحيث يصهر الدولَ أيضاً في بوتقته (حتى أمريكا كدولة). لقد تمَّ بلوغ مرتبةٍ من القوة المتمكنة من السيطرةِ على جميعِ مراحلِ السلطة، وتطويرها، وتدميرها، ومن ثم إعادةِ بنائها. هذا هو مضمونُ العولمة الجديدة. أي أنّ عصرَ الاتصالاتِ لا يَصِفُ العولمة، مثلما هو مُعتَقَد. إذ أنّ تَداخُلَ الاقتصادِ والسياسة (الاحتكار السياسي) على الصعيدِ الكوني بنسبةٍ فريدةٍ لا نِدَّ لها، يُشَكِّلُ مضمونَه الأصلي. وهو يُعَبِّرُ عن انضواءِ جميعِ الإرادات المحليةِ والوطنية والسياسية والاقتصادية تحت مراقبةِ القوى الاحتكارية العالمية الخارقة. إنه وضعٌ جديدٌ يقتضي التعمقَ فيه بكلِّ همةٍ ودقة.
ب‌- فتأثيرُها على الواقعِ الاجتماعي يرمي للغزوِ كلياً، بهدفِ بناءِ مجتمعٍ ماليٍّ وافتراضي. فالسبيلُ الأكثر تأثيراً في رسملةِ المجتمع هو إشراكُه في الربحِ بوساطةِ أدواتٍ من قَبيل سنداتِ الاستثمار، الودائع، التحويلات، والأسهم. هكذا يَكُون المجتمعُ قد التَحَمَ وتكامَلَ مع دنيا المالِ والتمويل، وفي مقدمته الطبقاتِ الوسطى على وجهِ الخصوص، ويُحَوَّلُ إلى قوةٍ دفاعيةٍ عن النظام مقابلَ حصةٍ زهيدةٍ من الربح. وتتحطمُ ردودُ الفعلِ المناهِضَةِ للنظام بنسبةٍ هامة. حيث يُفرَضُ الاستسلامُ على المجتمعِ الاستهلاكي بِرَبطِهِ بشكلٍ وثيقٍ مِن خلالِ آلافِ الأنواعِ من القروضِ المنهجية كقروضِ الاستهلاك والقروضِ الصغرى وغيرها. الأسلوبُ بسيط: إذ تُفرَضُ الأزماتُ أولاً، ويُضافُ إلى عالَمِ البطالةِ عالماً آخَر جديداً مِن العاطلين عن العمل. ويُعمَلُ على إخضاعِ الطبقةِ الوسطى حتى تصلَ نقطةً تَرتَجي فيها المعونة. وتُفرَضُ المجاعةُ والفقر إلى حَدِّ بلوغِ حافّةِ الموت. وتُعَمَّقُ الفوضى والاختلال، ثم يُعادُ بناءُ المجتمعِ بإلزامِه بالقروضِ مقابلَ الشروطِ المطلوبة.
كانت مساعي تحويلِ المجتمعاتِ في السابق ترتكزُ على الثوراتِ والحركات التنويرية والثقافية. أما الآن، فيتم اقتطافُ – أو السعي لاقتطاف – النتائجِ المأمولة بالأساليبِ المالية، وبمنوالٍ شاملٍ وممنهج، دون إحراقِ اليد بالنار، بل باستخدامِ الملقط. هكذا تَسري على كلِّ المجتمعاتِ حركاتُ المماثَلَةِ والتنميطِ العالمية، وتمريرها من البوتقةِ الثقافية الأحاديةِ لِخَلقِ الحشودِ ومجتمعاتِ الرعاع، وإعادةِ بنائها بحيث تَخلو من الاعتراضِ على النظام، مهما كان بسيطاً. بالتالي، فمشاريعُ المجتمعات تَقُومُ مقامَ الثورات واليوتوبياتِ القديمة بشكلٍ ما. أي، لَم يَعد ثمة حاجةٌ لليوتوبياتِ والثورات. فكلُّ شيءٍ يمكن جعلَه مشروعاً. فضلاً عن أنّ مُمَوِّلَها جاهز. يَلُوح أنّ هذا بالضبط هو المجتمعُ المضاد، مجتمعُ المحاكاةِ والنمطِ الواحد، المجتمعُ الافتراضيّ، ومجتمعُ الذهنيةِ الأحادية. تُرى، أليسَ المفروضُ هو عالَمُ ومشروعُ تطبيقِ الفاشيةِ بقناعٍ جديدٍ وبأبعادٍ كونية؟ ينبغي التعرفَ على مجتمعِ عصرِ التمويل وتعريفَه من جميع النواحي.
