الرأسمالية سلطة، لا اقتصاد (11)


عبد الله أوجلان
2010 / 1 / 16 - 23:49     

- في قصر الإله غير المُقَنَّع والملك العاري والمال السيد –
"خذ الخبرَ اليقين من فمِ الطفل"، إنه قولٌ شعبيٌّ مأثورٌ يُقال لدى السعي للاستعلامِ عن النبأ الصحيح. إني مضطرٌّ مرةً أخرى لإعادةِ تفسيرِ تصوراتي وانطباعاتي الطفولية، احتراماً لجميعِ الأطفال، وللغوص في مصدرِ الخبر اليقين في نفسِ الوقت.
عندما سمعتُ بأنّ أمين، ابن عائلةِ الجيران، قد بدأ بمطالعةِ كتابِ "علم الحال"؛ ازدادَ اهتمامي بالإسلام والجامع. ومقابل حفظِ عدةِ أدعية، كنتُ نجحتُ في التسلل إلى الصفوف الأمامية خلفَ الإمام مسلم مباشرة. وعندما سمعتُ بعد ذلك قولَ مسلم عني "إذا استمر عبد الله بهذه الوتيرة، فسوف يطير"، لَم أَنسَه أبداً. فهذا ما معناه أني كنتُ قمتُ ببدايةٍ صحيحة. كما لا أزال أذكر كيف كنتُ أحتضن جذعَ شجرةِ الزيتون وأنا أسأل كيف يمكن أنّ تَكُونَ المَدرَسَةُ والمُعَلِّم، وأناقش ذلك مع عزيز، الذي سيكون فيما بعد زميلاً لي في المرحلة الابتدائية (سمعتُ لاحقاً أنه صار مهندساً خاملاً في المساحة ومديراً في إدارة الطابو والعقارات). كانت المدرسةُ تبدو لي أقربَ ما تَكُون إلى صورةِ وحش (اللوياثان المعاصر). ولم أكن مخطئاً، لأنها كانت المكانَ الذي يتم فيه تَحفيظُ وتلقينُ الإلهِ الجديد، الذي هو الدولة القومية. وعندما طالعتُ في فلسفة هيغل بعد مدةٍ طويلة كيف أنّ الإله الجديدَ قد هبط على الأرض على شكلِ الدولة القومية، وأنه بدأ بالمسير على البسيطة في هيئةِ نابليون، وعندما شرعتُ بتفسيرِ كيفيةِ قيامِ المعلمين – الرهبان بِتلقينِ ذلك للأطفال منذ مرحلةِ الدراسة الابتدائية؛ انتبهتُ إلى أني قد أخذتُ الخبرَ اليقينَ منذ طفولتي. فبينما تَهَمَّشَ وخَمُلَ إلهُ جامعِ مسلم، كانت ألوهيةُ المدرسةِ الابتدائية للمعلم محمد المنتمي إلى جورم Çorum قد ارتقت. أما أنوارُ مصابيحِ شاحنةِ السائق حيدر – وهو من قريةِ آرگل Argıl المجاورة – فعندما كانت تَضربُ عينَيَّ الناعستَين عدةَ مراتٍ في السنة مع بزوغِ الفجر، وأنا أنتظر على مصطبةِ حراسةِ الكروم؛ حينها ترسخت ساحريةُ الألةِ في مخيلتي جيداً كشِبه إله. لقد كانت سيارةَ الإلهِ الجديد. وعندما بدأتُ بتفسيرِ الصناعوية بعد زمنٍ طويل بأنها أقوى ركائزِ اللوياثان الجديد، أو أنها إحدى صفاته الأساسية؛ أيقنتُ أني أخذتُ الخبر الصحيحَ مرةً أخرى من خيالاتي الطفولية.
عليَّ التنويه فوراً إلى أنّ أيةَ ألوهيةٍ لم تتوحش بقدرِ الصناعوية. كانت قريتنا على بُعدِ خمسين كيلومترٍ تقريباً من الحدود السورية. ولطالما أتذكر أنوارَ أجهزةِ المِسلاط (الأضواء الكاشفة Projector) المشعة لإنارةِ الحدود، عندما كانت تَنعكس على عينيّ بين الفينة والأخرى كبريقِ صاعقة، فتتشكل لدي صورةٌ من خليطِ الدولة – الإله كثالثِ خبرٍ في طفولتي.
جمهوريةُ تركيا هي إحدى أولى أمثلةِ الحداثة الرأسمالية المُحَوَّلةِ إلى دولةٍ قومية، والمتطورةِ في البلدان شبهِ المستعمَرة. حيث تَحمل جمهوريةُ تركيا آثارَ جمهوريةِ فرنسا أثناء تأسيسها، فعلى غرارِها تداخلت الديمقراطيةُ والدولةُ في بداياتها؛ تماماً مثلما حصل في الجمهورية الإيرانية الإسلامية، وجمهوريةِ المدينة المنورة الإسلامية الأولى، بل وحتى مثلَ أولِ اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية أيضاً. فجميعها شُذِّبَت وشُحِذَت مع الزمن بالعناصر الديمقراطية كشكلٍ من أشكال السلطة الرأسمالية، لتتحولَ إلى دولٍ قوميةٍ مجردةٍ وهزيلة. سأجهد لتحليلِ وتناولِ هذه المواضيع بإسهابٍ في الفصول المعنية. ربما كانت تمثل البدايات. بالتالي، فالأمثلةُ الأولى تستوجب التفسيرَ الدقيقَ والحريصَ دائماً. كم كنتُ أود سردَ تصوراتي حول الجمهورية بشكلٍ منفصلٍ على شكلِ قصةٍ روائيةٍ مطولة. ولكني أرغب قولَ ما يلي بجملةٍ واحدة: عندما دخلتُ سنةَ التخرجِ من كليةِ العلوم السياسية، التي هي أفضل كلياتِ مدرسةِ الجمهورية (مكتب المُلكِية – الدولة)، رأيتُ أني غدوتُ شخصاً مشلولاً في ذكائه التحليلي والعاطفي، لا يشعر ولا يعي شيئاً البتة، وصرتُ جاهلاً أعمى عاجزاً حتى عن إصدارِ صوتِ اللوياثان الجديد الذي صنعه من الصفيح التنك. أستطيع قولَ ذلك حسب مفهومي الذي برزَ لاحقاً.
