ظاهرة الأمة وتطورها (16)


عبد الله أوجلان
2010 / 1 / 30 - 23:06     

إنّ تقسيمَ المجتمعات في داخلها إلى المجتمعِ المشاعي البدائي ومجتمعِ الدولة والمجتمع الديمقراطي، متعلقٌ بقضايا التحول الطبقي والإدارة. في حين أنّ التقسيمَ على أساسِ حقيقةِ الأمة يتحدد بموجب التطورات اللغوية والثقافية والحقوقيةِ والسياسية. إنّ الحديثَ عن أشكالِ الأمم المختلفةِ للغاية، لا عن نموذجِ أمةٍ واحدةٍ فقط، أمرٌ مشحونٌ بالمعاني أكثر. أي، بالمقدور التحدث عن الأمم المتكونةِ على أسسٍ متباينةٍ ومتغايرةٍ للغاية، وليس على الأساس عينه.
لدى إضفاءِ المعاني على تصنيفِ الأمة، سيَكُون من المفيد وضعَ ظاهرةٍ اجتماعيةٍ عامةٍ نصبَ العين دائماً. لجميعِ الجماعات، وعلى رأسها الكلانات، مشاكلُها في تكوينِ كينونتها. أيُّ مجتمعٍ أو جماعةٍ أَكُونُهُ أنا؟ إنه أَشبَه بالتحقيق في الهوية. فكيفما لِكُلِّ إنسانٍ اسمٌ وهوية، كذلك، فالحديثُ عن لزومِ وجودِ اسمٍ وهويةٍ لكلِّ جماعةٍ أمرٌ اضطراري يتعدى اللزومَ إلى الضرورة. وإنْ كان ثمةَ العديدُ من الظواهر الاجتماعيةِ المتشكلة من ماهياتٍ متغايرةٍ بشكلٍ فاقعٍ يضرب العين، فمن الطبيعي وجود هوياتٍ وتعابير لها. وإلا، فالأمرُ سيَكُون أَشبَه بِعَقدِ أفرادِ أسرةٍ واحدةٍ العلاقاتِ فيما بينهم دون تحديدِ أسمائهم وهوياتهم، على حين يَلُوحُ استحالةَ التفكيرِ بذلك حتى ضمن المجتمع الكلاني. وبأبسطِ الأحوال، هو تماماً أَشبَه باستحالةِ مناداةِ أحدٍ بالقول "تعال!"، دون أنْ يَكُون للمنادى اسم. بَيْدَ أنّ إضفاءَ المجتمعِ للمعانيَ على الأشياء، أو عقدَه العلاقات، أو مزاولتَه العلم، أو انتقالَه إلى الممارسةِ الاجتماعية، أو تطورَه؛ سيَكُون عبثاً وسدى، ما لم يَقُمْ بتسميةِ ونعتِ خصائصِه ومزاياه الخاصةِ المتسمةِ بآلافِ التمايزات المتغايرة. وإلا، فسيخطر على البال كَونَه مجتمعاً أخرساً، وهذا أمرٌ مستحيلٌ حتى لدى الحيوانات التي تتميز بلغةِ الإشارة الخاصةِ بها. أي، إنّ التعدديةَ اللغوية، الثقافية، السياسية، والحقوقيةَ أمرٌ ممكن، ولكن، بشرطِ وجودِ اسمٍ وهويةٍ ضمن شبكةِ هذه العلاقات كافة. بالمقدور تواجد أمةٍ ثنائيةِ اللغة والثقافة والسياسة والحقوق، لكنّ هذا لا ينفي وجوبَ وجودِ الاسمِ والهوية. إنّ تأمينَ حياةٍ مشتركةٍ للهويات والتعدديات الكثيرة يقتضي اختيارَ الأساليبِ الصحيحة. وبالأصل، فالمجتمعاتُ لا تتشكل أو تُدار على منوالٍ آخَر.
بالتالي، فتعبيرُ كلانٍ ما عن كينونته وانتمائه من خلالِ طوطمه، إنما يبرهن مدى القِدَم السحيق لهذه الحقيقة. وبأبسطِ الأحوال، فالطوطمُ يعني هويةَ الكلان. ولا يزال بالإمكان ملاحظةَ هذه العلاقات في العديد من الكلانات والقبائل.
يَعكِس المجتمعُ السومريُّ روابطَه بين التسمية والعقيدةِ من خلالِ التعبيرِ عن ذاته في هويةِ المعبد. فالمعبدُ شبكةُ علاقاتٍ تَصَوُّرية. حيث اكتَسَبَ المجتمعُ مستوىً تحليلياً أعلى من جهةِ تسميةِ ونعتِ ذاته. بالتالي، فالنظرُ إلى مجموعِ العلاقات في المعبد، أي إلى هويته، يفيد بمعرفةِ ذاك المجتمع بنسبةٍ هامة. إنها أَشبَه براهننا من حيث وفرةِ الأسماءِ والكنى المجرَّدةِ والرمزية – بل وبنسبةٍ أشمل – في عكسِ وجودِ المجتمع. فضلاً عن أنّ معبدَ المدينة، وإلهَ وإلهةَ المدينةِ يَمُدُّنا برأسِ الخيط في ماهيةِ ومدى المصطلحات والقوة التي يَمتلكها المجتمع. من هنا، فإيلاءُ القيمةِ العليا للأماكن المقدسةِ إلى اليوم يَعُود إلى قيمِ الهوية التي تتسم بها، حيث يَجدون أنفسهم فيها. وهذا بالذات الحَدَثُ الذي نسميه بالوعي الذاتي. فالهويةُ هي حَدَثُ الوعي. إنها الحَدَثُ الأكثر اقتداراً وتأثيراً بشأنِ وعيِ الوجودِ الذاتي.
هويةُ المجتمع في الأديانِ التوحيدية هي الدينُ والإلهُ بالذات، حيث يستحيل تَصَوّر المجتمعِ منفصلاً عن الدين، أو الدينِ منفصلاً عن المجتمع. لذا، وحصيلةَ هذه العلاقة، بالمستطاع تعريف الدين وإلهه بأنهما حَدَثُ توعيةِ المجتمع بصددِ وجوده الذاتي وكينونتِه. فمعرفةُ المجتمعات الإسلامية تندرج بنسبةٍ كبرى ضمن نطاقِ الوعيِ الديني الذي تعتنقه. ثمة انتماءاتٌ أخرى أيضاً، كالهويةِ الجنسية، الهويةِ السياسية، الهويةِ القَبَلية، الهويةِ الطبقية، والهويةِ الفكرية. لكنّ جميعها مصبوغةٌ بطابعِ الهوية الدينية كهويةٍ عامة.
