فساء ابن آوى


رياض الأسدي
2010 / 2 / 4 - 18:58     

ـ 1 ـ
مدينة تطلّ على بحر، هواؤها نقي، لكنه رطب غالبا، مثل فضاء أبيض؛ ترى من خلاله عالما فسيحا أو شيئا اكبر من ذلك؛ ومنذ أن اصطبغت السماء بدم أحمر باهت والمدينة تنوح والهواء ليس بهواء. يييييييييييييي!: هواؤها فسد وعالمها همد. رائحة فساء. وأنت حينما تريد أن تكشف عن عورة مدينة فما عليك إلا أن تحدّق مليا بالأفق وتتشمم هواءها؛ حينئذ، يمكنك أن ترى ذلك الاصطباغ الفريد من الاحمرار المائل للصفرة مرتين في اليوم؛ وقبل أن تمدّ بصرك مرتين إلى الصين شرقا أو إلى بلاد الأندلس غربا(أسبانيا مطي أسبانيا!) كانت رائحة الدم تملأ الهواء كلّه. وهناك(إيزابيلا تفتح ساقيها للحصان الصاهل) ومنذ زمن بعيد لم اعد أشم غير هواء برائحة ديتول حتى إني نسيت رائحة هواء ما قبل ذلك(ويقول احمل أنف كلب.. د..بطل!).
يعني شنو أبطل؟!، هذا منوووو؟ كانت المدينة: قلب عالم عتيق يشبه ليمونه يابسة لحظة اكتشفتها لأول مرة؛ تماما كما تخيلها رسّام من الفرنجة في تخطيطاته إبان القرن السادس عشر: كان يصور لحظة سقوط الأندلس ( مو كثرت السقوطات كل مدة وسقط فلان وسقطت فلانة شنو القضية؟) روح نابض في وقت مبكر. وهي على العموم بقعة سلام واطمئنان، ربما، لم يدم طويلا ذلك، لكن، مدّة من (السلام المزعوم) كانت كافية في ذلك الزمان كي نحكم على المدن الهمجية المجاورة الأخر التي زرعت في كلّ ركن من الأرض، وهي تموج بالموت الدائم، والصراخ الطويل يييييييييييييي!؛ فالهدؤ الإنساني قلما عرف آنذاك، و الدنيا -كلّها- كانت تعدّ الاحتكام إلى السيف خير مرجع، وأول وآخر ما يفكر به(السيف السيف مو ثبرتونا بسيفكم) وهذا ما أشاع في مدينتنا (الأمان) لحقبة من الزمن. فانتعش الإنسان قليلا، وروعيت الذمم، وحقنت الدماء إلى حدّ ما، ثم نام الناس بعيدا عن الخناجر والسيوف، وعاشوا في بحبوحة (حبّ) نادرة. كان ذلك مجرد خبر رواه (الصناج بن فطين) وأكده صاحبه (حندقوق) الأسود( انا أعرف راح تجيب أسماء هذول الزنادقة المطلوبين من صاحب الزنادقة وعلق صورهم على جدران الكوفة والبصرة وتحتهم حروف أفرنجية: WANTED الله أعلم بسرّها)
كان الصوت:آآآآآآآآآآآ وكان الدم: فييييييييييييي وكانت الروح: ححححححححح؛ و لحظة خرج حندقوق الأسود الضخم الذي جيء بأبيه من جزيرة زنجبار قبل عقود طويلة، كانت المدينة لما تزل على هدأتها، ولم يحدث ما يعكّر صفوها تقريبا، غير مماطلات الباعة في أسواقها، وروث الحمير في أرجائها، وصياحهم العنيف على بضاعاتهم: أشتر بدينار واربح دينارين اللهم أجعل هذا البلد آمنا رخيصا واهد ولاته طريقا حصيفا. قولوا آمين(أعرفك راح تسوّدها وتطينها) ثمّ خرج في إثر حندقوق سيده الصناج الذي اعتقه لحظة اشتراه من سوق النخاسة. وحمل الصناج كما هي عادته في كلّ صباح باكر كيس خبز وفطائر وتمر وشطيرة مكدونالد( هاي شنو بعد؟!) حامدا الله على جزيل نعمه، وبديع ما أضفى على الناس من سكينة ويسر، ودعة وبشر، في مدينته المطلة على البحر. لكنه في هذا اليوم الغريب العجيب بالذات خرج مهموما وجلا مرتعشا، باكيا بحرقة، كأنما به مسّ والعياذ بالله؛ تترقرق الدموع في عينيه وكلما استوقفه أحد من المارة بكى ونشج كأن قتل أبوه الساعة، ودون أن يتفوه بكلمة. ثم تبعه خلق كثير.
