ليست كل وعود اوباما في المشمش !


جمال محمد تقي
2010 / 2 / 3 - 01:57     



اذا اردت ان تمتحن جدية ومصداقية اي رئيس امريكي في التغيير والموازنة بين منطقي حق القوة وقوة الحق ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الان فما عليك الا مراجعة مواقفه الفعلية الخاصة من القضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني ونظرته للعلاقة باسرائيل !
انها وبأمتياز واحدة من اهم البقع الحساسة للسياسات الاستراتيجية الامريكية الدولية ، حتى صار من الخطأ الاستراتيجي اعتبارها قضية دولية ، لان امريكا اعتبرتها واحدة من اكثر قضاياها ثبوتا بدوافع مختلطة بعضها داخلي محظ وكأن اسرائيل الولاية الامريكية المنتدبة الى ما وراء البحار ، فأمنها وقوتها وازدهارها من أمن وقوة وازدهار امريكا ذاتها ، وعندما يتنافس المرشحون على منصب الرئاسة الامريكية ينبرون في عرض ما يجعل اسرائيل اكثر سطوة بل ويزايد بعضهم على الاخر في تقديم الالتزامات والضمانات والتعهدات لتسهيل تحقيق رغباتها المشروعة وغير المشروعة ، وبعضها خارجي متعلق بجغرافيا البترول والموقع الاستراتيجي !
لم يكن جورج بوش الابن خارج السياق عندما قال وبتبجح قل نظيره قبيل العدوان الاسرائيلي المجرم على قطاع غزة ـ على من يفكر بمضايقة اسرائيل ان يعلم ان تعداد سكانها 307 مليون نسمة ، بمعنى ان كل سكان امريكا هم اسرائيليون حتى وان لم يكونوا يهودا ـ ولم يكن اوباما خارجا عن المألوف عندما تجاهل المحرقة الاسرائيلية في غزة اثناء خطابه لاداء القسم والذي حدد فيه الملامح العامة لسياسته القادمة ، وكل ما اكد عليه وقتها هو وجوب منع وصول السلاح للمتطرفين ، وفي احسن حالاته عندما يجد نفسه ملزما بقول شيء ما محدد بخصوص القضية الفلسطينية فانه يعيد ما كان يكرره سلفه من حل الدولتين مع تحديد الحدود بواسطة المفاوضات ، اما الموقف من المقاومة فهو نفس الموقف مع تغيير بسيط يتعلق بشكل مواجهته فبدل القوة المفرطة والسافرة يركز اوباما على القوة الناعمة والمتوارية !
ما ينطبق على الموقف من القضية الفلسطينية ينطبق على الموقف من موضوعة الحرب على الارهاب فبدل استفزاز المسلمين واتهامهم بالارهاب وجعلهم جميعا في خانة واحدة ، يستثمر تكتيلها وردود افعالها تنظيم القاعدة ، يجعل اوباما الامر اكثر منطقية عندما يفرق بين المسلمين انفسهم ويحكم لبعضهم ادانة البعض الاخر ساحبا النبرة المقدسة من تلك الحرب ـ انها ليست حرب دينية ضد الاسلام ـ ليقول بانها حربا ضد الخارجين على قانون الشرعية المحلية والدولية ، وعلى هذه النقطة تحديدا تتمحور فلسفة اوباما المتميزة عن فلسفة بوش والتي تختزل الشرعيات كلها بشرعية حق القوة الامريكية المقدسة وهذا ما جعل كلفة الحرب الامريكية عالية جدة وهي قد ساهمت من خلال حروبها الاستباقية وسياسة الصدمة والترويع في استنزاف القوة الامريكية وفقدانها للمصداقية والحكمة ، اما اسلوب اوباما الداعي الى نفس النتيجة ولكن بمنهج اخر يستنهض الشرعيات المحلية لحروب بالوكالة المستمدة من الشرعية الدولية والتي ستتقاسم الدول الفاعلة فيها تكلفة الاسناد والرعاية بل وحتى المشاركة الميدانية وبما ان هذه الشرعيات هي متفاعلة بالاساس مع شرعية هيمنة القوة الامريكية فان النتيجة ستكون واحدة ولكن في حالة اوباما فانها اقل تكلفة واكثر اتساقا مع الاعراف الاممية المعلنة والتي توهم الشعوب بان النظام السائد هو الوحيد الممكن انتظار تحسنه ، اما الاخفاقات والازمات وعدم التوازن فهي نتائج لاخطاء وجشع البعض وكأن المشكلة اخلاقية بالاساس وليست مشكلة نظام باكمله قائم على الاستغلال والاستعباد المنفلت والذي تتحكم فيه آليات السوق العمياء التي لا ترحم حيث يأكل الكبير الصغير وهكذا حتى تقوم القائمة ، موقف اوباما من الازمة المالية العاصفة تؤكد منحاه هذا ، فهو يضخ اموال الضرائب لانقاذ الشركات الاحتكارية الجشعة التي استنفذت شفطها لكل السيولة القيمية وجمدتها في اسهم متحولة ، ميبسة بذلك طراوة الاصول الثابتة بحيث جعلتها كهياكل عظمية ممصوصة الدماء ، انه يضح لها الدماء لتعيد دورتها ثانية بشروطها هي ، وببعض المواعظ الاخلاقية واجرءات رقابية سرعان ما تنسى وتتهالك مع مرور الوقت لتتكيف ثانية وبشكل اطوع مما كانت لاليات السوق التي وبالغريزة لا تقبل بقيود وحدود على حركتها !