أما تأثيراتُ الدين القديم المُلَقَّن في القرية، فكنتُ نجحتُ في تحطيمها بعد سنين طويلة، وخاصةً بما حفظتُه في مدرسةِ مذهبِ الاشتراكيةِ المشيدة. وعليَّ التنويه إلى أني وقعتُ في ريبيةٍ مروعةٍ في تلك السنين. فكلما ازددتُ في التفكير، كنتُ أغرق فيها وكأني أختنق. ولم أستطع لَمَّ شملي بعض الشيء، إلا بعد فترةٍ طويلة، عندما أدركتُ وانتبهتُ إلى أنّ ما يَفرض نفسَه لَم يَكُن سوى اللوياثان العصري، سواءً في هيئةِ الجمهورية التركية أو الاشتراكية السوفييتية المشيدة. حينها بدأتُ أشعر وأدرك أني وجهاً لوجهٍ أمامَ إلهِ الدين العصري الأكثرِ هيبةً وفظاعةً من آلهةِ كلِّ الأديان الأخرى (من خلالِ صوره وأصنامه اللامعدودة التي تحيطني من كلِّ طرف). ولدى استيعابي ولادتَه وصعودَه لدرجةِ الهيمنة، أحسستُ وعلمتُ أنه ليس الدينَ المناسبَ لي، وأنه بقدرِ ما أنجح في تلافي التعلق بهذا الدين أو الانحراف، بقدرِ ما سيتنامى خياري في الحياة الحرة. ولأولِ مرةٍ يتعاضد الذكاءان التحليلي والعاطفي في ذهني، ليُعيداني إلى نفسي. إني أعمل على تفسيرِ تلك المرحلة عبر هذه السطور.
عندما يُفَسِّر كلٌّ من كارل ماركس وفريدريك أنجلز "الاشتراكيةَ العلمية"، أي علمَ الاجتماع الخاصِّ بهما، يقولان أنهما "كَوَّنّا تركيبةً جديدةً من الاقتصاد السياسي الإنكليزي، والفلسفة الألمانية، والاشتراكية الفرنسية". وهذه المدارس الثلاث تعمل على صياغةِ التحليلات النظرية للحداثةِ الساعية للتحكم بمسارِ حياةِ أوروبا برمتها. فبينما تَجهَدُ مدرسةُ الاقتصاد السياسي الإنكليزي للبرهنة على أنّ ما يحدث ليس سوى النجاح المظفر للاقتصاد الجديد (أو على الإقناعِ بأنه الدينُ الجديد)، تَعمل الفلسفةُ الألمانية على الإشارة إلى أنّ العاملَ الرئيس الواجب الأخذ به أساساً هو الدولة القومية (الشكل الجديد للمَلِك – الإله). في حين تواظب الاشتراكيةُ الفرنسية أساساً (باعتبارها اتحاد المدنية والديمقراطية) على التنظير للمجريات باسمِ المجتمع سائرةً، وذلك بالقول بأنّ كلَّ السرودِ الدينية القديمة قد تراجعت، ليتحقق نجاحُ المجتمع العلماني الوضعي (الدين الجديد للنظام القائم)، وتَقُوم بالتنظير له.