ج- تَتَّسِمُ السياسةُ وسياساتُ الدولةِ في عصرِ التمويل بخصائص متناقضةٍ نسبياً مع العصر الصناعي. إذ تتعمق الصناعويةُ أساساً في سياساتِ القوموية والدولة القومية، وتسعى لابتكارِ الاحتكارات. في حين أنّ حاجةَ عصرِ التمويل للاتسام بالكونية تَعتَبِر تلك الاحتكاراتِ عائقاً أمامها. وولادةُ الرأسمالية كنظامٍ عالميّ تُعرقِلُ دعمَها لاحتكارِ الدولة القومية حتى النهاية. ذلك أنّ احتكاراتِ الدولةِ القومية النازعةِ للانطواء إلى الداخل، تغدو حجرَ عثرةٍ يعترضُ طريقَ الاحتكارات المتطلعة للحِراك ضمن النطاق الكوني. ونخص بالذكر احتكاراتِ عصرِ التمويل، حيث لا يمكنها مضاعفةَ أرباحها إلا باستخدامها أدواتِها عالمياً. والدولةُ القومية تقف عائقاً جدياً أمامها في هذه الحالة. فإما أنْ يتمَّ ضبطُها حسبَ الوضعِ الجديد، أو أنْ تُهدَم. من هنا، وعندما قَبِلَت بذلك كلٌّ من كوريا الشمالية، ليبيا، سوريا، وإيران وأمثالها، تَمَكَّنَت من الحفاظ على وجودها. لكنْ، وعندما لم يَقبل العراق، تَعرَّضَ لغضبِ عصرِ التمويل من حيث الأهميةِ الرمزية، فكان من الضروري إنشاءَ الجديد، دون هدمه كلياً. فضلاً عن أنّ البرازيل، تركيا، الأرجنتين، الصين، الهند، وروسيا على وجهِ الخصوص، وغيرها من البلدان، ولِكَونها شهدت الدولةَ القوميةَ بأعمقِ حالاتها، فقد تَصَدَّرت قائمةَ البلدانِ التي أُرغِمَت على الترويضِ بالأزمات، لِتُرغَمَ بعدها على إعادةِ تحقيقِ تكامُلِها مع النظام مجدداً.
الأهمُّ من ذلك هو كون الدولةِ القومية ذاتِ المعيار الواحد تُعِيقُ العولمةَ أيضاً من الصميم. فالعولمةُ تضعُ في جدولِ أعمالها نموذجَ الدولةِ المقتصرةِ على السلطة المحدودةِ النطاق، والمُحَجَّمةِ، والتابعةِ؛ لا نموذجَ الدولةِ القومية باتحاداتها السياسيةِ المحلية. كما تَجهَدُ لإطراءِ التحويلِ على الدولِ متوسطةِ الحجم من خلالِ الوحدات المحلية. إنّ الدولةَ القوميةَ مُرَشَّحةٌ لِتَكُونَ على تناقضٍ طويلِ الأمد مع عولمةِ عصرِ التمويل. والعناصرُ المحدودةُ المناهِضةُ للرأسمالية في بُناها تَجعلُ من ذلك ضرورةً مُلِحّة. ونظراً للنواقصِ الغائرة التي تتمخض عن الدولةِ الكلاسيكية عموماً والدولةِ القومية غالباً، فإنه تجري المحاولاتُ لِتَطعيمها بنظامٍ محايدٍ يسمى بالمجتمع المدني، في حين أنه من حيث المضمون لا يُمَثِّلُ المجتمعَ المدني بكلِّ معنى الكلمة. إذ يُعمَلُ على إفراغِه من جوهرِه الديمقراطي، ومن ثَمَّ استخدامِه لتخفيفِ وطأةِ مأزقِ اللّيبراليةِ المتمثلِ في الدولةِ القومية. المجتمعُ المدني هو الساحةُ السياسية التي تَرَكَّزت عليها منازعاتُ المدنيةِ الكلاسيكية والحضارة الديمقراطية. لذا، فدمقرطةُ المجتمعِ المدني قضيةٌ مبدئية، ومن أُولى مهامِّ السياسةِ الديمقراطية التي ينبغي تحليلها وتفعيلها وتنشيطها.