وقال بعد لأي حينما وصل مدرسته المسماة (شمّ البحر على طريقة الخاتون أيزابيلا) وبعد أن حمد الله وأثنى عليه: " أيها التائهون في صحراء البارئ المسوي، الآمر الناهي، المدوي، يا من ترونني كلّ صباح اخرج إلى البحر: هذي أرض الحجارة المبصرة، وهاته البلاد المسورة، موضع البصر الحثيث، والنعل الخفيف، والبصيرة الصافية، والسكينة العامة. أيها الحاملون للرأي الغريب، آآآآآآآآآآآآآ؛ المعمّدون بالعشق الرباني ححححححححح، المقحمون في خوف دائم من القادم؛ المحافظون على ما في الجوف وجوف الجوف من أسرار ودعائم؛ الكاتمون السرّ العميق؛ كونوا إلى محبة الله صائرين، وفي كهفه دائرين: اللهم أشهد لي ولهم بأننا - هنا - آمنين! مطمئنين وما حدث في المغرب مجرد غفوة.. ونحن في دعة من أمرنا، فلا تغير علينا ما نحن فيه يا رب. قولوا : آمين ."
ـ آآآآممممممييييين.
وانفضّ الناس على عجل إلى مكاسبهم لا يٍسأل احد أحدا. لكن الأسود حندقوق الذي عرف بالنطّ في الوجوه، بقي يشهق بصوت مسموع، فقيل عنه حينئذ : ريح نالته من سيده القديم. أسود ويتململ. ثم نسي ما كان تقريبا. ولم يعد ثمة احد يهتمّ بما قيل غير الأسود حندقوق الذي بقي يشهق بصوت مفجوع، ليل نهار، وكلما خرج في إثره سيده الصناج الذي بلع لسانه من لحظتها حتى قيل: صام عن الكلام الدهر كلّه. وقيل: سلب منه علمه ولسانه. وقيل: جنّ وربّ الكعبة. وحينما سئل عن سرّ ذلك قال كلمة واحدة : ستعلمون! وردد بعده حندقوق: بعد حين.