أثينا وروما بِحَدِّ ذاتِهما هوية (إني أتحدث عن العصور القديمة)، حيث أنّ مواطَنَتهما هي هويةُ النخبةِ التي لا تُمنَح لأحدٍ بسهولة. وتشير إلى مدى كرامةِ المدينة وامتلاكها الشخصية، حيث لَم تتشكلْ آنذاك الهويةُ الإغريقيةُ والإيطالية بعد.
تتصاعد الروحُ القومية في العصور الوسطى، وتؤدي الأديانُ وظيفةً هامةً بهذا الصدد. فالإسلامُ على سبيل المثال، يعني في الوقت عينه الوعيَ والسموَّ العروبي. كما أنّ الموسويةَ نظيرةٌ لليهودية. والمسيحيةُ بالنسبة إلى مَن اعتنقها مبكراً مِن الأرمنِ والسريان والإغريق، تعني هويةً قوميةً جِدَّ هامة. إنهما تغذيان بعضهما بشكلٍ متبادل. وأهمُّ وظيفةٍ للأديانِ التوحيدية تتجسد في تجاوزِ نطاقِ هويةِ القبيلةِ والعشيرة. إنّ الوعيَ القومي تَكوينٌ سوسيولوجيٌّ تُؤَثِّرُ عليه الأديانُ التوحيدية في الشرقِ الأوسط خلال العصور الوسطى، وإنْ لَم يَكن بالنسبة التي عليها وعيُ الأمة وهويتها. من هنا، إذا ما عَقَدنا الأواصرَ بين الأديان والروحِ القومية، فبالمقدور القول أنها الشكلُ الأولي (التمهيدي) للنزعة القوموية. الدينُ بالنسبة للأتراك أداةٌ هوياتيةٌ هامةٌ للغاية. فلو لَم يَكن الأسلام، لَكانت الروحُ القوميةُ التركية والعربية أكثر خمولاً في الشرق الأوسط كاحتمالٍ بارز. وعلى سبيلِ المثال، بالإمكان ملاحظة هذه الحقيقةِ في وضعِ تركياتيةِ الخزر الموسوية، وفي وضعِ العرب المسيحيين. لقد أدت العلاقاتُ الدينيةُ أدواراً مختلفة بالنسبة إلى كلِّ شعبٍ أو قوم.
تَداخَل انتشارُ المسيحية في أوروبا أثناء العصور الوسطى مع التطورِ القومي بنسبةٍ كبرى. في حين كان الوعيُ القوميُّ المشتركُ فيما بين الجماعات القبائلية السابقة لتلك الفترةِ ضعيفاً وواهناً للغاية، تماماً مثلما نرى ذلك لدى القبائلِ العربية والتركية أيضاً. لقد أدت المسيحيةُ دورَها كعاملٍ موضوعيٍّ مؤثرٍ في الوعيِ القومي الذي يَسبق مرحلةَ الحداثة. أي أنها لم تَقُل "أنتم فرنسيون أو ألمان" في أيِّ مكان حَلَّت فيه، لكنّ منحَها الوعيَ الدينيَّ نفسَه لجميعِ القبائل الألمانية والفرنسية شَكَّلَ خطوةً عملاقةً على دربِ التطور القومي كهويةٍ مشتركةٍ فيما بينها. والخطوةُ الثانية تتجسد في التطورِ السياسي على شكلِ مَلَكيات. حيث أنّ تَكَوُّنَ المَلَكِياتِ المشتركة، عدا عن الأديان المشتركة، غدا الخطوةَ العظمى الأخيرةَ على دربِ تَكوين الأمةِ ضمن القبائل. وهذا الوضعُ نموذجيٌّ ونوعي بالنسبة إلى فرنسا.
هكذا بات بمقدورنا الحديث عن ولادةِ الأمةِ من خلالِ تنامي السوق وتصاعُد العلاقاتِ والأواصر الاجتماعية. لقد كانت ولادةُ تشكيلِ بداياتِ الأمم وفق هذا النموذج في أوروبا. إذن، والحالُ هذه، فالأمةُ ظاهرةٌ أو مجموعُ علاقاتٍ اجتماعيةٍ ملتفةٍ حول: الوعي القبائلي + الوعي الديني + السلطة السياسية المشتركة + السوق. إنّ تسميةَ ذلك بمجتمعِ الأمة سيَكُون أكثر معنى. فالتحولُ الوطني (تَكَوُّن الأمة) والتدولُ ليسا شيئاً واحداً. مثلاً، ستستمر الأمةُ الفرنسية في وجودها، حتى لو انهارت المَلَكيةُ الفرنسية. قد يَكُون من المفيد ربط الأمة بتعريفٍ عام على أنها الوحداتُ اللغوية والثقافية. لكنّ القولَ بأنّ اللغةَ والثقافةَ وحدهما تُحَدِّدان الأمة، يعد تعاطياً ضيقاً وناقصاً للغاية. إذ ثمة الكثيرُ من المصادر التي تُشَكِّل الأمة وكينونتها. فالسياسةُ، الحقوق، الثورة، الفنون، وخاصة الآداب، الموسيقى، والسوقُ الاقتصادية؛ كلُّها تؤدي دورَها في التحول لأمة. لا علاقة مباشرة بين الأممِ والنظم الاقتصادية والسياسية، ولكن، قد تؤثر في بعضها البعض.
الأمةُ موضوعٌ مبهَمٌ لأبعدِ حد. ومن المهم جداً اتخاذَ الحيطةِ والحساسية والتوازن بشأنها.
المجتمعاتُ الراهنة مجتمعاتٌ تَحَوَّلَت إلى أُمّةٍ بدرجةٍ كبرى. أي أنّ الأغلبيةَ الساحقةَ هي مجتمعُ الأمة، وإنْ كان ثمة المجموعاتُ الهامشيةُ التي لَم تُحَقِّقْ تَحَوُّلَها لأُمّة. بل ويكاد يَكُون ما من فردٍ لا ينتمي لأمة. من الواجب التفكير في الانتماء للأمة على أنه حالٌ طبيعيةٌ للمجتمع. لكنّ الأمةَ لم تكتسب أهميتَها القصوى كأزمة طيلةَ التاريخ الحضاري، إلا في ظلِّ النظام الرأسمالي. أو بالأحرى، فالمضارباتُ المروعة والمخيفةُ المعمولُ بها باسمِ الأمة، قد هَيَّأَت الأرضيةَ للكوارث الكبرى.