يكمن التأثير الهائل للاحتكارِ الرأسمالي، الذي قَلَبَ كلَّ شيءٍ رأساً على عقب، في أساسِ الثورة الفكرية المتنامية في أوروبا اعتباراً من القرنِ السادس عشر. من الضروري ذكر بعضِ الأمثلة التاريخية المشابهة مراراً، لدى العمل على تعريفِ هذه الثورة الفكرية. ويتعلق مثالنا الأول بولادةِ دولةِ الرهبان السومريين في رحمِ المعبد (الزقورات). فمع بروزِ الثورة الفكرية، قُيِّمَت ظروفُ تنظيمِ نموذجِ الدولة اعتماداً على فائضِ الإنتاج. ولكن، بأيةِ آليةِ رقابةٍ يمكن التستر على فائضِ الإنتاج؟ كيف يجب تطويرَ وترتيبَ وسائلِ الشرعنة الأساسية (إقناع المجتمع بالنظام الجديد)؟ الحلولُ المبتَكَرةُ كانت تنظيمَ الدولة، وإنشاءَ الآلهةِ الجديدة كأولِ مثالٍ لجميعِ أديانِ المدنية. لقد صِيغَ جوابٌ راديكالي للغاية. فلأولِ مرةٍ تنتظم الدولةُ في هيئةِ الراهب – المَلِك. ولأولِ مرةٍ يُنَظَّم الاقتصاد بالتداخل مع الدولة وكاشتراكيةِ الدولة، لينضويَ تحت المراقبة. في حين أنّ القوى الهرميةَ الكلاسيكيةَ تُنشَأ وتُقَنَّع على شكلِ الآلهةِ الجديدة للسماء والأرض والهواء والماء والمدينة. ويُرمَز إلى أولِ استعبادٍ للإنسان في ملحمةِ الخَلق بتصويره مخلوقاً من بُرازِ الإلهة. أما مكانُ كلِّ هذه الاختراعات، فهو الزقورات. الطابقُ الأعلى في الزقورات، أي المعبد، هو مجمعُ الآلهة (اتحاد الآلهة، صلاحيات وسلطات الطبقة العليا الهرمية). والطابقُ الأوسط هو مكانُ الراهب – المَلِك (مُبدِع النظام وأول حاكم مهيمن). أما الطابق الأسفل، فقد خُصِّصَ للعبيد الأرقاء والحِرَفِيّين المنتجين لفائضِ القيمة والإنتاج. ولدى قولنا بأنّ المعبدَ هو رحمُ وأولُ نموذجٍ بدائيٍّ مصغَّرٍ للمدينة والدولة والطبقات، نَكُون بذلك قد حددنا صياغةَ كلِّ النظم والترتيبات المدنية. فجميعها تَحمِل آثارَ هذا المثال، إلى أنْ تصلَ نموذجَ أوروبا الأخير. ولأجلِ ذلك أدافع عن صحةِ اعتبارِ المثالِ السومري المصدرَ الأصليَّ الأبهى، وأقول أنه من المستحيل أنْ تَكُونَ أيةُ نسخةٍ أو أيُّ اشتقاقٍ جذاباً ومؤثراً بقدرِ المثالِ الأصلي.
النموذجُ الإيوني – الإغريقي هو النسخةُ الثالثة. في حين أنّ النسخةَ الثانية هي حضارةُ الهوريين، وكذلك الحثيين المتداخلين معهم، والنابعةُ من ميزوبوتاميا العليا. يكمن فَرقُ الإغريق في تخطيهم للأقاويل الميثولوجية الكلاسيكية، وإنشائهم الطرازَ الفلسفي. ويَعُودُ السببُ الأساسي في إنشائهم فلسفةَ الطبيعة والمجتمع إلى ضعفِ قدرةِ الإقناعِ بالميثولوجيا لدى إيضاحِ تَدَوُّلِ المدن البارزة على مستوى أرقى. فرغمَ استمرارِ قوةِ شرعنةِ السردِ الميثولوجي بين الطبقات السفلى، إلا أنّ العباراتِ الأكثرَ إقناعاً لأجلِ المنهمكين بمشاكلِ الحكمِ الملموسة غدت حاجةً ماسةً تفرض نفسها شيئاً فشيئاً. فالممارسةُ العملية للحياة الاجتماعية، والمشاكلُ المتمخضةُ عن المدن تستوجب طرازاً فلسفياً في الإيضاح. لكنّ مجمعَ الآلهةِ الأولمبية المبتدئة مع زيوس لا تزال مؤثرةً للغاية. وبينما ضحى سقراط بحياته في سبيلِ مواقفه التشكيكية الريبية الأولى، نجح تلامذته في تحويلِ مسودةِ تعاليمه إلى مصدرٍ أوليٍّ للفلسفة. ولن يَكُون خطأً تسمية كلٍّ من أفلاطون وأرسطو خاصةً بـ أبو الفلسفة.
بالمقدور تعريف العبرانيين بأنهم أولُ قبيلةٍ انتقلت من الميثولوجيات السومرية والمصرية إلى السرود الدينية التوحيدية. إنها نسخةٌ من رافدٍ مختلف. وبإضافةِ العديد من الروافدِ الجانبية الأخرى (وفي مقدمتها الفلسفة اليونانية والزرادشتية)، فإنها تُوَلِّدُ مشتقاتها من الديانات الموسوية والعيسوية والمحمدية.
إنّ الزخمَ الثقافيَّ المادي والمعنوي الجديدَ، الذي اكتسَبَ قدرةَ القيامِ بحملةٍ جديدةٍ عظمى في أوروبا في القرن السادس عشر، يرتكز أساساً إلى ذاك الأصلِ التاريخي وتلك النسخِ المعدلة المشتقة منه. أما التفكيرُ بمعزلٍ عنها، وابتداءُ التاريخ من أوروبا، فلن يَكُون إلا من خلالِ ابتكارِ الميثولوجيات والأديان الجديدة، التي تبدو عاجزةً عن الإقناع منذ البداية. فعملياتُ الإنشاءِ الفكري المعمولُ بها تحت اسم الوضعية والعلمانية والليبرالية، بل وحتى الاشتراكية، ورغمَ احتضانها الجديدَ في ثناياها؛ إلا أنها أُنشِئَت في ظلِّ التأثير الغائر للمصدر التاريخي الأم. فالغالبيةُ الساحقة من اصطلاحاتها ومضامينها قد صِيغَت في النماذج والطبعات السابقة لها. بالتالي، لا يمكن إيضاحَ عصرِ النهضة والإصلاح والتنوير في أوروبا، بالاقتصار على الفلسفة الإغريقية – الرومانية وعلومها وفنونها وحقوقها، بل يستحيل ذلك دون الاعتماد على الإرث السومري والمصري.