ـ2ـ
وفي يوم ما من أيام الله لم يسجل في تاريخ سيرة الصناج، خرج (الصناج) في إثر حندقوق كعادته بعد صلاة الصبح وما يتبعها من ورد كلام الله في كتابه الكريم، وقال: أنا أحمد بن سراقة بن صداح بن زيد بن الملوح بن جرّاح الخثعمي البصري المحدّث، المشهور (بالصنّاج) صاحب الشطحات الربانية، والكرامات العرفانية، والنكات الفكرية، حامل (الخرقة الخضراء) إلى صحراء في يوم صيهود فائر، من يوم جمعة في العاشر من ذي الحجة من عام القحط الأسود أقول لكم: (لا تصدقوا كلام الفجرة الكفرة أعداء الدين وخليفة المسلمين أطال الله بقاءه وإن هؤلاء إلا مردة لهم اجندات خارجية، صحيح أنا لا أعرف ما المقصود بأجندات لكني سمعتها مرار من حندقوق) رأيت سفن حديد قادمة من البحر البعيد، كأنما الأعلام: أن أدركوا - يا قوم -قدوم السفن! البحر البحر البحر!! النار النار النار!! ليس لكم من أرض، وما من سماء تظلكم، يومذاك، وما لكم طول ولا عرض ولا عمق، ولا جوهر ولا فرض؛ نساؤكم محرمات، وبيوتكم منتهكات، ودينكم حجر! لا مفر لا مفر!! وما بمستطاعكم غير قول الحقّ فييييييييييييييييي! -إن أدركتم- فإن سكتم ذللتم؛ وإن قلتم فزتم، وإن وقفتم على التل؛ فالفرار الفرار ننننننننننننننننن!؛ ليس لكم أرض ولا قرار. وبكى حندقوق حتى شقّ زيق جلبابه المغربي) وصاح الصناج بصوت لـه رنين غريب: لا تفعل يا حندقوق إلا ما آمرك به. ثمّ تابع: غيمة نار حمراء في المشرق وغيمة نار صفراء في المغرب. لا أحسبكم تدركون ذلك. لكنه البلاغ لكنه البلاغ! فإن أدرك أحدكم هذا الأمر فليحفظ عني ما أقول، فالريح تذر كلّ شيء. والهواء فساء آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآ عفن!
ـ 3 ـ
لم يٌر بعد ذلك للصناج أثر، ولم يٌسمع عنه أيّ خبر، إذ انشقت الصحراء وابتلعته في عاصفة لولبية صغيرة يقال لها: (فساء ابن آوى) ثم نامت الدنيا من جديد. ونسي النداء العجيب. ثمّ ذهب الناس إلى أرزاقهم سراعا، وعدوا أن ما سمعوا شطحة غريبة من شطحات (الصناج) فليس ثمة نار في المدى, ولا سفن ولا غيمة محرقة في السماء, ولم يكن في الهواء أي فساء؛ ومنذ ذلك الوقت والعالم عسير والتاريخ الخطير. وحندقوق لا يكفّ عن البكاء واسيداه وامولاه واغريباه حتى لقّب ب(حندقوق البكّاء). غاب الصناج ولم ير بعد تلك القولة قط، وبقي (حندقوق) على سيرة سيده ومحرره الذي أعتق رقبته منذ أول يوم اشتراه من سوق نخاسة الأبله مع أبيه. كان يلهج بشعره و يردد قوله و يحفظ عن الناس سرّه. وكلما سئل عنه فرادى أو في محفل نادى بأعلى صوته: أكتم يا حندقوق، أكتم!! العيون العيون. لم رائحة الحجر غريبة هنا؟ هل هو فساء؟ أم رائحة دم؟ لم أعد أميز.. فيضحك الناس منه.
وغاب الأمن في المدينة البحرية وشاهد حندقوق إيزابيلا تأتي بسفنها ذات الأشرعة الكثيفة إلى ميناء الأبله، فاشتعلت من جديد قرون الفتن. طرد حندقوق بسبب رؤاه. ففي تاريخ الحروب الأسرية القروسطية المفعمة بالدماء الغزيرة، وقطع الرؤوس ووضعها على الرماح، أو وضعها في طسوت من ذهب، والسير بها في الفلوات والمدن والأمصار(ولك أنت حندقوق العبد مصيرك مصير معلمك الصناج، إذا لم تسكت أعدناك إلى العبودية وبعناك في سوق مانهاتن! لك أنت عندك ساقين مثل ساقين إيزابيلا تفس ابن التفس!) كانت المدينة تقف موقف (الكف) وكان صوتا الصناج البصري وصاحبه حندقوق الأسود أول من ناديا: أن كفوا عن القتل والتطاحن، والاغتيال والتماحن، والتحاسد والتضادد!، والخبال والسجال. فعنيا بذلك: الكف عن القتال في عهود(الفتن) الكبرى والصغرى، والنزاعات المسلحة التي ألمت بالأمة آنذاك حتى أصبحت معلما من معالمها وبابا عريضا من أبوابها، التي ما أن تفتح حتى ترى سيلا عارما من دماء قانية تغطي الركب فتخوض فيها الخيول والبشر .
