الايديولوجيا في الميزان


خليل المياح
2010 / 2 / 15 - 16:44     

الايديولوجيا في الميزان
" ليس سوى السمك الميت يمكن ان يسبح مع التيار "
قد لايعرف الكثير منا ان كلمة أيديولوجيا , وضعها رجل فرنسي اسمه ديستون دي تراسي ( 1754- 1836) .
علما بان افلاطون الذي اعجب به الفيلسوف (وايتهيد) عندما اعتبر ان كل الفلسفة الغربية يمكن ان تعد مجرد سلسلة من الهوامش او التعليقات على فلسفتهِ , كان قد نطق بمضمون ايديولوجي عندما قال بان ( العبد عبدُ في روحه وجسده ) دون ان يخامره شك , وهو على ماعليه من دراية فلسفية , شهدت له بها العقول النابهة بدون استثناء , ولم يدرِ الى ان منطقه الفكري كلن يعبر عن ويعكس مرحلة العبودية ومعتقداتها التي تحكمت برؤيته تلك !
ان القديس ماكس يصبح الطفل عنده ميتا فيزيائيا منذ البداية ويروح يسعى الى سبر "اعماق الاشياء" وهذه الرؤية تتعلق بالاوحد وخاصته كما جاء بكتاب الايديولوجية الالمانية – ص 114 – لذا فان افلاطوننا قرر ان يدخل في مباراة مع "الله" والحقيقة , وصراع الطبقات واعطى للعبودية صفة الديمومة والسرمدية !
وحيث ان الاشكال الفلسفي المستعصي عن الحل له جذر ميتا فيزيقي تتعكس عليه ! ايديولوجياً , وهذا راجع الى ان ثمة فصل تام وقاطع اقامته الميتافيزيقا بين جوهر الشي وظاهره , بين عالم الادراك العقلي وعالم الاحساس الحواسي , وهذه الكيفية المنطقية توضح وتبين ان جوهر الاشياء لا ينتمي الى الاشياء ذاتها , ولذا نرى ان الاسلاميين ينعتون الاقتصاد السياسي بصيغ بعض المفكرين بصيغة الهية لاتمت بصلة الى حقيقة رأس المال ولا الى العملية الانتاجية الاجتماعية الحاصلة عيانياَ.
ومماجاء في اعلاه سوّغ بقاء الصراع قائما بين الاتجاه المثالي الذي كان يتزعمه سقراط وافلاطون وبين الاتجاه المادي الذي كان يتزعمه ديمقريط وابيتور. وحتى مجئ ارسطو.
والايديولوجيا هي التي ترى ان " المسيحي لايستطيع الا ان يشعر انه " غريب على الارض "
ولقد وصم شترنر الاقدمين بانهم لم يقدموا لنا غير الحكمة الدنيوية في حين يروق له كل الذين ينصب بحثهم على الالهي فقط.... انها الطريقة التأملية التي تجعل الاولاد ينجبون اباءهم وتجعل اليوم علة الامس!
وكايديولوجي ممتاز راح شترنر يحدد للمسيحين هدفهم النهائي أن " يسعوا الى اكتشاف لاحقيقة حقيقتهم " اي رجع بهم القهقرى الى رؤية افلاطون وكون الدنيا هي مثال فاقع او باهت للأصل السماوي وبخلاف الابيقوريين الذين ارادوا تحرير العالم من الاوهام والخوف من الالهة وجعلوا العالم صديقا لهم!
اذن محق هو التعريف الذي بموجبه تتحدد الايديولوجيا وكونها التعبير غير المطابق للواقع , بسبب حدود موضوعية تحد من رؤية الفرد.
واذن ها نحن اصبحنا على دراية من ان لفظة " ايديولوجيا " هي من صنع مدرسة فلسفية ( تجريبية حسية مع ميل الى المادية)
كما كان لها شأن كبير ونفوذ بالغ في فرنسا أواخر القرن الثامن عشر ومطلع التاسع عشر
وفي رأي اصحاب هذه المدرسة يوجد علم للمعاني او المفاهيم المجردة , يدرس نشوءها ويستطيع ان يعيد تركيبها كاملةَ , بدءا من الاحساسات . هذا العلم الخاص يسمى ايديولوجيا.
والفلاسفة الذين نادوا بهذا المذهب كانوا يدعون هم بنفسهم بالأيديولوجيين.
وكلنا يعلم بان سير التاريخ لايتوقف على المثقفين , لكنهم من الزاوية الاخرى نجدهم خاضعين الى قوانين التاريخ ان ارادوا ان يكون لهم وجود وتأثير , وابن خلدون بكتابه "المقدمه" وتطرقه الى اسباب قيام الدول واندثارها التأريخي , لم تمنعه رؤيته الاسلامية الاشعرية من ان يصدع بهذه المقوله المادية والمقتربات الاجتماعية الاخرى !