يأتي في مقدمةِ المواضيع والقضايا الأساسيةِ المندرجةِ في جدولِ أعمالِ عصرِ التمويل على الصعيد الأيديولوجي: صراعُ المدنيات، الراديكالية، الإرهاب، إعادةُ إنشاءِ الدولة، العولمة، وإعلاءُ شأنِ الدين.
إنّ طرحَ صراعِ الحضاراتِ والمدنياتِ هامٌّ من ناحيتَين. إذ يُتَوَقَّعُ أنْ تَفرُضَ قوةُ هيمنةِ النظامِ القائمة مدنيتَها التي تنتمي إليها. أي أنّ الموضوعَ ليس – كما يُعتَقَد، أو كما تَعكِسُ بعضُ الأوساط – حضارةً بيضاء أو حضارةً أنكلوساكسونية مسيحية. فنظراً لعجزِ الحضارةِ الاشتراكيةِ المُرادُ خلقَها عبر الاشتراكيةِ المشيدة عن تَخَطّي نطاقِ الحداثةِ الرأسمالية أو التحلي بخصائصِ تجاوُزِها، فقد التقَت الاشتراكيةُ المشيدةُ مجدداً مع النظامِ القائم، مما أعطى انطباعاً بِتَخَطّي أزمةِ حضارةٍ مفترَضة. وقد كان لاحَ للعيان مع انهيارِ الاتحاد السوفييتي ورسملةِ الصين، أنّ الصراعَ بين القطبَين لم يَكُ صراعاً بين حضارةٍ ومدنية، بل بينَ قوتَين مهيمنتَين (تمثلان الحداثة عينها).
إلى جانبِ كونِ الساحةِ المسماةِ بالعالَمِ الإسلامي ميداناً حضارياً عريقاً في قِدَمه، فمكانةُ الإسلامِ الأقرب إلى ضربٍ من ضروبِ القوموية الإقليمية، وتناقضاتُه مع إسرائيل قد أَدرجَت قضيةَ المدنيات في الأجندة. فالشرقُ الأوسط لم يَكُ لِيَتَكاملَ مع النظامِ القائم بأيِّ شكلٍ من الأشكال خلال عصورِ الرأسمالية الثلاثة برمتها. والدولةُ القومية، دعكَ مِن أنْ تأتيَ بالحل، بل كانت تُعَقِّدُ القضيةَ أكثر فأكثر. علاوةً على أنّ تصعيدَ النزعةِ القوموية الدينيةِ في المملكة العربيةِ السعودية وإيران الشيعية على السواء، وسَرَيَانَ العنفِ المحتدمِ بكلِّ ضراوته، والتأثيراتِ الدائمةَ الثابتةَ للقضيةِ الإسرائيلية – الفلسطينية؛ كلُّ ذلك كان يُزيدُ من أبعادِ الجدل بشأنِ المدنية. إنه بُعدُ القضيةِ المتعلقُ بدواخلِ المدنية. أما البُعدُ الآخر، فكان رغبةَ شعوبِ المنطقة ومجتمعاتِها الموزاييكية في صونِ وجودها، والدفاعِ عن هوياتها الثقافية، والخلاصِ من الدولة الفاشية التي ليست سوى خليطٌ من الدولةِ القومية والدولة الاستبدادية. وبمعنى من المعاني، هو انعكاسٌ إقليميٌّ للصراعِ القائمِ بين الحضارة الديمقراطية ذات الطاقةِ الكامنة العليا، والمدنية الاستبدادية الكلاسيكية. واضحٌ تماماً أنه بالمقدورِ الحديث عن مشكلةٍ جادةٍ بين الحضاراتِ والمدنيات في منطقةِ الشرق الأوسط بتأثيرٍ من مسألةِ النفط والماء.