هذه بعض الصفات التي ميّزت مدينة الخثعمي الصنّاج وراويته حندقوق، فأصبحت إلى حدّ بعيد مكانا يمتلك نوعا من (الحرية الفكرية) فقيل يومذاك: من كان لديه مذهبا جديدا، أو دعوة فريدة، أو فرقة ينزع إليها، أو رأيا حصيفا، أو غير حصيف، أو جماعة، أو فرقة يدعو إليها، فليذهب إلى الحجارة البيض، هناك؛ فإن لـه فيها حصنا، ولـه فيها منعة، وله في بساتينها ملاذا. ولا بدّ لـه - مهما كانت فرقته أو نحلته أو ملته - أن يسلّم في دربه على (شمّ البحر) مدرسة(الخثعمي الصناج) (صاحب الخرقة المعروف) فيسجّل أسمه عند حندقوق الأسود في سجلّ المسالمين، ومن ثمّ يقيم ساعة في محرابه متأملا أو متعبّدا، وبعد أن يتعب من التعبّد أو التأمل في الخلق ينام في خان (الفارين من الفتن) حتى يرى من أمره رشدا، ومن ربّه مددا, فله من (حندقوق) الطعام والمأوى إلى أن يجزع أو إلى أهله يهرع .. وقالوا:
- قبل أن نخوض بدم علينا أن نسأل.
- نسأل من؟ الصناج غاب.
- نسأل حندقوق.
- العبد؟
- العبد.
- يا له من زمن!
- العجب أن يبقى المرء جاهلا.
ومذذاك و المدينة هي مهد المدموغين بالرؤى والخيالات والشطحات والنزعات والبحث عن (الحقايق الكبرى)و(المغاليق العظمى)و(الكشوف العليا) دون أن يسأل من أي إناء نضحت. ولذلك ليس غريبا ولا عجيبا أن يكون المشتغلون مع حندقوق باعتباره ثاني من دعا إلى (الرؤى في الحرّة والسير إلى أرض الطرّه) فبنى لـه آهل اليسر مدرسة جديدة في طرف الصحراء لتعليم الناس منابع الأخلاق وسيرة الحكماء ومناهج الفضلاء، ولكي يذهبوا إلى الصحراء لتعليم عرب الصحراء أصول الدين ومنهج اليقين، فلا يعودوا منهم قط رأفة بما يعلّمون وتثبيتا لما يكرّسون، فيتزوجوا منهم ويعلّموا أولادهم واضعين أسس تهذيب الأعراب قبل تعلّم الصرف والإعراب. وعلى الرغم من مشقة تلك المهمة إلا إنهم درجوا على ذلك. وكان حندقوق كلما عاد منهم أحد زجره : عد عد عد! عليك بالأعراب إنهم قوم لا يفقهون حديثا، ولا تصدقهم إذا ما قالوا آمنا..
- أين القوم الذين كانوا هنا من أيام يا حندقوق ؟
- رحلوا .
- إلى أين ؟
- ارض الله واسعة.
- ولم؟ وهم كانوا في دعة بيننا ؟
- وهل تريدون الأمة تبقى بلا فرقة نافرة تتفقّه؟
- وهل ذهبوا للنفير يا معلّم؟
- ومن يعلّم الأعراب غير من نرسلهم إليهم؟
- أولئك الأجلاف.
- لا.
- أناس تأتي وأناس تذهب يا حندقوق ونحن في حيرة من أمرنا ولا أثر للصناج
- هذه حال الدنيا دائما.
- وما هي حالك أنت أيها الأسود ؟
- عبد فقير يحمد الله على الهواء.
- الهواء!
- هآآآآآآآآآآآآء.