لقد وصل الانفلات في عهد بوش والذي تواصل لفترتين رئاسيتين الى درجات مرهقة لمجمل الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وبطبيعة الحال فان الهروب للحروب المفتعلة اشغل الساحة وجعل الاسواق تترقب ما يمكن ان تلتهمه من المحصلة فاموال الضرائب جرى استثمارها عسكريا وليس مدنيا مما انعش اسواق السلاح وضخم من ادوار كارتلات النفط المتخادمة مع استثمارات السلاح وحروبه وكل هذا على حساب تنمية الصناعات المدنية الصديقة للبيئة والانسان ، فتدهور النمو وتقلصت الاسواق وازدادت البطالة ، واستمر نزيف الحروب ، حتى جاء اوباما ليعيد الحسابات من جديد وكله عزم ليخرج النظام القائم سالما وقادرا على تجاوز حالة الاختناق ، فالتغيير الذي من اجله انتخب لا يعني بالنسبة للنظام غير اصلاح الاعطاب التي سببتها السياسات وحيدة الجانب في عهد بوش وليس هو ذلك الوهم في تغيير جذري يخضع الغرائز لنظام الانسنة ، فالانسحاب من العراق والتركيز العملي لاجل انهاء المهمة في افغانستان واستمرار الحرب على الارهاب ـ التطرف ـ بحروب الوكالة وليست الحروب الاستباقية واستخدام لغة دمثة لا تخلو من الوعود المتفائلة والتاكيد على دور الامم المتحدة كلها ايجابيات عندما تقارن باسلوب بوش في الحكم ولكنها ليست هي فقط المقصودة بالتغيير المطلوب لمشاكل امريكا والعالم ، فليس جورج بوش الابن هو المسؤول عن النزعة الاستعمارية والاحتكارية للشركات الامريكية المعولمة مثلا وليس اوباما ايضا لكن كلاهما ادوات لادارة تداعياتها !

في 27 كانون الثاني يكون اوباما قد اكمل عاما كاملا وهو رئيسا في البيت الابيض ، وبجرد بسيط نستطيع القول ان ابرز انجازاته الداخلية خلال هذا العام هو اقرار قانون الرعاية الصحية على الرغم من التعديلات التي اجراها الكونغرس عليه والتي افرغت الكثير من محتوياته الانسانية ، اما على الصعيد الخارجي وبعيدا عن الخطابات والتأملات فلم يتحقق شيء عملي يمكن ان نسميه انجازا وبالتاكيد فان نيله لجائزة نوبل للسلام ليس بانجاز بل حُسب عند البعض كتشجيع لدفعه نحو الانجاز ، نعم كان خطابه في اجتماع الهيئة العامة للامم المتحدة ايجابيا وخاصة في ما يتعلق باستراتيجية العالم بلا سلاح نووي ، ولكنه يبقى مجرد خطاب !
عدد الوعود الانتخابية التي اطلقتها حملة اوباما والتي ساهمت بتعزيز حظوظ فوزه كانت 502 وعد اكثرها للداخل ، ولم يتحقق منها حتى الان سوى 10 بالمئة اما خارجيا فلم يتحقق من وعوده وحتى هذه اللحظة اي شيء مهم يذكر ، والملفت ان وعده والذي تغنى به كثيرا بحيث اراده ان يكون فاتحة لعهده الجديد ، حتى انه قد حدد زمنا لانجازه ، خلال الستة اشهر الاولى من حكمه ، الا وهو وعد اغلاق معتقل اغوانتنامو ، مر عام كامل والمعتقل مازال مفتوحا وفيه العشرات من المعتقلين ، ويبدو ان الامر ليس سهلا كما كان يعتقد اوباما نفسه اثناء اطلاقه للوعد !