لا شك في أنّ لأوروبا مساهماتُها. وبالأصل، فقد بدأت تَدُرُّ ثمارها في مستهلِّ القرن السادس عشر، فالسرود المؤلَّفة من خليطِ العلم والفلسفة والدين لكلٍّ من فرانسيس بيكون، مونتايغن ، مكيافيلي، وكوبرنيكوس بالدرجة الأولى؛ إنما تحدد ملامحَ النسخةِ الجديدة. لم تقتصر ما منحته المدنيةُ على المدينة والدولة والطبقة والتاجر والمال والسوق فحسب، بل ومنحت أيضاً الفلسفةَ والدين والعلم والفن. لقد برهنت أوروبا امتلاكَها أكثرَ من غيرها لمهارةِ الانتهال من الثقافة المادية والمعنوية للتاريخ القديم، وتَفَحُّصِها بدقةٍ أقرب إلى دقةِ المختبرات، وصهرِها في بوتقتها، وتكوينِ جميعةٍ جديدة منها. في حين عجزت المدنيةُ الهندية والصينية عن النجاح في ذلك، مثلما بقيت المدنيةُ الشرق أوسطية قاصرةً عن إبداءِ قوتها في تحقيقِ حملتها الأخيرة. وقد تطرقتُ لأسبابِ ذلك مراراً.
سيكون من المفيدِ التذكير المختصر بهذه الحقائق التاريخية، لدى القول بأن ما قامت به أوروبا هو النسخةُ الثالثةُ العظمى في التاريخ الحضاري.
لقد اصطلحَ أنطوني غيدنز مساهماتِ أوروبا على شكل "المتقطعات" (الفترات غير المستمرة) Süreksizlikler، حيث يسعى عبر ذلك لتحديدِ الأصل. لا ريب في أنّ للمدنية الأوروبية أصولُها، لكنّ متقطعاتِ أنطوني برهانٌ نسبيّ (الرأسمالية، الدولة القومية، والصناعوية). سأعمل في الفصول اللاحقة على تقييمِ سوسيولوجيا غيدنز التي تتضمن معاني إنقاذِ الرأسمالية الراهنة، إلا أنّ المواضيعَ الثلاثةَ الأساسيةَ التي شرحها تستلزم التحليلَ الغائرَ في العمق. ولهذا السبب، من المهم عقد الروابط معها.
لِنَعُد مرةً أخرى إلى المصادر الثلاثة الهامة للماركسية. فالتمييز بين ثلاثةِ تياراتٍ أمر هامُّ بالنسبة إلى لَمِّ شملِ مصادرِ أوروبا الفكرية. لكنها (الماركسية) عجزت عن وضعِ اليد على التشابه الكامن بين ثلاثتها، لأنها لو كانت فعلت، لكانت ستكشف عن نفسها أيضاً. أيديولوجيةُ التنوير هي التي جمعت بين الاقتصاد السياسي الإنكليزي والفلسفة الألمانية والاشتراكية الفرنسية، بما فيها الماركسية أيضاً. الواجبُ تحليله أساساً هو هذه الأيديولوجية، التي لا تزال مهيمنةً ومؤثرةً بقوة في العالَم. وبالرغم من تقديمِ السوسيولوجيا كعلمٍ بِحَدِّ ذاته، إلا أنها تفتقر لأي تجديدٍ خارجَ نطاقِ الأيديولوجيا عينها. وإنْ لم أكن مخطئاً، فعندما يقوم عالِم الاجتماع الأمريكي الشهير الراهن آلبرت والليرشتاين بتحليلِ الفكر الأوروبي، بما فيه الماركسية، فكأنه يَعتَرِف بما مفاده: "خوفي من أن يَحِلَّ علينا غضبُ الآلهة عندما نتكلم ونناقش الحريةَ والاشتراكية، لأننا قد شربنا من نفسِ المنبع المسموم". والفكر المذكور هو أيديولوجيةُ التنوير. في حين أنّ الاعترافَ الشهيرَ لأدورنو، الممثلِ النابغةِ لمدرسةِ فرانكفورت الفلسفية، قد صاغه بنفسه حين قال "الحياة الخاطئة لا تُعاش بصواب".
أما نيتشه وأتباعه المشابهون، فينتقدون أيديولوجيةَ التنوير بشكلٍ أكثرَ علانيةً، حيث يقول نيتشه أنّ جميعَ مصطلحاتِ التنوير قد انتُهِلَت من الدين. كما سلط كارل شميث الضوءَ على الجذور الدينية لجميعِ اصطلاحاتِ وفرضياتِ فلسفةِ السياسة. هذا وثمة مراجع غنية ولائحةٌ من الشخصيات القدوة بشأنِ مدى عُمقِ الريبة والشك في طرازِ الفكر الأوروبي ذاته.
إنّ حالَ المدنية في أوروبا كثيرةُ التعقيد، وتبعث على الجفولِ والارتعاد. حيث بَلَغَت عِظَماً في الحجم بما لا يُقاس بأيةِ مرحلةٍ أخرى في التاريخ؛ ليس فقط بحروبها الدينيةِ والقومية الاستعمارية والإمبريالية الرهيبة، بل وبالسيطرة على الاقتصاد وتوجيهه، وبسلطاتها وتَدَوُّلِها أيضاً. لا يمكن إنكارَ العديدِ من "المتقطعات" في هذه النقطة. بل وتَعرِض الرأسماليةُ والصناعويةُ والدولة القومية "متقطعات" بالغةَ الأهمية من بعض النواحي.