ومن هنا فقد درج في المدينة إلى جانب خلق كثير من المشرق والمغرب, فظهر(الأقطاب السبعة) من بعدهم كما ينبئنا التاريخ الباطن الذي لم يكتب قط .. وبدأت في العالم الإسلامي حقبتئذ ما عرف بعد ذلك من علوم الزهد و التصوف والرؤى التي يسمو فيها (أهل العقل) كما يعلو فيها (أهل الروح) في آن مادامت هذه المدينة قد عرفت بنبذ القتل والولوغ في الدماء؛ وهكذا فقد كرز فيها بعد تلك الحادثة المروعة لغياب الصناج وبكاء حندقوق عليه ليل نهار اشتهار (واصل بن عطاء) الذي أعتزل حلقة (الحسن البصري) وأسس لـه مذهبا في (الاعتزال) وكذلك ظهور جماعة (أخوان الصفا) ممن آثروا أن تكون أسماؤهم سرّا - خوفا أو تواضعا - فتركوا لنا أزيد من خمسين رسالة علمية في الطبيعيات و الإلهيات والرياضيات . . فضاع معظمها بسبب الحروب والمجاعات والأوبئة التي لحقت بالمدينة في عصورالتدهور والانحطاط و ذرّ قرون الفتن من جديد.
كان حندقوق يرى أن العمل أهم من النظر، وترك النظر لأهله ضرورة، ولذلك فقد كانت الزراعة مهنته والسقاية حرفته؛ وهو أول من قال: على العابد أن يعبد في الأرض أولا قبل أن يعبد في السماء؛ لأن الطريق إلى الروح تبدأ من الأرض لو كنتم تفقهون. وهكذا بدأ (نفر) من الزهاد والمنقطعين إلى الله يشنّعون القول في إثر القول حول ما درج عليه حندقوق من رأي في تغيير السلوك والعمل على تخريب الطريقة ببناء الربط للزهاد وتعليمهم فن السقاية، والتعمّق في الزراعة، والصنائع، وخلط المعادن. وعابوا عليه أيضا ولعه في النظر في المواسم والفيضانات، وهمّته في صنع المحاريث والمناجل والمعازق. وحينما رأوا خلقا كثيرا يتبعه اتهموه (بالخارجية) و(الزندقة) و(المروق) لعلّ الناس تكف عن متابعته. لكنهم لم يعزروه لأنه بقي محافظا على صلواته وصيامه وزهده وتعبّداته.
وفي الميناء الضاجّ بالتجارة نمت بدايات الفرق الخارجية، فقد كان عبد الله بن أباض(مؤسس المذهب الخارجي) بصريا حتى هاجر إلى عُمان - وهو من تلامذة مدرسة شمّ البحر- حيث تمكّن من نشر مذهبه هناك، وما يزال قسم كبير من العمانيين على هذا المذهب إلى الوقت الحاضر. ولكن لم ير في جميع كتب (المحكّمة) ثمة إشارة واحدة إلى الخثعمي الصناج وصاحبه حندقوق؟!
وفي طرف المدينة الصحراوي، نشأت أوائل المدارس النحوية؛ ولذلك فإن العالم الإسلامي كلّه ما يزال ينظر من حين لآخر في رأي البصريين ورأي الكوفيين. وكان الصناج من تلامذة أبي الأسود الدوؤلي، ثمّ أعتزل مجلسه النحوي بعد أن رأى الناس تزين الكتب وتكتب بماء الذهب .. فرأى أن ذلك بداية نهاية الزمان. وتبعه حندقوق .
ولم تظهر بعد ولوع الصناج بالحروف ومنازلها، وبدايات السور ومواضعها، من يكتب عنه ( جفره الأحمر) الذي لم يطلع عليه أحد .. وبدأ الصناج دروسه في النحو والصرف قبل الجميع .. وقبل أن تظهر أية مدرسة نحوية كبرى غير هاتين المدرستين المعروفتين على الرغم من أن العرب كانوا أهل كلام ونظر طوال العصور لكنهم نسوا الصناج وجهوده في اللغة بسبب رغبته في التكتم . ودرج حندقوق على ذلك أيضا.