الراديكاليةُ في مضمونها ليست سوى ردَّةُ فعلٍ للدولةِ القومية إزاء عولمةِ عصرِ التمويل. وهي بطابعِها الديني والعرقي انطلاقاتٌ أيديولوجيةٌ – سياسية تَهدِفُ إلى انكماشِ الدولة القوميةِ على ذاتها أكثر فأكثر. وأمثلةُ ذلك موجودةٌ في كلِّ ميدان. فالأمثلةُ الدينيةُ منها كالإسلاميةِ والمسيحية والهندوسية والأرواحيةِ الأفريقية، والعناصرُ القوموية – العِرقية اليمينيةُ ضمن كلِّ دولةٍ قومية؛ تُشَكِّلُ معاً الجناحَ الراديكاليَّ الآخر. ولَطالما نجدُ أمثلةً تَدُلُّ على تصادمِ الطرفَين. إنهما يمثلان الشكلَ الرجعي للنزعةِ المحلية مقابل نزعةِ العولمة. من جانبٍ آخر، فالتياراتُ المحلية الديمقراطيةُ والثقافية والفامينية، والتياراتُ اليسارية تَقُومُ بِلَمِّ شملِها في محافلَ من قَبيل المنتدى الاجتماعي العالمي بشكلٍ خاص، وتُبدي القدرةَ على النقاشِ وتداولِ موضوعِ الحضارة الديمقراطية فيما بينها، ولو بدرجةٍ ناقصة. ويَغلُب الظنُّ أنّ الإرهابَ ما هو سوى حركةُ تآمرٍ واستفزازٍ من جانبِ النظامِ القائم. وثمة إشاراتٌ قويةٌ تؤكدُ أنها أدواتٌ ووسائل يُلجَأُ إليها عن وعيٍ وقصدٍ في سبيلِ إيجادِ ذريعةٍ شرعيةٍ لسلطةِ عصرِ التمويل. فتنظيمُ "القاعدة" على سبيلِ المثال، لا يزال محافظاً على خاصيته كَلُغز. إنّ عصرَ التمويل نفسَه محمَّلٌ بالخصائصِ الإرهابية الراسخة.
العلاقاتُ الاجتماعيةُ التي دَمَّرَها المال، هي بِحَدِّ ذاتِها قضيةٌ إرهابيةٌ كبرى. ما مِن إرهابٍ مؤثرٍ بقدرِ سيادةِ المال التي تَبتُرُ المجتمعَ من أواصرِه الغائرةِ في العمق. والقِسمُ الأكبرُ من النشاطاتِ التي يمارسها النظامُ القائم في جميعِ الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بهدفِ إنشاءِ وجوده وتأمينِ ديمومته، إنما تندرج في إطارِ الإرهاب الذي قَلَّما نجدُ له مثيلاً في التاريخ. إنه يسعى لإخفاءِ الإرهاب الأكبر من خلالِ عناصرِ التحريض والإثارة. أي، تأمين جنيِ المال من المال على نطاقٍ واسعٍ خارجَ إطارِ الاقتصاد المشيَّد، وتَحَوُّل اليدِ الماكرة القوية البارزة أمامنا دائماً طيلةَ سياقِ التاريخ إلى نظامٍ قائم، وتربعها على قمةِ المجتمع. إنّ ما اشتُهِر به الأربعون حرامي من سلبٍ ونهب لا يُشَكِّلُ حتى واحداً من المليار مقابل سلبِ ونهبِ احتكاراتِ عصرِ التمويل. وعملياتُ النهبِ والسطو الفسيحةُ الآفاقِ لهذه الدرجة، لا يمكن أنْ تتحققَ إلا في نظامٍ إرهابيٍّ بكلِّ معنى الكلمة. انطلاقاً من ذلك، فالظاهرةُ المسماة بعصرِ الاتصالات، لم يَكُ لها أنْ تَكُونَ ضروريةً إلا بهدفِ تغطيةِ وسَترِ إرهابِ التمويل. وربما يَكتَسِبُ ما سَمَّيناه بمصطلحِ إرهابِ الإعلامِ معناه وفقَ هذه المآرب. باختصار، فالنظامُ نفسُه أكبرُ إرهابيٍّ ظهَرَ وسيظهَرُ على مسرحِ التاريخ.