إنّ التركيزَ والالتفاتَ المفرطَ إلى مُقَوِّماتِ الأمة شَكَّلَ بدايةَ الكوارث. مثلاً؛ فالأواصرُ بين الأمة والسياسة هي العاملُ الأولي في تكوينِ الأيديولوجية القوموية. ذلك أنّ الفاشيةَ ستَكُون المحطةَ الأخيرةَ للسياسة القومية. والنزعةُ القوموية التي يُحَرِّضُها ويؤججها الاقتصادُ والدينُ والآداب، تؤدي إلى المخرج نفسه. فالاحتكارُ الرأسمالي، وباسمِ حلِّ الأزمات، يختار الطريقَ الأسهل، فيفرط في إضفاءِ النزعة القوموية على جميعِ العوامل المكوِّنة للأمة دون استثناء: السياسة، الاقتصاد، الدين، الحقوق، الفن، الرياضة، الديبلوماسية، الروح الوطنية وغيرها. وهكذا يَبلغ بها حداً من التكامل المنتظم، بحيث لا يبقى أيُّ عنصرٍ في المجتمع إلا وتَحَوَّلَ إلى سلطة. وهو بذلك يَقوم بحساباته لِيَكُون الأقوى والأمنع (بالنسبة لكلِّ أمة)؛ فكانت نتائجه مخيفةً مروعة. إذ حَوَّلَت أوروبا إلى بحورٍ من الدماء، وفسحَت الطريقَ لنشوبِ الحروبِ على الصعيد العالمي؛ فأسفرت عن محصلاتٍ لا مثيلَ لها تاريخياً. إنّ هذه العمليةَ ليست تَحَوّلاً إلى أمة (قوم)، بل هي تديينٌ لهذا التحول. وهذا ما يعني دينَ النزعةِ القوموية. فالقومويةُ دِينٌ بمعناها السوسيولوجي. سوف أتناول هذا الموضوع في البند المعني.
حتى الأديان انتهجت مسارَ الأممية، وتَحَلَّت بالحيطة البليغة إزاء ذلك، لإدراكها يقيناً بمخاطرِ القوموية. إلا أنّ التاريخَ الحضاري قد شَهِدَ أشنعَ مراحلِه على هذا الصعيد في العصرِ الرأسمالي.
إنّ النموذجَ الأنجعَ بالنسبة للأمم هو الأمةُ الديمقراطية. من المهم بمكان الاستيعابَ جيداً كونَ المجتمعِ الديمقراطي هو نموذجُ المجتمعِ المخوَّلِ أكثر للحل والتطوير بشأنِ موضوعِ الأمة. فالأممُ قادرةٌ على التَّكَوُّن والتنامي في ظلِّ المجتمع الديمقراطي الأفضل. وعوضاً عن أنْ تَكُون وسيلةً للنزاع ووسائلِ الحرب، تستطيع تحقيقَ طَورٍ تاريخيٍّ من التطور، مِن قَبيل التعاضد والتكافل ضمن الغنى الثقافي، بل وأنْ تَكُونَ أمةَ الأمم (الأمة العليا). بمعنى آخر، فالأممُ بِحَدِّ ذاتها ليست عاملاً للنزاع والصراع، بل هي قادرةٌ على أنْ تَكُونَ عاملاً للتعاضد والسِّلم والأخوة في ظلِّ الغنى الثقافي الوفير من خلال النظام الديمقراطي. نظراً لأهمية الموضوع، آمل أنْ أطرحه للنقاش بإسهاب في المكان المعني.
سبيلُ الحل الأمثل للنفاذ من مشاكلِ الأمة وقضاياها يَمُرُّ مِن عدمِ إنكارِ الأمة، وعدم الإفراط في إضفاءِ النزعة القومية على مُقَوِّماتها، وعدمِ اختزالِ الأمة إلى مُقَوِّماتِها وحسب، وعدم تسييسها بغرضِ جعلها أداةً بِيَدِ أجهزةِ السلطة المغالية في القوموية. بالمقابل، فهذا السبيل يَمُرُّ من تطويرِ وعيِ الأمة الديمقراطية، وتطبيقه ميدانياً.
ب‌- تعريف الدولة:
الدولةُ هي المصطلح الأكثر شيوعاً تاريخياً وراهناً، لكنها – بنفسِ الوقت – المصطلحُ الأقل معرفةً وتعريفاً، والأكثر غموضاً، حيث ثمة جهلٌ فظيعٌ بشأنِ ماهيةِ الدولة. لا يزال التعريفُ والتفسير السليم للدولة يحتفظ بهويته كمسألةٍ هي الأهم في سبيلِ تحليلِ التاريخ والوقت الراهن وتَخَطّي نطاقِ حالةِ المجتمع المتأزم. والأنكى أنه، وبقدرِ عجزِ المعتقدين بوجودهم داخل الدولة عن معرفةِ نوعيةِ الوسيلة التي يَمتَطونها، فالتعريفُ الخاطئ للدولة (وخاصةً فاجعةُ الاشتراكية المشيدة) من قِبَل الباقين خارجَ الدولة أيضاً (هذا إنْ كان بَقِيَ أحد) أوضاعُهم أَقرَبُ ما تَكُون إلى حوارِ العميان والطرشان، وأَشبَه بحالةِ الفوضى والبلبلة اللاحقة لسقوطِ برج بابل على جماعاته التي تتحدث اثنتَين وسبعين لغة. غالباً ما يتم التفكير بالدولة بكونها ميداناً لِحَلِّ المشاكل، ويُعتَقَد أنّ الوجودَ داخلَ الدولة يكافئ الخلاصَ من كلِّ المشاكل. وأبعدُ من ذلك بخطوة هو حالُ تَصَوُّرِ الدولة على أنها الدولة – الإله.
إنّ الاستيعابَ السوسيولوجي الغائرَ في أعماقه يشير إلى تداخُلِ ظاهرتَي التأليه والتدول على مَرِّ التاريخ الحضاري. فمشاركةُ الراهب في التدول هي السببُ الأولي لتداخُلِ تطورِ الدولة – الرب. ومن المؤكد أنه لدى انعكافِ الكَهَنة على إنشاءِ الدولة، خاصةً في هويةِ المعبد السومري، نَجِدُ مُجَمَّعَ الآلهة المتميز بمكانته كعاملٍ أيديولوجي، ليس سوى القناع الأيديولوجي الذي استخدمَته الإدارةُ السياسية. فالراهب – المَلِك في الخطوة التالية هو الإله – المَلِك بذاته. وقد استُخدِم اصطلاحُ الإله – المَلِك أو الإمبراطور حتى عهدِ الإمبراطورية الرومانية، حيث يَعُود بأصوله إلى المعبد السومري. في حين أنّ الأديانَ الإبراهيمية عَمِلت على جذبِ هذا الاصطلاح إلى محفلِ الإله – النبي أو الإله – الرسول، سعياً منها لإضفاءِ الشكلِ الإنساني عليه نوعاً ما. وقد نجحت في ذلك.