إلا أنّ كلَّ تلك السرود، وفي مقدمتها أيديولوجيةُ التنوير، لا توضح "متقطعات" المدنية الأوروبية. فكيفما يبقى معتنِقُ كلِّ دينٍ مضطراً للدعاية لدينه، فحالُ أصحابِ تلك السرود مشابهةٌ، وإنْ عن غيرِ وعي، وذلك بهضمهم لها كدينٍ بِحَدِّ ذاته، وإبداءِ ارتباطهم بها في آخر المطاف. أود التذكير هنا أنّ إمكانيةَ وجودِ الاستثناءات في كلِّ وقتٍ لا يدحض صحةَ الحكمِ العام، بل يؤيده. يجب عدمَ التغاضي بتاتاً عن الماهيةِ الدينية والميتافيزيقية للبنيةِ الفكرية الأوروبية، والتي تمتد بجذورها إلى أغوارِ التاريخِ السحيق، وتَعَرَّضت للاستنساخِ عدة مرات، وتشكلت أصولُها في أوساطٍ مدنيةٍ ماديةٍ مُثقَلةٍ بالإشكاليات العضال. وهي – كأيِّ دين – مُكَلَّفة بالدفاع عن الظروف الثقافية المادية التي تُعَبِّرُ عنها، وإضفاءِ مسحةِ الأبديةِ عليها. ومَهَمَّتُها الاستراتيجية تتجسد في نشرها في كافةِ أرجاءِ المعمورة. لقد التحَفَت المجتمعَ بتقنياتها السلطوية السياسية وبالعنف العسكري كالدرع المنيع، مثلما غزت جميعَ ميادينِ المجتمع الذهنية، سواء على الصعيد الكوني أو المحلي، وبالأخص على الصعيد القومي؛ بدءاً من الرهبانِ الأوائلِ إلى جميعِ الجامعات الرسمية بشتى مدارسها وأكاديمياتها، ومن المدارس الابتدائية إلى الثكنات، من المعامل إلى مراكزِ الأسواق التجارية، من الإعلام إلى المتاحفِ وصولاً إلى بقايا الأديان القديمة، ومن المشافي إلى السجون وحتى المقابر؛ وبات المجتمع برمته "محكوماً عليه بالقفص الحديدي".
كلما اكتسبَت الأديانُ والأفكارُ التي تحمل آثارَها الصفةَ الرسميةَ، تَكُونُ قد تَأَدلَجَت. أما الأيديولوجيات، فهي مبادئُ البرامجِ والمناهج المدافعة عن الجماعات البشرية ومصالحها بشكلٍ ملموس. إنّ الفكرَ أو الدينَ الأوروبي الذي أصبح رسمياً على الصعيد العالمي قد بات أيديولوجية. وكمدنية، فهي مرغمةٌ على الدفاع عن طبقتها العليا، وتأمين أبديتها، وبسط هيمنتها بكل ما أوتيَت من قوة. علاوة على ذلك، وتلافياً لسوء الفهم، فإن هذه الانتقادات ليست موجهة إلى الإنسان الأوروبي المركز فحسب، بل ولجميعِ البشرية المغزوة المستولى عليها، بما فيها أنا، ومنطقتي، وعالَمي.
والقول: لماذا أَثَّرت أيديولوجيا التنوير لهذه الدرجة؟ إنما هو تساؤلٌ في محله. إنها بمثابةِ الدين الكوزموبوليتي الأرقى، وتُوَجِّه نداءاتِها لمعتنقي كلِّ الأديان السابقة لها. إنها قوميةٌ، بحيث بات التفكير في قوميةٍ أو مجتمعيةٍ لا تَعبد الدولةَ القومية شبه مستحيل. لقد بات الإنسانُ المفتقرُ للدولة القومية أشبه ما يكون بإنسانٍ بلا دين. إنها أكثرُ الأديان ضعفاً وخوراً، وبالتالي، لن يكون صعباً قبولُها واعتناقها بقدرِ الأديان السابقة. وهي تتغذى دائماً من العلموية، وتُحَوِّل نمطَ حياتها المادية إلى ضربٍ من ضروبِ الشعائر والطقوس الدينية. في حين تعمل وسائلُ الثقافة المعنوية، وفي صدارتها الأجهزةُ الإعلامية، على الدعاية الدائمة لها. أما الحياةُ السياسية والاقتصادية، فهي تحت قبضتها المُحكَمة كلياً. لقد باتت عالمية.
إني منتبهٌ لِكَوني بسطتُ صورةً لعالَمٍ مسدودٍ لا نفاذَ منه، لدى سردي لهذه التعميمات. وأنا مضطرٌّ للإضافةِ على الفور بالقول بأنّ مدنيةً تَعرضُ نفسَها على هذه الشاكلة أَشبَهُ بعصرِ اضمحلالِ الإمبراطورية الرومانية الأخير، حيث فقدَت الثقة بذاتها. فمهما لاحَت وكأنها قويةٌ عظيمة، فجميعُ المجتمع الذي عَرَّضَته للانهيار إنما يخوض نضالَ حمايةِ البيئةِ أيكولوجياً بتعددياته منذ زمنٍ سحيق. أي، وبقدرِ ما تتحول المدنيةُ إلى إمبراطورية، فالديمقراطية أيضاً تستمر في التحول إلى كونفدرالية بالقدر نفسه.