- جاءك جمع من النحاة الكوفيين للمناظرة والمطارحة يا حندقوق, ما تقول؟
- لا شأن لي بهم .
- هل ترفض الجلوس معهم ؟
- لا .
- هل تخشى قوة بيانهم وحجتهم عليك ؟
- لا .
- ما أنت فاعل أذن؟
- ذاهب إلى حال سبيلي . .
أما ومن الطبيعي أن يكون (المعتزلة) وكذلك (أخوان الصفا) من رواد المدينة القدامى وعلى رأسهم الموسوعي (أبو بحر عثمان الجاحظ) وهم من اكثر المدارس الفكرية أهمية في التاريخ الإسلامي حتى (تأول) بعض المؤرخين المستشرقين ذلك، فقالوا (جرأة) على التاريخ: لو أن مذهب المعتزلة قد سرى في المسلمين، ولم يمنع عنهم في العصر العباسي المتأخّر، لأمكن لتلك (الثورة العقلية) أن تضع الأسس لقيام الثورة الصناعية في العالم الإسلامي وليس في أوربا.. وقال حندقوق: دعوني فأنر لكم العالم. لكنهم لم يدعوه ووجدوه مذبوحا في فناء مدرسته. قالوا:
- ما تقرأ ؟
- الممحو من التاريخ ..
- وهل أنت طالب تاريخ ؟
- لا .
- فلم تعكّر صفو رأسك إذن؟
- أقول: إذا أردنا تحرّي تاريخ الظاهرة من بعيد للعيان فإننا ـ بلا شك ـ سوف نضع في ذلك مجلّدات ..
وهذه المجلدات جلّها في الخلافات اللغوية والمذهبية والفكرية النظرية وعلم الكلام ( الصناجي وغير الصناجي والحندقوقي وغير الحندقوقي) وما أدراك ما علم الكلام! إنه العلم الذي سبقنا به الغرب إلى الوقت الحاضر .. ولذلك لم تقم عندنا (الثورة الصناعية) لأنها لم تنتج عن الكلام وحده . . وهو أمر حسن - من وجهة نظرنا- في عدم ظهور ثورة النسيج الإنكليزية في مدن البصرة والكوفة بدلا عن يوركشاير ولانكشاير. ولم تقم لنا نحن من بعد غياب الصناج وذبح حندقوق قائمة حتى جاء (الحاج) نابليون بونابرت بأساطيله وأيقظ السبات العميق فينا .. شكرا بابا نابايون! قال:
- ومن أنت؟
- طالب تاريخ .
- وماذا تفعل لو سمعك (بعضهم) ها؟!
- أروح سبعة كاصر، يا معود دخيلك: يا تاريخ يا ضراط !
- هل تذكر الصناج وحندقوق بعد ذلك؟
- أبدا أبدا.
- والأفق المزدان بدم أبن جبير؟
- أبن جبير لم يقتل ومات ميتة طبيعية!
- والحسين بن علي؟
- صعقته الكهرباء!

ـ 4 ـ
قضية (روح الأماكن) تتلخص في سيرتين متعارضتين، وحالين متباعدين، وموضعين متناقضين: سعيد بن جبير والحجاج بن يوسف الثقفي، والصناج الذي شهد الحادث من بدايته إلى نهايته.. كان الصناج أحد الحاضرين في (محاكمة ابن جبير) المزعومة قبل غيابه في الصحراء .. فقال :
- ما أنت فاعل به يا حجاج ؟
- سأقتل هذا (الخارج) عن طاعة أمير المؤمنين!
- ولم ؟!
- وما شأنك أنت يا صناج ؟
- وهل تدرك منزلته ؟
- وما حاجتي بمنزلته بعد أن ينزل سيفي على رقبته ؟
- لا تفعل يا حجاج .. لا تفعل !