كما أنّ إعلاءَ شأنِ الدين أيضاً يَكتَسِبُ معانيه تأسيساً على عمليةِ التغطيةِ والستر. فالطرازُ الاستعماري يَشعرُ بحاجتِه الماسة لقوةِ شرعنةٍ عليا كالدين. ومرحلةُ الطردِ من الإنتاج وفق الحاجة، والمبتدئةُ سابقاً، تَبلغُ أوجَها مع عصرِ التمويل، وتتحققُ البطالةُ الجماعية. والمراحلُ التي يَصعبُ إيضاحها بالعلم (التطورات المحال قبولها)، لا يمكن إحياءها إلا بتسليسها بالدين. وهذا ما يحصل فعلاً. بالتالي، فالمُعَرَّضُ للقمعِ المذكور ليس ثقافةَ الدين، بل الحدثُ المسمى بإعادةِ التديين. ولدى تعصبِه، ينزلقُ كلُّ عصرٍ في التعصبِ الأيديولوجي. هكذا يُضَيَّق الخناقُ على المجتمع بِتَكبيله بسلاسلَ مِن قَبيل: النفعيةِ السمسرية الاقتصادية، مجتمعِ القطيع، صراعِ الحضارات، الإرهاب، والتعصبِ الديني. فعندما لا يُجدي القفصُ الحديدي والاعتقالُ المُشَدَّدُ في إحكامِ القبضة كلياً على المجتمع، تُضاف هذه الأنواعُ من المؤثراتِ الأيديولوجية الجديدة، وتَدخلُ حيزَ التنفيذ.
إنّ عصرَ الرأسمال المالي، الذي يَبدو وكأنه أعتى عصورِ الرأسمالية، يُعَبِّرُ عن الانهيار والانحلال بكافةِ خصائصه، ويشير إلى نفاذِ طاقته الكامنة في تأمينِ ديمومةِ النظام. كلما فَرُغَ عصرٌ ما من محتواه، شَعَرَ بالحاجة للتعصب. هذه الحاجةُ الاضطرارية لا تنبع من قوته، بل من ضعفه. الإنتاجُ هو النشاطُ الأولي الذي لا يمكن للإنسان أو المجتمعِ أنْ يعيشَ بدونه. أما عصرُ التمويل، فهو الاعترافُ بالعجز عن تحقيقِ ذلك. والنظامُ العاجز عن تحقيقِ الإنتاج نظامٌ عاطلٌ عن العمل. وهذا ما يجري. والنظامُ المتنافرُ لهذه الدرجة مع العمل والإنتاج، لا فرصةَ له في الحياة سوى اللجوء إلى الإرهاب. هذا هو أساساً ما يَدور الجدلُ عنه بكثرة، ويُحَرَّف، ويُطَبَّق بأساليبَ تآمريةٍ استفزازية.
