عبد الحسين جليل ..أين أنت الآن ؟


عبد العزيز محمد المعموري
2010 / 1 / 21 - 06:49     

عبد الحسين جليل .. اين انت الان ؟
الكاتب والمعلم المتقاعد عبد العزيز محمد المعموري - ناحية العبارة -بعقوبة - محافظة ديالى
سنة 1946 كما اتذكر عندما كنت طالباً في الصف الثاني من دار المعلمين الريفية في بعقوبةجاءنا طالب من اهالي الخالص يسمى ( عبد الحسين جليل ) واستنكافاً من العبودية سمي ( حسين جليل ) .
وكان طويل القامة ابيض البشرة , بشعر سبط يميل الى الشقرة , حيــن يمشي تحسبه ( المانياً ) لاعتدال قامته وارتفاع هامته وطغيان ملامح الكبرياء في تعابير وجهه , لا يتكلم الا قليلاً , ولا يتبسط مع احد في الحديث .
تعرفت عليه اثر حادث طريف , كنت وقتها ابرز طالب في اللغة العربية , وكان موضوع الانشاء الذي اكتبه يعجب مدرس اللغة آنذاك – المرحوم مجيد دمعة , وكان يقرا ما اكتبه على طلاب الشعب الاخرى , ويحثهم على الاقتداء بأسلوبي في الكتابة , ويشجعني قائلاً : ستكون اديباً كبيراً في المستقبل !
وحاولت ان اكون شاعراً ايضاً , فنظمت كلاماً موزوناً ومقفى , ولكنه لم يرقى الى مرتبة الشعر , وعلقت قصيدتي على لوحة خاصة بالنتاج الادبي ... وانا اشعر بالسعادة والفرح لمـا خطته اناملي , لكني فوجئـت بذلك الفتى الاشقر الطويل القـادم من بلدة ( الخالص ) وهو يقف قبالة اللوحة ويقرأ ما كتبته , ويخرج قلمه من جيبه ويخط بجانب قصيدتي : ( هذا شعير وليس شعراً !! ) , فغضبت منه وسألته ان كان يستطيع ان يكتب مثلها , فأجابني : سأريك شعري , واخرج من جيبه قصيدة علقها بجانب قصيدتي , وحين قرأتها شعرت بأن ما اقرأ هو شعر حقيقي يقرب من ادب المهجر , فهل يعقل ان يكون هذا الفتى بهذا النضج والعبقرية ؟
نعم لقد كان شاعراً كبيرا وخطيباً مفوهاً , وكان الى جوار ذلك ناشطاً في العمل السياسي , يقود المظاهرات ويرتجل الخطب الحماسية التي تلهب مشاعر المتظاهرين بطلاقة ومرونة وكأنه يغرف من بحر .
وكان اضافة الى ذلك رساماً عبقرياً , ورياضياً بارعاً , حيث يمارس كرة القدم والسلة والطائرة , اضافة الى انه الاول في صفه بمختلف الدروس .
وماذا بعد ؟ لقد تبين انه كان مناضلاً لايشق له غبار ، وهو مسؤول عن تنظيم الطلبة في المعهد فهو المناضل الذي لايعرف الخوف ابداً ، مما ادى به الى السجن وترك الدراسة .
رأيته آخر مرة سنة 1957 في بغداد ، حيث كان يعمل كاتب حسابات لاحد التجار ، وبعد ان اذهلتني المفاجأة سألته : اين انت يا أخي الان ؟ انت الذي كنت اتنبأ له بان يكون ( طاغور العرب ) واعظم شاعر عربي بلا ( حس او نفس ) اجابني ببردوه المعتاد وكبريائه القديم : لم امت ولكني توجهت الى كتابة القصة ونقد المعارض الفنية وقد سألت عنه اكثر من زملائنا الطلبة آنذاك ، فقالوا لي : لقد انهكه السجن ولم يعد يفكر بغير نفسه ، وقد طلق كل شيء ، اهكذا تكون النهاية ياحسين جليل؟ وماذا تسمى هذه الحالة يارجال الفكر وعلم النفس ؟ وهما يمكن ان يتنكر الانسان بهذه البساطة لماضيه وبواكير حياته ؟
اخيراً ثمة امر وددنت اتحدث عنه عندما بدأت كتابة هذا المقال ، لكن يبدوا ان القلم لم يطاوعني كما كنت ارغب ، ففي تلك الفترة التي قضيتها في دار المعلمين أي قبل ما يقرب من النصف قرن كنت اتمنى ان ازاول نشاطاً سياسياً ما ، وقد تمثل لي وقتها ذاك النشاط بهيئة ( حسين جليل ) ذلك المناضل الشهم ، ولطالما تمنيت ان يفاتحني حسين جليل في امر الانضمام الى صفوف حزبه ، ذلك اني كنت اتصور ان المناضل في داخله سيتغلب على شخصه الاخر ، أي شخصية ذلك المعتد بنفسه الممتلئ بالكبرياء والترفع ، لكن يبدو انه لم يستطع كسر ذلك الحاجز ، او هو لم يستطع ان ينسى انني كنت من المتفوقين في الدراسة وفي امور اخرى ، لذا هو لم يقترب مني بما يكفي لكي يكسب حزبه عنصراً لديه رغبة في افناء ذاته خدمة للحزب واهدافه السامية .
تلك هي حكايتي مع حسين جليل ، اتمنى ممن سيقرأ هذه المقالة ويعرف شيئاً ما عن حسين جليل ان يبلغني ، وله جزيل شكري واحترامي .