الوضعُ الغريب حقاً هو الفصلُ بين الصفات الألوهية والبشرية في الميثولوجيا اليونانية (النسخة المعدلة الثالثة المأخوذة من السومريين). فكأنه من المحظور أو المعيب عقد الأواصر بين الإنسان والمُجَمَّع الذي طَوَّرَه هسيودوس بالتناسب طرداً مع مستوى الوعي. بل وثمة إصرارٌ على اتخاذِ العلاقات بين الآلهة والإلهات بمثابة طبقةِ الكاست المنغلقة على ذاتها. في حين أنّ طبقةَ الكاست البراهمائية الانطوائية، التي هي حالةٌ خاملةٌ وهامشية من تصويرِ الإله – المَلِك، أكثرُ صرامةً لدى الهنود، الذين لا يقبلون بسهولة بأنسنةِ الإله أو عقدِ العلاقة معه. ولو تَرجَمنا هذا إلى لغةِ العلم، سنجد أنهم يرفضون بتاتاً النزوعَ إلى قبولِ كونِ الدولة إنشاءً بشرياً على الصعيد الأيديولوجي (وذلك بشكلٍ بارزٍ في الميثولوجيا والأديان، ونسبياً في الفلسفة). بل ويجهدون بكلِّ دأبٍ وتَحَجُّرٍ عقائدي إلى الإبقاء على الدولة وراءَ طبقاتٍ من الستار، وصونِ ألوهيتها. وبالفعل، فالاصطلاحاتُ من قَبِيل: الدولة ساميَة، مقدسة، وأداةُ الخلاص الأساسية وغيرها؛ تنتهل جذورها من الرهبان السومريين، باعتبارهم حقاً المشيدين الأوائل للدولة. فقد تم إنشاؤها في أحشاءِ رحمِ المعبد، مثلما سعيتُ لتحليلها باستفاضة سابقاً.
تأسيساً على الإيضاح المذكور أعلاه، فتفسيرُ هيغل للدولة القومية التي يبتدئها بنابليون، على أنها "هبوط الإله على وجه الأرض"، وترميزه "مسيرةَ الإله" في شخص نابليون؛ يُعتَبَر مفيداً لأقصى حد. فالدولةُ القومية هي الشكلُ الأخير للدولة – الإله، والشكلُ الأخطرُ للدولة في الوقت ذاته.
أما التفسيرُ السوسيولوجي العلمي، فيسعى حديثاً لتعريفِ هذه الشبكة من العلاقات المعقدة (الدولة). أَعتَبِر مشاطرةَ نقاشِ هذا الموضوع، الذي تعمقتُ فيه مدةً طويلة، وظيفةً أوليةً بالنسبة لي. آمل أنْ يَكُون ذا نوعيةٍ تفتح الآفاق. قد يَكُون تعريفُ الدولةِ ارتباطاً بالسلطة بدايةً حسنة. إذ بالمستطاع تسمية جميعِ أشكالِ السلطة ذات الطابع الحقوقي بالدولة. فالسلطة المُرَكَّزَة ضمن تكامُلِ مجملِ المؤسسات المُؤَطَّرة ذات القواعد المُحَدَّدة، إنما تُعَرِّف الدولةَ جيداً من الناحية الحقوقية. لكنّ هذا لا يكفي. فإيضاحها لمضمونِ الدولة بالارتباط المتكامل مع الشكل، وتناولُها الإطارَ والشكل معاً يُقَدِّم وجهةَ نظرٍ أكثر اكتمالاً. وإذا ما وَحَّدنا هذا الموقفَ مع التطورات التاريخية والاجتماعية الحاصلة، فسنستطيع بلوغَ تعريفٍ شاملٍ ذي قيمةٍ عليا من حيث المعنى والسرد.
إني منتبهٌ للعديد من تعريفاتِ الدولة. لكن، لن يَكُون مفيداً تكرارَ القوالب والكليشيهات المحفوظة منذ مدةٍ طويلة، سواءً في المعسكر الليبرالي أو الاشتراكي. عليَّ أولاً إيضاح ما لا تعنيه الدولة.
أ‌- إنها ليست قمعَ الصراعِ الطبقي أو الإبقاءَ عليه ضمن التوازن (كوضع). إذن، فاصطلاحُ كونِها أداةَ قمعٍ طبقي كطابعٍ غالبٍ فيها ليس مُطَوِّراً كثيراً.
ب‌- إنها لا تعني إزالةَ حالةِ الفوضى بتاتاً. في حين أنّ مزاعمها في استتبابِ الأمن والنظام بعيدةٌ عن التعبير عن الحقيقة.
ج- إنها ليست ميداناً لِحَلِّ المشاكل والأهداف على الإطلاق. وعلى النقيض، هي أرضيةٌ لاستفحالِ المشاكل كالغرغرينا، وتأزيمها، والاستمرار بها.
د- أما علاقتها مع الألوهيات والمقدسات، فميثولوجيةٌ وأيديولوجية، لا غير.
هـ- ولا معنى لها البتة كقوةِ تكوينِ وإدارةِ الأمة والدين والثقافة.
كلُّ هذه التفرعات، التي يمكننا الاستطراد فيها أكثر، مجرد دعاياتٍ بالأغلب. فالدولة تُعنى بالأمور المذكورة آنفاً، لكنّ التاريخ يُوَضِّح لنا أنّ كلَّ الدول لم تتعدَّ كثيراً نطاقَ أداءِ دورها الأصلي في تحويلِ الأوساط إلى مذبحة، والقيام بعمليةِ الصهر، وبناءِ المجتمع الكسول الخامل، وتصييرِ الإنسان أحمقاً أبلهاً على يَدِ العقلِ المُضارِب. أنا لا أنكر مكانةَ الدولة في إدارةِ شؤونِ المجتمع، ولا أرى تعريفَ الفوضويين للدولة ونزوعَهم إلى اللادولة أمراً ذا معنىً أو ممكنَ التطبيق. كما أنّ حقيقةَ تناوُلِ الاشتراكيين للموضوع تشير إلى عدمِ نجاحهم فيه من خلال ممارستهم العملية طيلة قرنٍ ونصف. فإشادتهم بالكثير من الحقائق لا يدحض أخطاءهم في المواقف الأساسية. في حين يُعتَبَر الوضعُ الذي قال فيه الليبراليون "أَقَلّ ما يمكن من الدولة" أكثر معنى من إحدى مناحيه، حيث أدركوا كون الدولة إرغاماً احتكارياً اقتصادياً. لكنّ دفاعَهم المستميتَ عن كون الرأسماليةِ نظامَ الاقتصادِ الأكثرَ عطاءً، لا يُنقِذهم من الإشارة إليهم على أنهم أفظعُ الكذابين المُرائين الذين يُخَلِّفون كلَّ تعريفات الدولة وراء ظهورهم.