كان قد شُرِعَ بترويجِ موجةِ الإرهاب في مستهلِّ أعوامِ الثمانينيات باعتداءِ الزعيمَين (رونالد) ريغين و(مارغريت) تاتشر على نيكاراغوا وفولكلاند Falkland، واللذان كانا يَقُودان قوتَي النظامِ المهيمنتَين أمريكا وإنكلترا. وكانت سُلطَتا الانقلابِ في كلٍّ من باكستان وتركيا بمثابةِ المساعِدَين المُقَرَّبَين منهما. في حين تَمَّ وَصْمُ كاملِ أمريكا اللاتينية بالإرهاب. والتنافسُ على التسلحِ المستمر مع حربِ النجوم، كان قد نَحَّى روسيا عن أنْ تَكُونَ قوةً مهيمنة. وإصلاحاتُ دينغ سياو بينغ في الصين كانت تنازلاتٍ مقدَّمةً للنظام. هذا وأُنهِيَت التنازلاتُ المتحققةُ مع حروبِ التحرر الوطني ودولةِ الرفاه، لِتَبدأَ عاصفةُ إرهابِ عصرِ التمويل بالهبوب في كلِّ الميادين. واستمرَّ كلينتون بهذه السياسة بمنوالٍ أكثر ليونة، ولكنْ، أقوى تأثيراً.
كان لَم يَتبقَّ سوى الشرقُ الأوسط، الذي لم يُقدَر على غزوه تماماً. وهو أيضاً كان قد صُيِّرَ عقدةً كأداء من المشاكل التي تَنهَلُ مَشارِبَها من المدنيةِ والراديكالية والإرهاب والدين. فإنْ كان النظامُ لا يرغب في التراجع، فهو مرغَمٌ حينئذٍ على إتمامِ غزوه، بهذا السبيل أو ذاك. فضلاً عن أنه كان ثمة قضيةُ النفطِ المصيرية أيضاً. فالبترولُ كان القطاعَ الذي استثمَرَه النظامُ أكثر من غيره، لِيَقِينِه من حاجتِه له لمدةِ قرنٍ آخر. القضيةُ العربية – الإسرائيلية كانت مسلَّطةً على رأسِ النظام كَسَيفِ ديموقليس. وكانت إيرانُ الشيعية مستمرةً في كونها تهديداً جدياً محيقاً.
كانت آفاقُ المشاكلِ المتفاقمةِ في المنطقة إرثاً متبقياً لها من إنكلترا وفرنسا. في الحقيقة، الحربُ العالميةُ الأولى لم تَكُ قد انتهت في المنطقةِ بعد. فالانقلاباتُ، التمردات، الحروبُ الأهلية، وحربُ الأنصار لَم تَكُن سوى مؤشراتٌ ودلالاتٌ على تلك الحالة غيرِ المنتهية بعد. كانت الحدودُ رُسِمَت بالمِسطرة، لا لِشيءٍ سوى للإكثارِ من أبعادِ المشاكل. كان بالإمكانِ التخمين بأنّ أمريكا تَهرَعُ وراءَ مشروعٍ ما منذ أجَلٍ طويل، بسببِ تلك المشاكل. فلو لَم تَكُن مشاكلُها مع الحرب الباردة، الاتحاد السوفييتي، أمريكا اللاتينية، وأوروبا؛ لَكانت مرغَمةً على التدخلِ في المنطقة منذ زمنٍ بعيد. تلك المشاكلُ المذكورةُ آنفاً كانت بالنسبة للنظام قد سارت على دربِ الحل جزئياً في مستهلِّ التسعينيات. أما قضيةُ الشرق الأوسط، فكانت مستمرةً مع استفحالِ الغرغرينا فيها. فإما كان عليه التراجع كلياً، أو التدخل كلياً. لكن، لو تراجعَ، لَكان النفطُ وإسرائيل سيَخرُجان مِن بين يديه، وكانت ستَتَوَلَّدُ فرصةُ إيران في بسطِ الهيمنة. كما كان صَدَّام قد مَسَّه هَوَسُ كونِه بسمارك العرب.