آ- الرأسمالية سلطة، لا اقتصاد:
إنّ التفكيرَ بعدمِ كونِ الرأسمالية اقتصاداً هو تفكيرٌ تتمخض عنه نتائجٌ بارزةٌ تماثل ما لِكِتابِ ماركس "رأس المال" بأقلِّ تقدير. وعليَّ التنويه مسبقاً إلى أنّ الفكرَ الذي أسعى لإيضاحه هنا لا علاقة له باختزالية السلطة. فضلاً عن أني لا أقبل توجيهَ النقد لي بالفكر الذي يربط الرأسماليةَ بالدولة باعتبارها اقتصاداً. إني أتحدث عن تَكَوُّنِ قوةٍ وزمرةٍ (ثلة) سياسيةٍ تسيطر على الاقتصاد، والتي تم اصطلاحها على نحو: الرأسمالية، الرأسمالي، والاقتصاد الرأسمالي. فلأولِ مرةٍ غدت هذه القوةُ ذاتَ شأنٍ وتأثيرٍ داخل أوروبا في القرن السادس عشر، وصارت نفوذاً سياسياً أساسياً في بلَدَي هولندا وإنكلترا بتلك الاصطلاحات بالذات. واستخدامُها الاقتصادَ ليس مؤشراً على أنها اقتصادية. بالمستطاع القولُ أنّ فرناند بروديل هو أولُ عالِمِ اجتماعٍ ومؤرخٍ قديرٍ انتبه لهذه الحقيقة، ولكنه عَجِزَ عن تنسيقِ فكرته. ورغم إدراكه مدى تخريبها لكلِّ مُسَلَّماتِ الفكر الأوروبي برمته، لكنه عجز أيضاً عن تبيان ذلك كفايةً. وربما بقي قاصراً عن تطويرِ فكره في هذا المنحى، إلا أنه يقول علانيةً أنّ الرأسماليةَ ضد السوق، وأنها نهبٌ وسلبٌ احتكاري، وقوةٌ مفروضةٌ من الخارج. حينئذ، يجب التساؤل: ما هو ذاك الشيء الذي يفرض نفسه من الخارج، والمضاد للسوق، وليس اقتصاداً؟ الجواب على هذا السؤال ناقصٌ وضحلٌ للغاية. هل هو قوةٌ سياسية، أم دينٌ، أم مدرسةٌ فكرية؟
سيكون من المفيد أكثر فحص التطور الميداني للفكر النظري والبحث فيه ضمن ميادينِ العلاقات التي يتشعب داخلها. لنبدأْ بمثالنا بالبحث والتمحيص من خلالِ البندقية. حيث ثمة مجموعةٌ ضخمةٌ من التجار في البندقية في القرن الثالث عشر. لكن هذه المجموعة تهيمن على إدارةِ شؤونِ المدينة في الوقت نفسه، وتُصارِع أندادَها ومنافسيها. كما تمتلك أساطيلَ بحرية. أي أنه ثمة مدينةٌ بندقيةٌ عسكريةٌ أيضاً. علاوةً على أنها تدافع عن النهضة وتحميها أيضاً، وتتسم بإحكامِ سيطرتها على الاقتصاد والمجتمع. من هنا، من اليسير التبيان بأنّ كلَّ هذه العلاقات متداخلةٌ مع بعضها، وأنّ المالَ يؤدي دورَ الصمغ اللاصق لها. إذن، أيُّ مصطلحٍ يستطيع الردَّ على تكاملِ هذه العلاقات؟ وكجوانب يمكن إيضاحها: تتم مراقبة الاقتصاد، وتسريب قسمٍ هامٍّ من فائضِ القيمة بوساطةِ المجموعة المسماة بكِبار التجار. ولهذا الغرض، فهي تُحكِم قبضتها على الزمرة السياسية ذاتها أو على آليات الرقابة لديها، وتستخدم قوة جيشها عندما يستدعي الأمرُ اللجوءَ إلى العنف.
إذا ما دققنا بإمعان، سنجد أنّ المجموعةَ نفسها تتمتع بحِراكٍ شاملٍ على وجهِ التقريب. فحتى لو تغيرت بعضُ الأسماء داخلَ المجموعة، فإنه ثمة مجموعةٌ مُحدِّدةٌ ومؤثرةٌ على صعيد مدينة البندقية على الأقل. لِنَقُمْ مرةً أخرى بِتَعريفِ هذه المجموعة. إنها احتكارُ التجار، الدولة، الجيش، والبيروقراطية. وهي حاميةُ مجاميعِ الكنيسةِ والفنون التي في الصدارة. هذه المجموعةُ التي تتجاوز نطاقَ الدولة، وتفرض ذاتَها على الاقتصاد كاحتكارٍ خارجي رغم أنها ليست اقتصادية، والتي تُحكِم نفوذَها وهيمنتَها على المجتمع بما يتخطى الدولةَ نفسها؛ إذا ما نعتنا هذه المجموعة بكثافةِ السلطة، أو أسميناها بالسلطةِ ذاتها، فسيكون تفسيراً له نصيبه الوافر من الصحة. ولو كانت مجموعتنا تلك حاكمةً ومؤثرةً على جميعِ أرجاءِ إيطاليا، لَكُنّا سنسميها بالسلطة القومية. ولو أنها انتشرت بين صفوفِ جميعِ شرائحِ المجتمع، لَكُنّا سنسميها بالدولة القومية. ولو أنها استولت على اقتصادِ البلدِ برمته، لَكُنّا سوف نسميها بالسلطة الاقتصادية. ولو أنها بَسَطَت منزلتَها على جميعِ أصقاعِ أوروبا، ومنها على كافةِ أرجاءِ المعمورة، لَكُنّا سنقول عنها أنها الإمبراطوريةُ الأوروبيةُ والعالمية.