إنّ تعريفَ الدولة على الصعيد الضيق بالاحتكارِ الاقتصادي المتأسس على فائضِ الإنتاج والقيمة، يُنِير الأمرَ أكثر. فالدولةُ تُنَظِّم نفسَها كبنيةٍ احتكاريةٍ عليا مُسلَّطةٍ على المجتمع بكافةِ الوسائل، بدءاً من الأيديولوجية إلى التعسفيةِ العنفية، في سبيلِ امتصاصِ وتسريبِ فائضِ الإنتاج والقيمة من المجتمع إليها. وإذا ما نظرنا للأمر على ضوءِ هذا التعريف الضيق، سنجد أنّ السياسةَ (سياسة الدولة) في آخرِ مطافها تعني فنَّ الإدارة المنسِّقة والمشرفة على تحقيقِ فائضِ الإنتاج والقيمة. وإذا ما ربطنا ذلك بصياغةٍ عامة، يمكننا القول: الدولة = فائض الإنتاج والقيمة + الوسائل الأيديولوجية + أجهزة العنف + فن الإدارة. وإذا ما قَيَّمناها ضمن مجموع السياق التاريخي، سنجد أنّ كلَّ هذه العوامل مُطَبَّقَةٌ لدى الحديث عن الدولة. وفيما عدا هذه العناصر أو العوامل، من غير الممكن تحليل شبكةِ العلاقات المسماة بالدولة، سواءً من حيث التكامل، أو من جهة تناولِ كلِّ وسيلةٍ بمفردها.
1- القول بكون الدولة تعني نهبَ وسلبَ فائضِ القيمة أمرٌ صحيح، لكنه تعريفٌ ناقص للغاية.
2- تعريفُ الدولة أيديولوجياً على أنها ألوهية، مقدسة، أو ظلُّ الله على وجهِ الأرض، أو حالةُ تجسيدِ الإله؛ لا ينفع سوى في تفصيلِ القناع الأيديولوجي اللازم لشتى أنواعِ الاستبداد والطغيان.
3- أما القول بكون الدولة استبداداً وطغياناً، فلا يذهب أبعدَ من كونه حكماً أخلاقياً هو الأبخس علمياً، باعتباره يتغاضى عن العناصر الأخرى ويُبعِدها.
4- تشتمل مضامينُ المفاهيمِ التي تُفَسِّرُ الدولةَ بفَنِّ الإدارةِ والحكم على مخاطرَ جديةٍ من قَبيل التستر على الوجه الباطني الحقيقي للدولة، نظراً لتغاضيها عن العوامل الأخرى التي لا غنى عنها، بقدر التفسيرات الأخلاقية على الأقل.
لا ريب في أنه لكلِّ عنصرٍ من العناصر المذكورة مكانتُه التي لا بد منها لوجودِ الدولة، ولكن، لا يمكن تعريف كلِّ عنصرٍ على حِدى بالدولة. من هنا، فأغلبُ التعريفات المُصاغة متباينةٌ فيما بينها، نظراً لإبرازها أحدَ العناصر على حسابِ الآخَر، فلا تنجو بذلك من إفساح الطريق للتقييمات الناقصة.
بالمقدور تصنيف الدولة على شكلِ تقسيماتٍ متنوعة على مر سياقِ التاريخ.
أ‌- من حيث الطبقات الاجتماعية المُسَرِّبة لفائضِ القيمة والإنتاج:
1- الدولة العبودية: هو شكلُ الدولة الذي يَكُون فيه الناسُ تابعين للدولة وأسيادها الخاصّين الدولتيين، ليس بكدحهم وحسب، بل وبوجودهم الكلي، وذلك مقابل إشباعِ بطونهم. وهو الشكل الاستعماري الأساسي لحضاراتِ العصور القديمة، يَكُون فيه العبيد أداةَ الإنتاج الرئيسية.
2- الدولة الإقطاعية: هو شكلُ العبودية المرنة بِحدود. فالفرق بين القن والعبد هو حقُّ الأول في تأسيسِ العائلة. وهو الشكلُ المُجَرَّب في مدنياتِ العصور الوسطى، باعتباره يفسح المجالَ أكثر أمام فائضِ الإنتاج والقيمة، حتى وإنْ كان عسيرَ التنفيذ عملياً، وموثوقاً بشروطٍ جمة.
3- الدولة الرأسمالية: هو شكلُ الدولة الذي يعتمد أساساً على الطبقة الاجتماعية المسماة بالعمال، والتي تبيع كدحها فقط في السوق كأيِّ سلعة. وقد يَكُون تسميتها بالقسم أو البنية أكثر ملاءمة من تسميةِ الشكل. إنها دولةُ عصرِ المدنية الرأسمالية.
ب‌- طرازُ التقسيم الآخر هو المتعلق بالوجود الأثني للفئة الحاكمة:
1- دولة الرهبان: تسمى هكذا نظراً لسيادةِ طابعِ مجموعة الرهبان عليها، باعتبارهم أولَ مؤسسيها ومُشَيِّديها. وكلُّ الاصطلاحات من قبيل المعبد والدولة المقدسة أو الدولة – الإله تعود إلى هذه الفئة.
2- دولة الأسر الحاكمة: تُعَرَّف وفق الأسرةِ التي تمسك بزمامِ الإدارة والحكم. لذا، بالمستطاع تسميتها بدولةِ السلالة. وهو طرازُ دولةٍ إداريةٍ شائعةٍ في كافة العصور الحضارية، بل ولا يزال تأثيره سائداً حتى في الدول الراهنة. هو الدولةُ التي تُشَكِّل عائلةٌ أو سلالةٌ المجموعةَ الحاكمة الأساسيةَ فيها.
3- دولة العشيرة أو القوم: هي الدولة القائمة تحت نفوذِ عشيرةٍ أو قومٍ ما بالأغلب. ويُلاحَظ تأثيرها بشكلٍ خاص في العصور الوسطى، حيث تَطوَّر الوعيُ العشائري أو القومي. ووضعُ الدولة في المسيحية والإسلام واليهودية والهند والصين وغيرها من العديد من الأقوام والأديان يتيح الفرصة لتعريفٍ كهذا. الدين هنا يؤدي دورَ التحول القومي.