كان عصرُ التجارة قد سُيِّرَ بحروبِ الاستعمار والنهب والسلبِ العظمى. والعصرُ الصناعي مَرَّ مُثقَلاً بالحربَين العالميَّتَن الكبيرتَين، والحروبِ الطبقيةِ في داخله، هذا عدا حروبِ التحرر الوطني أيضاً. أما الرأسمالُ المالي، فكان أَقحَمَ المجتمعَ برمته في صراعٍ مع السلطة. وآخِرُ محطاتِ احتكاراتِ المدنية هذا، كان بمقدورِه الوصول إلى قعرِ الفوضى البنيويةِ مقابلَ فقدانِ الشرق الأوسط تماماً. والوضعُ المعاش أصلاً كان قريباً من ذلك. ففرصةُ النظامِ غَدَت متعلقةً بنسبةٍ هامة بالمستجداتِ الحاصلة في المنطقة. لهذا السبب بالذات، ولظروفها الخاصة، ما شُوهِد لَم يَكُ سوى حربٌ عالميةٌ ثالثة. والمستجداتُ اللاحقةُ كانت ستؤيد صحةَ ذلك.
أَعتَقِدُ أنّ العلاقةَ الحرجةَ والاستراتيجيةَ بين هذه المرحلة وبيني ستُدرَك لاحقاً على نحوٍ أكثر شفافية. والموضوعُ أصلاً يزداد وضوحاً بالتدريج. طَرَقَ مَسمَعي أنّ نصفَ المداولات الدائرةِ في اللقاءَين بين الرئيسِ السوري المقتدرِ حافظ الأسد والرئيسِ الأمريكي المقتدر كلينتون كان متعلقاً بي. وكان قد أُدرِكَ أني بَلَغتُ حالةً حرجةً ومعيقة. كان قد فُصِّلَ دورٌ استراتيجيٌّ طويلُ الأمَد للكرد في مشروعِ الشرق الأوسط الكبير BOP. حيث كان سيُستَخدَمُ الكرد وكردستان كَكَبشِ الفداء في حلِّ مشاكلِ المنطقة العالقة مع الرأسمالِ المالي. وكان الأرمن وأمثالُهم (الهيلينيون، الآشوريون، حتى اليهود، العرب والفلسطينيون) قد استُخدِموا لمثلِ تلك المآربِ في وقتٍ ما. والعصا الكرديةُ قد تؤثرُ في انفكاكِ وانحلالِ القوى الإقليميةِ القالبية، والمتشبثةِ بالدولة القومية بإفراط، والمُكَبِّلَةِ للنظام بدلاً من مساعدتِه في حلِّ المشاكل، وغيرِ المتخليةِ عن هَوَسِ الهيمنةِ على المنطقة.
كنتُ قد أُدرِجتُ – أنا – كعنصرٍ مفاجئ، ولكنه بمثابةِ المعيقِ في هذا المخطط، الذي يَبدو فيما يَبدو أنه أُعِدَّ منذ أعوامِ السبعينيات. إما كنتُ سأصبحُ جنديَّهم المنصاعَ كلياً لِما سَيُملُونه عليّ، أو كان ينبغي القضاءَ عليّ. بُنْيَتي لم تَكُن مساعِدةً لأَكونَ جندياً للنظامِ القائم. بالتالي، فكوني أولَ عنصرٍ يجب تلافيه والقضاءَ عليه بكلِّ سهولة، أمرٌ مفهوم. كانت الحربُ العالميةُ الأولى قد بدأَت بقتلِ وليِّ عهدِ النمسا على يدِ مناضلٍ صِربيّ. لكنّ الحربَ كانت مستمرةً في الشرقِ الأوسط. وكانت ستستمرُّ بِحِدّةٍ أكبر، ولكنْ، كحربٍ عالميةٍ ثالثة. إلا أنّ الضحيةَ هذه المرة – وعلى النقيضِ تماماً – هي أنا، بموجبِ مخططِ جميعِ قوى النظامِ المنظَّمة. الشَّبَهُ والتكرارُ في التاريخ مع إطراءِ التحديث عليه أمرٌ ملفتٌ للأنظار حقاً. كنتُ قد قلتُ في مرافعتي المتعلقةِ بدعوايَ في محكمةِ أثينا الاستئنافية: "مثلما قامَ كلٌّ مِن الإلهِ زيوس ونائبتِه الإلهةِ أثينا، وبمعونةِ وتكافُلِ كلٍّ من هاديس وآرس، بربطِ بروميثوس وتكبيلِه بالقيودِ إلى صخورِ قفقاسيا؛ فأحفادُهم البشرُ أيضاً كَبَّلوني بالقيود، ورَبَطوني إلى صخورِ جزيرةِ إمرالي". يَبدو أنّ تقييمي هذا بَقِيَ ناقصاً لِحَدٍّ ما.