من ابرز الوعود الخارجية التي اطلقها اوباما اثناء حملته هو سحب الجيش الامريكي من العراق وبدون ابطاء ، ثم مد المدة لتصل الى 12 شهرا وبعدها استقر على 18 شهر وبالنهاية اندمج مع مواعيد ومراحل ما مثبت بالاتفاقية الامنية طويلة الامد بين حكومة بوش والمالكي بحيث تكون القوات الامريكية قد تركت العراق نهائيا في منتصف عام 2011 !
الوعد الذي هو ليس وعدا وانما هو نهجا وقد تحقق فعلا والمتعلق بالتواجد العسكري الامريكي في افغانستان والذي يخوض حربا شرسة ضد طالبان والقاعدة ، نهج اوباما بالتركيز على افغانستان وضرب شرايين الامداد الخلفية لتنظيمات القاعدة في باكستان ، فقد شهد عام اوباما قرارا نافذا بارسال 30 الف جندي امريكي الى ارض المعارك هناك اضافة الى تأليب الحكومة الباكستانية لتنخرط وبقوة لملاحقة طالبان باكستان والتنسيق معها على طرفي الحدود لانتزاع زمام المبادرة من طالبان البلدين المتجاورين ، اضافة الى حث دول العالم لزيادة مساهمتها في تلك الحرب التي اتعبت الجميع ، وحتى يعطي اوباما افقا محددا للتواجد الاطلسي هناك اعلن ان استراتيجية امريكا في افغانستان تعتمد على جعل الحكومة المحلية والقوات الافغانية قادرة وفي ظرف ثلاث سنوات على تحمل مسؤوليات امنها واستقرارها بيدها لتنسحب قواتنا من هناك !
اما وعوده بالنسبة لقضية السلام في الشرق الاوسط وتحديدا القضية الفلسطينية ، فهي اضعف حلقات هذه الوعود ، اوباما كان قد اعلن عن عزمه على تفعيل مفاوضات السلام لتقام الدولة الفلسطينية خلال عام واحد من بداية المفاوضات وعلى نفس الاسس التي تؤطرها ، وكان الفشل حليفه في اول امتحان حقيقي بمواجهة الصلف والتعنت الاسرائيلي ، فشرط استئناف المفاوضات الوحيد والذي يفرضه منطق المفاوضات نفسها المتوافق مع منطوق قرارات الشرعية الدولية يقتضي بوقف كل اشكال الاستيطان في الاراضي المحتلة التي يجري التفاوض بشأن استعادتها حتى تقام عليها الدولة الفلسطينية ، لان اجراء التغييرات على الارض وفرضها كأمر واقع هو عمل غير شرعي بل وعدواني يستحق العقاب ،
اوباما طالب اسرائيل بالتوقف لكنها لم تستجيب وتجاوزته بل واحرجته ، فسكت الرجل وبلع الاهانة بل وراح يضغط على الجانب الفلسطيني كي يستأنف المفاوضات وبدون شروط ، وكأن مطالبته لاسرائيل بايقاف الاستيطان كانت لبراءة الذمة امام الراي العام من المسؤولية ومن ما يترتب على التجاوزات الاسرائيلية من نتائج والتي سرعان ما ينساها العالم ليلتفت نحو الفلسطينين محاسبا اياهم على ردود افعالهم الطبيعية ازاء تلك التجاوزات ، عين اوباما ممثلا له كمبعوث دائم في المنطقة يروح ويجيء والنتيجة هي هي كما كانت ايام بوش !
موقف اوباما خلال فترة رئاسته الاولى والثانية ، ان جاءت ، من الحق الفلسطيني العادل وطريقة تعامله مع اسرائيل الدولة الوحيدة في العالم الخارجة على القانون الدولي بدلال مدلل من قبل الدول الكبرى ، هو العلامة الفاصلة في الحكم على حكمه ان كان قد نجح في تغيير السياسة الامريكية غير المتوازنة على الصعيد الخارجي والداخلي معا او فشل ، على الرغم من امكانيات نجاحه في تفادي اثار مطبات بوش العاصفة !