4- الدولة الوطنية: هي الدولةُ المرتكزة على أساسِ المجتمعات المحققةِ لِتَحَوُّلها الوطني. وهي دولةُ العصر الحديث (العصر الرأسمالي بمعناه الضيق). ولا تقتصر على العصر الرأسمالي فحسب، بل وتُشَكِّل الوضعَ السائدَ أساساً في العصر الديمقراطي أيضاً، أو بالأحرى تؤدي دورها بإدارةِ دفةِ الحكم بالوفاق (الدولة + الديمقراطية). هذا وبالإمكان القول بوجودِ الدولة الوطنية عندما تتواجد كلتاهما، أي عندما يسود نظامُ الدولة + الديمقراطية. وهي تختلف عن دولةِ الأمة من حيث قدرتها على احتضان العديد من الأمم.
5- الدولة القومية (دولة الأمة): هي الدولة التي تحتوي في بنيتها على أمةٍ واحدةٍ فقط، بحيث يتكامل ويلتحم جميعُ أعضاءِ الأمة مع الدولة على أساسِ النزعة القوموية. تكاد تَكُون الدولةُ فيها أحاديةً بقومها. وهي شكلُ الدولة الأساسي في المدنية الرأسمالية. هذا ومن غير الممكن الفصل بين الدولة القومية والدولة المسماة بالفاشية، نظراً لكونِ هذه الأخيرةِ شكلَ نظامِ الثورةِ المضادة للدولة القومية، أو شكلَ نظامها المتميز بالأزمات الدائمة في ظلِّ الرأسمالية.
ج- بالمقدور إجراء طرازٍ آخر من التقسيم، بموجب الانتخاب أو التعيين، أي استلام زمامِ الحكم بالوراثة أو بالعنف:
1- الدولة المونارشية: هي الدولة المرموز لها بشخصٍ واحدٍ حاكم. أي أنّ حاكمَ الدولة أحاديٌّ هنا، وقد يَكُون مونارشياً أو مَلِكاً أو إمبراطوراً يستلم دفةَ الحكم إما بالوراثة من الأب إلى الابن، أو باستخدامِ قوةِ العنف. وقد شوهد هذا النمط في كافةِ العصور الحضارية، والذي يعكس مدى هزلِ وضعفِ تمأسسِ الدولة.
2- الجمهورية: هي حالةُ مجيءِ مجموعةِ الإدارةِ الرئيسية بالانتخاب. وقد يُنتَخَب شخصٌ واحد، أو ألفُ شخص، لا فرق في ذلك. وحتى إنْ اختلفَ الأمر شكلياً، لكنه لا يُغيِّر من المضمون شيئاً. يحصل الخلط بين الجمهورية والديمقراطية أحياناً، وهذا خطأٌ وخيم. فالجمهوريةُ شكلُ دولة. والانتخاب يُعمَل به لتحديدِ إدارةِ مؤسساتِ الدولة الوطيدة بشكلٍ بليغ، لا لأجلِ الديمقراطية كإدارةٍ للشعب. في حين أنّ الديمقراطية نَسَقٌ مختلفٌ كلَّ الاختلاف. فهي شكلٌ إداري لا يندرج في نمطِ الدولة. لا ريب أن للديمقراطية أيضاً مؤسساتها التي تقوم بالانتخاب داخلها. لكنّ الديمقراطيةَ والدولةَ تنفصلان عن بعضهما مضموناً. لقد اختَلَطَ هذا الوضع على كل المثقفين المتنورين، بما فيهم الماركسيين. بل حتى ثمة خلطٌ لدى لينين أيضاً. ذلك أنه ثمة فرق نوعي بين وضع الديمقراطية وبين المدنيات الرسمية المُكَوِّنة لنواة الدولة.
من هنا، يتحلى عدم الخلط بين الإدارة الديمقراطية وإدارةِ الدولة (سواء كانت منتَخَبةً أم لا بالنسبة لكلتَيهما) بأهميةٍ قصوى. علماً أنّ الدولةَ تعني أساساً تقاليدَ الحكم والإدارةِ المؤسساتية المتأتية من آلافِ السنين. لذا، فوظيفةُ الانتخابات في الإدارة محدودةُ النطاق لأبعدِ الحدود. ذلك أنّ ما يجري عبر الانتخابات أساساً هو تأمينُ الأفضلية والامتيازات لأجلِ شتى الزمر الاحتكارية الموجودة ضمن الدولة إزاء بعضها البعض (كالزمرة الاحتكارية الزراعية، الزمرة الاحتكارية التجارية، وزمرة الصناعة أو التمويل..)، وذلك بموجب مكانتها وقوتها. فمَن كان أقوى هو الذي يُنتَخَب. وإلا، فلا ثمة ديمقراطية في الوسط، ولا ثمة الوضع المسمى بانتصارِ الديمقراطية.
ما مِن حُكمٍ مطلق في كلِّ الديمقراطيات يقول بتوظيفِ الجميع بالانتخاب. فمن لَم يُنتَخَبوا أيضاً بإمكانهم أداءَ دورهم ضمن الإدارة في ظلِّ الديمقراطيات. لكنّ المعيارَ الأساسي هنا تحديدُ المجتمعِ الديمقراطي لإدارته بالانتخاب وفق فتراتٍ قصيرةِ المدى، في سبيلِ إفساحِ المجال لتحقيقِ مختلفِ أشكالِ التطور والعطاء والإبداع والحقوق والحريات والمساواة.
د- شكلُ التقسيم الآخر هو ذاك المعتمد على المجموعاتِ المُسَرِّبة والمختلِسة لفائض القيمة:
1- الدولة الزراعية: تعريفُ الدولة على هذا النحو يسلط الضوءَ عليها جيداً، نظراً لكونها في بداياتِ تأسيسها قد انتظَمَت كإدارةٍ تَعمل على الاستيلاء والاستحواذِ على فائضِ الإنتاج الزراعي. بالتالي، بالمستطاع الحديث عن وجودِ دولةِ الزراعة على مَرِّ التاريخ بالتناسب طرداً مع قوةِ الزمرة الزراعية في العديد من الدول أو داخل أجهزتها.
2- الدولة التجارية (الدولة المركنتلية) : هي الدولة التي تعتمد في حكمها على تنظيمِ التجارة أسلوباً في اختلاسِ وتسريبِ فوائضِ القيمة والإنتاج. مثلاً، فالدولتان الآشورية والفينيقية هما كذلك تاريخياً. وفي راهننا، ثمة الدولُ التي لا تزال زُمَرُها التجاريةُ قويةً ومؤثرة للغاية.