يتجلى بوضوحٍ أكثر مع تقييمي هذا أنّ إلهاً حقيقياً هو الذي كَبَّلني. ذلك أنّ فرخَ الإلهِ الصغير ذاك، المترعرعَ سراً، والمتضخمَ رويداً رويداً في دهاليزِ التاريخ المعتمة؛ قد طفا على سطحِ المجتمع، ورأى النورَ مع حلولِ العصر الرأسمالي. وجَعَلَ نفسَه مقبولاً لدرجةٍ زالَت معها كلُّ آلهةِ العصور السابقة عن وجهِ الأرض. وزَحَفَ الملوكُ على الأرض هَلَعاً، وقُطِعَت رؤوسُهم. وفَرَضَ على البشرية الزمنَ الأكثرَ دموية، والاستغلالَ حتى النخاع. ولَوَّثَ ما على الأرض وما في باطنها، وخَلَطَها ببعضها البعض. وقَضَى فِعلاً على الإنسان وغيرِه من الكائناتِ الحية اللامحدودة.
إنّ تأليهَ المال ظاهرةٌ تَبعَثُ على الدهشةِ أكثر من حقيقته. وإنْ كنتُ قد استطعتُ التعبيرَ قليلاً بهذه السطور عن نظامِه الذي يعتمد عليه ويَجُرُّه معه، فالظاهرةُ المسماة بالسعادةِ هي المكافأةُ الوحيدةُ التي أَنفَرِدُ بها – ربما – لِتَكُونَ من نصيبي. كان سبينوزا قد قال: "الفهمُ حرية". وأنا أيضاً أؤمن أنْ لا حريةَ عداه. فتَحَرُّري بقدرِ استطاعتي على الإدراكِ هو قوتي المنيعةُ في سبيلِ الحياة. لقد اتَّحَدَ الإلهُ الأكبرُ لعصرِ التمويل مع جميعِ مساعديه ومرتزقيه، وربطوني إلى صخورِ إمرالي. لكنّ ثمنَ ذلك كان وجودَ مُضرِمي النار التي لَن تَخمُدَ أبداً في مشعلِ الحرية على ذرى جبالِ زاغروس وطوروس، التي تأسست فيها عروشُ جميعِ الآلهة والإلهاتِ المقدسة على طولِ التاريخ.
كان أبولو إلهَ النورِ والدفاع. إني أستسيغه نوعاً ما. وديونيسوس إلهَ العشقِ والمرح والخمر في الجبال. وأنا معجبٌ بثقافته أيضاً. كِلاهما صورتان عن الآلهةِ الأقدمِ عمراً، ذاتِ الأصولِ المنحدرة من سلسلةِ جبالِ زاغروس – طورس، ومنقولتان منها إلى بلادِ الأناضول. واضحٌ أنهما يُعَبِّران عن هوياتِ الشعوب المُصَفَّاةِ طيلةَ آلافِ السنين. النورُ والمرحُ هما التعبيران الأجمل عن الحياة. كما أني أتعمق في موضوعِ خودا والله كأقدمِ إلهَين في منطقتنا، وأسعى لتحليلِهما. إني أودُّ معرفةَ أسبابِ تَركِ شعوبنا بلا نورٍ وبلا دفاعٍ في مواجهةِ المال – الإله، والإبقاءِ عليها متخبطةً في الدم والألم. وكَم أنا سعيدٌ، باعتباري ابنَ المنطقةِ العاشق، لأني لَم أَترُكْ شعوبَنا لرحمةِ إلهِ المالِ الماكر والدَّجَّالِ الأعمى. ولَطالما أؤمنُ بأنَّ أصدقائي والمجتمعاتِ التي يُشَكِّلونها سيَبقَون معي سعداءَ إلى ما لانهاية.