لكن ابن خلدون هذا جنح الى رأي ايديولوجي عندما تطرق الى ايمان الرازي بامكانية تحول المعادن الخسيسة الى نفيسة اذا رجح بان الرازي وقد نشأ معدماَ , في اشارة الى انحداره من وسط شعبي هو مادفعه الى ذلك الاعتقاد بخصوص المعادن.
وحيث ان المرحلة الاخيرة من التطورات الحاصلة في دنيا المال ورأس المال والثورة المعلوماتية والتكنولوجية , باتت الايديولوجية , ككلمة تعاني من حملات التبخيس الدعائية باعتباها من منتجات الفكر الماركسي واليساري الذي انحسر ظله !
وبمعنى من المعاني فان الايديولوجيا ضمن هذا السياق اللغوي , الدلالي – السينتاكس – اصبحت تعبر عن وعي كاذب وهي والعلم على طرفي نقيض وهي – بهذا القياس تعتبر من منتجات عقل ماقبل العلم واصبح مابينهما ماصنعه الحداد !
ولو رجعنا الى الباحث والمفكر عبد الله العروي لرأيناه شارحاَ ايديولوجية الدولة القومية بانها تجهل التناقض وانها عالم سعيد ومقسم الى أشطار متألقة بين التعايش والانتقائية. والباحث ذاته يذكرنا بان ماركس الايديولوجي سيبقى حياَ يبعث مادامت هناك بقية متأخرة في العالم.
ويقول العروي بان ماركس سبقى دائما من الممكنات لاغير , بدون تحقيق طالما بقي ماركس الايديولوجي حياَ !
ان كلمة ايديولوجيا عند ماركس , كما يراها العروي مثلاَ , تحمل معاني مختلفة , معنى النظرة العامة الى الكون والانسان , ومعنى العقيدة ومجموعة القيم ومعنى التأويل الخاطئ , غيرالعلمي للظواهر الطبيعية....
ويقول جون لويس في كتابه ( فلسفة ليس الاّ ) :-
" واكثر الانجليز بلادةَ وسوء تعليم او تربية يعتقد بانه يملك تفوقا فكريا معيناَ على جميع الناس الملونين , لان مجموعته تملك الوضع الافضل " .
وهنا يتجلى المذهب النخبوي القائل بأن البعض مولود ليأمر والاخر يطيع , وبأن العروق الممتازة والطبقات الحاكمة تستمد مركزها السائد من تلاؤم او تطابق وراثتها الجينية مع سلطتها وامتيازاتها !
وميزان المراجعة الذي ندون فيه الارصدة الدائنة والمدينة لحساب الايديولوجية لانرجو ان تتم المطابقة فيه حسب نموذج الدفاتر التقليدية , حيث بات حتى بعض اليساريين ( عصام الخفاجي مثلا ) يرى ان من يدعي ان منهجه علمي يقيني يغامر بوعي ومقتربات نظرية متحجرة وايديولوجيا زائفة. لذا يصدع مكسيم رودنسون ويحدد وظيفة الايديولوجيا بأنها تعين اتجاه النشاط الفردي والجماعي : كل النضالات عدا نضالاتي مزيفة !
اما كارل مانهايم فيرى ان الايديولوجيا هي الفكر السياسي للاخرين ".
في حين غرامشي يعرّف الايديولوجيا على انها تضم مجموع البنى الفوقية الثقافية ويجمل فيها الحقوق والفن والدين وكذلك العلم !
ولايخفى ان البرجوازية من الناحية الايديولوجية , تنكر الطبقات لانها تضع فكرة المجتمع بوجه عام او فكرة القومية في المقام الاول.
ونعثر في رسالة من أنجلز الى فرانز مهرنغ ( 14 تموز 1893)
" ان الايديولوجيا عملية تجري في ذهن المفكرين الادعياء بكيفية واعية فعلاِ , لكن بوعي خاطئ ..
وهناك من يرى ان الايديولوجيا في واقع الامر توريات اي التعبير بكيفية ملتوية عن حقائق ملموسة.
والملاحظ تاريخيا ان الايديولوجيا هي النظرية التي تعمم المصلحة الخاصة وتجعلها بمثابة المصلحة العامة وهذا اللبس الاجتماعي تتوسله كل البيروقراطيات التي حكمت العالم القديم او الجديد .
وبلغت الصفاقة بنابليون عند احتلاله مصر عام ( 1798 ) ان نشر بين المصريين بلاغا يدعي فيه الاسلام وبتاييد من الازهر !
اما الماركسية بنظر ماركس , فلم تعد ايديولوجيا , بل هي تشير الى نهاية الايديولوجيات , وتعجل في ازالتها , وهي ليست فلسفة فقط لانها تتجاوز الفلسفة وتحققها .