3- دولة التمويل: هي حالةُ الدولة المعتمدةِ على قوةِ المال. بمقدورنا إظهار سويسرا مثالاً على ذلك. الأهم من ذلك، ونظراً لإمكانيةِ اعتبارِ عصرِ العولمة الرأسمالية الأخير بأنه عصرُ التمويل؛ بالإمكان القول أنّ زمرةَ احتكارِ التمويل المالي في راهننا قد تَعَزَّزَ شأنُها بدرجةٍ عظمى في جميعِ الدول، وبات لها وزنها المُحدِّد على دفة الحكم في راهننا.
4- الدولة الصناعية: ثمة العديدُ من الدول المنعوتة بهذه الماهية، انطلاقاً من الإنتاج الصناعي، الذي يؤدي دوراً رئيسياً في الاقتصاد بالتزامن مع الثورةِ الصناعية على وجهِ الخصوص. لقد كان بلوغُ حالةِ الدولة الصناعية هدفاً مثالياً في القرن التاسع عشر، لأنّ التصنيعَ كان مرادفاً للغنى في فحواه. بالتالي، كان بلوغُ التصنيعِ بأقصى سرعة الهدفَ الأوليَّ لكافةِ الدول المتأسسة. من هنا، كانت زمرةُ الدولةِ الأقوى تتكون من الصُّنّاع. بمعنى آخر، فالزمرُ الاحتكارية الأساسية المعششةُ داخل الدول هي التجارُ الكبار (المركنتلية) في القرن الثامن عشر، والصُّنّاعُ (الصناعوية) في القرن التاسع عشر، والمالِيّون (المموِّلون المستثمِرون) بالأغلب منذ القرن العشرين حتى يومنا. وبشكلٍ أساسي، هذه الزمر هي التي تدير شؤونَ العلاقات المعقدة المسماة بالدولة.
هـ- التقسيم الآخر الأغرب هو التسمياتُ المزيَّفة للدولة، والمؤديةُ دورَ الجهاز الأيديولوجي الساعي لإخفاءِ حقيقةِ احتكاراتِ الدولة الرأسمالية، والتستر عليها. قد يَكُون من المفيد الإمعانَ في ما يُزعَم أنها أنماطُ الدولة، والتي هي عبارة عن إنشاءاتٍ وصياغاتٍ أيديولوجيةٍ تَجهَدُ لإضفاءِ هالةٍ من الغموض والإبهام على تعريفِ مصطلحِ الدولة. ذلك أنّ الأجواء اليوميةَ تئن تحت وطأةِ احتلالِ هذه المصطلحات وفروضها:
1- الدولة الليبرالية: هو المصطلحُ الأيديولوجي المعزَّرُ على قلوبِ رجالاتِ الاقتصاد السياسي. ومعناها الحرفي الدولةُ الحرة، رغم أنّ التضاد، لا التناغم، هو الأساسُ بين الحرية ومصطلح الدولة. فالدولةُ من حيث الجوهر تعني الحدَّ من الحريات. ومن أعظمِ القضايا على مرِّ التاريخ هي دفاعُ الفرد والجماعة عن حرياتهم تجاه الدولة. وقد احتل هذا الكفاحُ مرتبةَ الصدارة بين لائحةِ الحروبِ السياسية والحقوقية الرئيسية. علاوةُ على أنه يتم تعريف هذه الدولة أيضاً بأنها الأقلُّ تدخلاً في شؤونِ الاقتصاد، رغم أنّ وجودَ الدولة غيرُ ممكنٍ إلا بالاحتكار الاقتصادي. تأسيساً على ذلك، فمقولةُ "الدولة الأقل تدخلاً" ليست سوى سفسطة وثرثرة مضادة ومخالفة لمضمون الدولة وهوية كينونتها. وقد يُراد بهذا الاصطلاح تأمين الانفتاح أمام الاحتكارات الاقتصادية الرأسمالية باعتبارها الدولة، والإكثار من حصتها.
2- الدولة الاشتراكية: هذا الاصطلاح، المأخوذُ به بالأكثر في معسكر الاشتراكية المشيدة بالأخص، عبارة عن سفسطةٍ معادِلةٍ لمصطلحِ الدولة الليبرالية بأقلِّ تقدير. فالاشتراكيةُ الحقة لا علاقةَ لها بالدولة أصلاً. والدولةُ على تضادٍّ مع الاشتراكية بقدرِ تضادها تجاه الديمقراطية على الأقل. إنّ الجُرمَ الأفدح والأشنع للانتهازية يكمن في الخلط بين الدولة باعتبارها مجموعَ الزمرِ الاحتكارية الاقتصادية الكبرى تاريخياً، وبين الاشتراكية باعتبارها نَسَقَ المساواة ونظامها. فالدولةُ الاشتراكية في راهننا، والمقابِلة للظاهرةِ المصطَلَح عليها بـ"اشتراكيةِ فرعون"، ذاتُ عُرى وثيقةٍ مع الفاشيةِ البدائية، كونها شكلَ الدولة الأكثر انفتاحاً للرأسمالية: فالدولةُ القومية (الفاشية) تعادل الاشتراكية المشيدة. أي أنّ الدولةَ القومية هي الطابعُ الحقيقي لليبرالية وللاشتراكية بماهيتها المشيدة (اشتراكية الدولة) على السواء. لذا، من الهام جداً تقييم أواصرها مع الفاشية (ضمن نطاق السلطوية والتوتاليتارية). سيكون من الأنجع كثيراً تقييم الدولة الليبرالية والاجتماعية أو الاشتراكية على أنها الفاشيةُ البدائية السائرة على دربِ الفاشية.
على الموالين للاشتراكية الاستيعابَ بأفضلِ الأشكال أنّ الدولةَ هي المؤسسةُ الأساسيةُ في اختلاسِ وتسريبِ فائض الإنتاج والقيمة طيلةَ تقاليدِ المدنية المعمرة خمسةَ آلافِ عام، وليس فقط ضمن التقاليد الرأسمالية المعمرة أربعةَ قرون فحسب. بالتالي، فإنْ كانوا يدافعون عن فكرةِ تشييدِ الاشتراكية من خلالِ الدولة عن وعيٍ وقصد، فذلك يعني الفاشية. وإنْ كانوا أداةً مُسَخَّرة عن غيرِ وعي، فمفاده الغفلةَ والخيانة. آمل تناولَ وطرحَ هذه المواضيع بإسهاب في قسم سوسيولوجيا الحرية.