- ومن أنت لتأمرني أيها المخبول؟!
- عبد من عبيد الله.
- أيها الأخرق ألا تخشى سيفي؟!
- أخشاه! طبعا.
- فاسكت أذن.
وانتصر الحجاج في النهاية (العيانية) نصرا وقتيا، على جسد سعيد ابن جبير، وانتصر الأخير نصرا (نهائيا أبديا) لما يزل صداه بيننا إلى يومنا هذا. فتعلّموا وعووا وإذا سمعتم شيئا ، فتوسّعوا؛ لأن في وسع الكلام علم ما بعده علم .. وظنوا - وما يزال يظنّ كثير من أمثالهم أيضا - بان القتل هو الحلّ الوحيد بين المتخاصمين, فالسيف أصدق إنباء من الكتب ، والسيف أشدّ مضاء من الحوار، والسيف أقوى من (الحجة العقلية) و(الفذلكة المنطقية) وقول الحقّ والنطق به عاليا .. فهل رأيتم قائدا عسكريا فيلسوفا - ما عدا الأسكندرالمقدوني ! - وحتى هذا الأخير فإن الشكوك تحيط بشخصه، والروايات تتناهش جرفه؟ وساعة صرخ بنا الخثعمي: السيف مثلوم والموت محتوم والقلم باق، ولا شيء أشد لعنة من سيف هائج لم ينصت إليـه أحد. قالوا : مجذوب مجذوب!. السيف هو(الحكم) بين الناس منذ أن قامت عصا موسى إلى آخر الزمان . وناح حندقوق من جديد .
من الصعوبة أن نجد تفسيرا مقنعا إلى حال المدينة المسالمة في معظم المراحل التاريخية على الرغم مما أصاب هذه المسالمة الوديعة البكّاءة من عنت وقسوة وتدمير وحصارات. وربما تعود أسباب ذلك إلى طبيعة المدينة الجغرافية وما حباها الله به من خيرات تتمثل في التجارة بحكم موقعها على البحر، أو لوفرة زروعها, أو لأنها منتهى المياه القادمة من الجبال النائيات، أو لأن مكونات المدينة القبلية مختلفة إلى حدّ ما مما أشاع نوعا من الألفة؛ كلّ ذلك ممكن، وأشياء أخرى، ولكن الثابت في المدينة: هي هذه الوداعة المشربة بالآدمية. قالوا :
- خوش حكي بس ..
- ماذا؟
- الهواء الهواء!.
(*) قول أخير
أما أنا فرجل أسود واسمي(جلوب) او(جليب الأسود). أتعاطى كل أنواع المذهبات للعقل : أرتين، حشيش، أبو الحاجب، عرق، جن، من النباتات والدخان والسوائل وحتى القات والترياق ومنذ زمن طويل. مدمن، أنا. جدا. لكن هذا الولد البغدادي يسألني عن أشياء لا اعرفها، ويهذي بأسماء لم أسمع بها، وأحسبه واحدا من أولئك الذين خرّب الزمان عقولهم مثلي. ربما يكون مجنونا. صديقه واحد أسمه خضير ميري وواحد عبد الحسن الشذر وواحد عبد الامير جرس، وواحد أسمه جان دمو، وواحد والله ما ادري.. يا حندقوق، يا صناج، يا هذا الذي ما أدري ما أسمه؟ يا سفن، يا نار يا ضراط : أنا أسمي (جلوب) العبد أعمل حارسا في سوق الغزل، وليس عمري ألف وأربعمائة عام مثلما يقول هذا الجليب، هذا الولد طنطل يروي عني أشياء كاذبة، ويضحك عليّ. نغل. ثم إن هذا الولد مخبول رسمي. ابتليت به. بس الصحيح اكو: هواء عفن مثل فساء في المدينة وهذا ما لاأنكره ولا أعرف مصدره . أشمّه . الآن.