لِنتمعن الآن في جغرافيةِ هولندا وإنكلترا الحالية خلال القرن السادس عشر، تأسيساً على هذه الفرضيات والاحتمالات. الحَدَثُ المُعَيِّن هنا هو تضييقُ الخناقِ عليهما على يدِ المَملَكَتَين الفرنسية والإسبانية. فكِلتاهما تتطلعان إلى الإعلانِ عن نفسَيهما كإمبراطورية، وتسعيان لتحويلِ كلٍّ من إنكلترا وهولندا إلى مقاطعاتٍ تابعةٍ لها. في حين أنّ المَلِكَ والأميرَ في كِلا البلدَين (إنكلترا وهولندا) يَجهَدان للحفاظِ على استقلالهما السياسي وتعزيزه. بالتالي، فهما بأمَسِّ الحاجة للقوة، لأنّ ابتلاعهما مسألةٌ لحظيةٌ في حالِ العكس. أما القوة التي يحتاجونها، فهي سياسيةٌ وعسكريةٌ وماليةٌ وفكرية. ولهذا فَهُم يَدعُون المفكرين والفنانين. إنّ ديكارت وسبينوزا وأراسموس موجودون هناك. والصرافون اليهود يتدفقون إلى هناك كأصحابِ أموالٍ ومستثمِرين. ويتم تعبيد الأرضية لجيشٍ جديد. إنه جيشٌ محترف، متدرب، منضبط، ويمتلك التقنياتِ الحديثة. وهم يُولون الأهميةَ للحرية في سبيلِ التضامنِ والتكافل والدعم الاجتماعي لهم، ويتغلبون على النزاعات السياسية الداخلية. والأهم من كلِّ ذلك، أنهم يُؤَمِّنون مهارةً وكفاءةً اقتصاديةً معطاءةً على الصعيد الأوروبي. ولو فكرنا بمجموعِ كلِّ هذه العوامل والمؤثرات، سنجد أنّ هولندا وإنكلترا تحميان نفسَيهما بقوةٍ تجاه منافسيهما. بل وتَبلغان فرصةَ بسطِ هيمنتهما أيضاً في نهاياتِ ذاك القرن. وسيَقبَل كلُّ المُطَّلِعين على الأمر – قليلاً كان أو كثيراً – بأنّ هذا هو المسارُ العام للتطورات في الواقع العملي.
إذن، والحال هذه، لِنُكَرِّر سؤالَنا مجدداً. أيُّ اسمٍ نعطيه لشبكةِ العلاقات المتداخلة والمترابطة تلك؟ بأيِّ نظامٍ علينا تعريفها؟ هل طبقةٌ اقتصاديةٌ جديدةٌ مبدعةٌ هي التي أَنجَزَت كلَّ هذه التطورات؟ ثمة في الميدان اقتصادٌ جُعِلَ معطاءً، فمَن هم مُوجِدوه؟ إنهم الآلافُ من شتى أنواعِ المِهَنِيين، الفلاحين، العمال، صِغار التجار، أصحاب الدكاكين والمَتاجِر، والأسواق والأموال والسندات التي تُسَرِّع من حِراكها وتداولها. والأهم من كلِّ ذلك، أنّ هذا العطاءَ الاقتصادي يُضَخِّم فائضَ القيمة. فمَن الذي ينال حصةَ الأسد؟ إنهم، بطبيعةِ الحال، المسيطرون على الاقتصاد بوساطةِ المال والقوة السياسية والعسكرية. ذلك أنه لا بيعَ من دونِ مال. وإنْ غابَ المال، تَوَقَّفَ الإنتاج. ومن دون الجيش والقوة السياسية يحصل الاحتلال، وحينها ينخفض الإنتاج. إذن، المحدِّد هنا، بالإضافة إلى المالِ ومشتقاته، هو البلوغُ بالاقتصاد إلى مستوى السيطرة، وبالمقابل، الاستمرارُ في تلك المراقبة الصارمة في سبيلِ نهبِ وسلبِ فائضِ القيمة المتعاظمة. من المحتمل أنهم الشرائحُ التي تَكُونُ على علاقةٍ كثيبةٍ مع الفئات السياسية والعسكرية. الاحتمالُ الراجحُ هنا هو أنّ الأميرَ والمَلِكَ يَقُودان الجيش، وبالتالي، فهما بحاجةٍ ماسّةٍ إلى المال. وهذا ما معناه أنهما، إما ينتميان لنفسِ مجموعةِ جامِعي فائضِ القيمة، أو على علاقةٍ وثيقةٍ بهم. وفي تلك الأثناء، فهم يُوَطِّدون العُرى بينهم عن طريقِ الحركاتِ الفنية والفكرية. كما أنَّ تعريفَهم ووصفَهم في أوروبا بالملوك والأمراء المهتمين بالحرية يتوافق مع مصالحهم. إنهم لا يتخلفون عن دعمِ ومؤازرةِ حركاتِ المعارضة بين صفوفِ منافسيهم. لنتساءل مرةً أخرى؛ كيف يمكننا اصطلاحَ هذا الحراكِ الشامل؟ فإذا ما أسميناها اقتصاداً، نجد أنه لا يوجد حتى شخصٌ واحدٌ ينشغل بالاقتصاد الحقيقي. إنهم المستولون على فائضِ القيمة. مَن هم هؤلاء؟ هم الذين يَفرضون أنفسَهم على الاقتصاد من الخارج. هم المُسَرِّعون من وتيرةِ دَوَرانِ المال – القيمة بغرض تضخيمِ المال. وهم الذين ينقلون المالَ إلى الدولة على شكلِ دُيون، ليكونوا – ربما – شركاء في الدولة مقابل ذلك.