3- الدولة الفاشية: إنه اصطلاحٌ لا معنى بارز له. الفاشيةُ مشابهةٌ من حيث الجوهر للدولة القومة. تتجسد السفالةُ الكبرى للمثقفين المدَّعين أنهم ليبراليون أو اشتراكيون في صياغةِ تعريفِ الفاشية وكأنها شيءٌ استثنائي مُسَلَّطٌ على النظام خارجَ نطاقِ الرأسمالية. فالرأسماليةُ والمدنية والدولةُ هي التعبير الممنهَجُ عن الإبقاءِ على الدولةِ القومية (بالتالي الفاشية) منتظِرةً على عتبةِ الباب في كلِّ الأوقات. الفاشيةُ قاعدةٌ سائدة. والاستثنائيُّ هو اضطرارها للوفاق مع البنيةِ الديمقراطية!
4- الدولة الديمقراطية: لطالما تطرقنا إلى أسبابِ استحالةِ أنْ تَكُونَ الدولةُ ديمقراطية. فنظراً للاختلافِ الجوهري بين الدولة والديمقراطية على صعيدِ الذهنية وبنيةِ المجتمع ونمطِ الفاعلية والممارسة، فلا وجودَ للدولة الديمقراطية. لكن، وبسببِ البنية المتأزمة للمدنية الرأسمالية كعاملٍ جِدِّ أساسي ومؤثرٍ على مدى السياق التاريخي عموماً، والمتزايدةِ وطأةً في راهننا؛ فقد تَوَلّدَت ضرورةُ وفاقها مع نظامِ الحضارة الديمقراطية. أي أنّ الدولةَ عاجزةٌ عن الإدارة لوحدها. بل باتت مرغَمَةً على الإدارة المشتركةِ مع القوى الديمقراطية. بالتالي، فالوفاقُ بينهما أمرٌ ممكن، ولطالما نشهد العديدَ من هذه الأمثلة في التاريخ. وأياً كان شكلُ الدولة، فإذا ما بَحَثَت عن فرصةِ المشاركة مع المبادئ والبنى الديمقراطية وأسَّسَتها، فحينها يَكُون مصطلحُ الدولةِ الديمقراطية ذا معنى من حيث كونها منفتحةً على الديمقراطية. وبموجب ذلك، فالتعريفُ الأصح والأسلم هو: الدولة + الديمقراطية. كنتُ قد بيَّنتُ سابقاً أنّ التركيزَ على أشكالِ الدولة وتناولها من أهمِّ الوظائف المرحلية (العاجلة) لفلسفةِ السياسة. ذلك أنه بات من المستحيل القدرة على إدارةِ وحكمِ المجتمعات الراهنة بمنطقِ الدولة الكلاسيكية. ولهذا السبب بالذات أُقحِمَت منظماتُ المجتمعِ المدني في الواقع العملي، ولكنها تعاني النقصانَ الجدي، ولا يبدو ضمن الوضع الحالي أنّ هذه المنظمات قادرةٌ على ملءِ الفراغِ الإداري أو المشاركة فيه.
يَلُوحُ أنّ المَخرَجَ الوحيدَ الممكن يتجسد في الوفاقِ بين بُنى المجتمع الديمقراطي المنتَظِمةِ براديكاليةٍ أكثر، وبين مؤسساتِ الدولة المُصَيَّرةِ أكثر عطاء. أما القول بوجودِ المدنية الرأسمالية لوحدها، أو القول بتشييدِ الحضارة الديمقراطية أو النظام الاشتراكي لوحده في خضمِّ المرحلة التاريخية القائمة (ولا أحد يستطيع التخمين كم من السنين ستدوم)، قد أفلسَ بعدما تَمَخَّضَ عن نتائجَ كارثيةٍ مأساويةٍ من خلالِ الممارسات العملية الحاصلة. والخسرانُ هنا من نصيبِ المجتمع البشري، في حين لا يَطُول إلا عمرُ الألمِ والدم والاستغلال (سنستطرد في معالجة هذه المسائل في سوسيولوجيا الحرية بشكل واسع).
هناك بعضُ المصطلحات الأخرى، يتصدرها – على سبيل المثال – دولة الحقوق. لكنّ الدولةَ باعتبارها تُمَثِّل الاحتكارَ الاقتصادي، ولكونها تحيا بالاستيلاءِ على فائضِ الإنتاج أصلاً، فمن غيرِ الممكن أنْ تَكُون عادلةً أو حقوقيةً في صُلبها. لكن، وبموجبِ القواعد المُصاغة والمبيَّنة لأعضائها ومواطنيها، فقد سُمِّيَت بدولةِ القواعد أو دولةِ القانون، أو دولة الحقوق، نظراً لسلوكها على أساسِ المساواة ووفق القوانين المرسومة مسبقاً. لا شك في أنّ هذا وضعٌ إيجابي قياساً بدولِ الاستبداديين والباشوات الذين يبتدعون القواعد يومياً أو يجعلون من كلِّ كلامٍ لهم فرماناً راسخاً. لكنه من حيث المضمون لا يُشَكِّل تعريفاً مختلفاً للدولة. فمثلاً، دولةُ الدين اصطلاحٌ لا معاني كثيرة له. ذلك أنه، وانطلاقاً من دولةِ الرهبان، فقد عُرِضَت الدولةُ وطُرِحَت تحت رِداءِ القدسية طيلةَ سياقِ التاريخ. أما التسمياتُ النابعة من الدين والميثولوجيا والفلسفة، بل وحتى "العلموية"، فتندرج في نطاقِ الدعاية والتحريض بالأرجح، كونَها الوسائل الأيديولوجية للدولة. أما الدولةُ العلمانية، فقد تم التفكير فيها أصلاً على أنها مضادةٌ لدولةِ الدين. ولهذا فهي تشتمل على المعنى ذاته. أي أنّ النعوتَ والصفاتِ (ذات الأهداف الأيديولوجية) من قَبيل الدولة العلمانية أو الدينية، لا تَسرد لنا مضموناً أبعدَ من كونها قيمة دعائية.
خلاصة؛ فالدولةُ هي البذرةُ النواة للمدنية والتاريخ الحضاري المديني، تكاثرت على طوله حتى وصلت يومنا الحاضر، وحرصَت على تمويهِ ذاتها دائماً من خلالِ الانقسام إلى أشكالٍ لا حصر لها. ولأولِ مرة أتيحت فرصةُ تعريفِ الدولة ضمن نطاقِ وظيفتها الحقيقية في عصرِ المدنية الرأسمالية، رغمَ كلِّ التحريفات الأيديولوجية السائدة. ويُعَدُّ هذا التعريف من أثمنِ منجزاتِ الكفاح تجاه الرأسمالية حصيلةَ الجهود الذهنيةِ والعملية الكبيرة. لكنّ القضيةَ الحياتية تتجسد في ترسيخِ وتصعيدِ معاني الحضارةِ الديمقراطية شكلاً ومضموناً (تنظيماً وممارسةً) على ضوءِ هذا التعريف، في سبيل تطويرها وإنجاحها.