نلاحظ إذن أنّ ما نسميه بالرأسمالية والرأسمالي والاقتصاد الرأسمالي، هم المراقبون للاقتصاد بشكلٍ غيرِ مباشر، ولكنهم لا يأخذون أماكنهم فيه أساساً. فبماذا ينشغل هؤلاء أساساً؟ إنهم معنيون باحتكارِ السلطة. أي، يُوَحِّدون احتكاراتِهم الاقتصاديةَ مع احتكاراتِ السلطة. كما أنهم يحاربون، لأنّ قواهم تتضاعف داخلَ البلد عندما ينتصرون في الحرب. وهذا ما معناه المزيدَ من فائضِ القيمة. أما حين انتصارهم في حروبهم مع الخارج، فهذا يعني الكَسبَ الاستعماري وبسطَ الهيمنة. وهذا بدوره يعني النهبَ والسلبَ الاحتكاري.
وإذا ما عَمَّمنا وبَسَطنا مثالَ إنكلترا وهولندا على الزمان والمكان، ستكتَسِب التطوراتُ الحاصلةُ مزيداً من الشفافيةِ والوضوح. فهما تستغلان تحالفَهما لتأمينِ الهيمنة في أوروبا أولاً. حيث تَحَطَّم نيرُ عبوديةِ وظلمِ الإمبراطوريةِ الإسبانية مع حلولِ نهاياتِ القرن السادس عشر، ولَحِقَت ضربةٌ مميتةٌ بآمالها في أنْ تَكُونَ إمبراطوريةً على صعيد أوروبا. كما تَكَبَّدَت المونارشيةُ الفرنسية أيضاً هزيمةً نكراءَ في نهاياتِ القرن السابع عشر، ونالت آمالُها في الهيمنة على أوروبا طعنةً ساحقة. لقد عَمِدَتا أيضاً (إنكلترا وهولندا) لمساندةِ ومؤازرةِ بروسيا الألمانية ضد النمسا، لتُلحِقَا مع حليفتِهما (أسرةِ هابسبورغ) الضربةَ القاضيةَ بخيالاتها في تأسيسِ إمبراطوريةٍ على الصعيد الأوروبي. ومع حرب الثلاثين عاماً الأخيرة من ذاك القرن، يَكُون قد طُوِيَ عهدُ الحروبِ الدينية، لِتَقُوما بإرساءِ أرضيةِ النظام المعتمدِ على توازنِ الدول القومية الموافقةِ لنهجهما في عام 1649 تأسيساً على معاهدة واستيفاليا . وقد كان رَدُّ فرنسا على ذلك بثورةِ عام 1789، لِتَنتهيَ بِفقدانِ الهيمنةِ الاستراتيجيةِ مجسدةً في شخصِ نابليون. وفي تلك الأثناء كانتا قد ظفرتا في حروبهما الاستعمارية، لِتَدخُلا القرنَ التاسع عشر بالثورة الصناعية. لقد حَسَمَت الثورةُ الصناعية أمرَ الهيمنة الإنكليزية، لِتَشُقَّ طريقها نحو الإمبراطورية العالمية. أما العملاقُ الألماني المتمثلُ في بروسيا، والمستيقظُ من سباته متأخراً، فبعدما أحرزَ النصرَ على فرنسا عام 1870، دخلَ الحربَين العالميتَين بهدفِ بسطِ هيمنتِه على أوروبا والعالَم، ولكنه خرج منهما متكبداً هزيمةً ساحقة. في حين خرجت الولايات المتحدة الأمريكية من الحربَين العالميتَين بمكاسبها بكونها إنكلترا ثانية، لِتَصِيرَ قوةً عالميةً جديدةً مهيمنةً منذ الحربِ العالمية الثانية. وبينما كانت إمبراطوريةُ روسيا السوفييتية تتطلع لتكرارِ دورِ ألمانيا، فقد هُزِمَت في حربِ الهيمنة والنفوذ. وباتَ ثمة أمريكا تراهِن على الإمبراطورية العالمية، بحيث تهرع لعرقلةِ انهيارها وإطالةِ عمرها عن طريقِ نوعٍ من الحرب الدفاعية.
هذا هو المنحى الأساس للسلطة. فنهرُ السلطة المنبثقُ من مدينةِ أوروك، احتضنَ في ثناياه آلافَ الجداول والروافد الفرعية المتدفقة، ليصبَّ في المحيط ويضيعَ في مياهه بالقرب من مدينةِ نيويورك الأمريكية. ويتم التفكير الآن باحتمالِ أنْ يَعرُجَ النهرُ على شواطئِ محيطِ الصين، وتجري صياغة هذه الفرضية. إلا أنّ احتمالَ وصوله إلى هناك أقلُّ من احتمالِ عدمِ وصوله. في حين يرجح احتمالُ انهيارِ وانحلالِ المجتمع المديني. فالقضايا الاجتماعيةُ والبيئوية المتفاقمة والعالقة على الصعيد العالمي، حثَّت المجتمعاتِ الديمقراطيةَ على البدءِ بالفاعلية، وإنشاءِ مدنياتها هي، كإحدى الاحتمالاتِ الأولية البارزة. أي أنه، وبدلاً من عبادةِ الإمبراطورية المتبقية من أنظمةِ الدول القديمة، تَرجح فرصةُ مقدرةِ الاتحاداتِ الكونفدرالية للديمقراطيات في التغلب على القضايا الكونية القائمة.
تُصاغُ هذه الفرضيات في سبيلِ مَوضَعَةِ الرأسمالية في مكانها المناسب. إنه أمرٌ أَشبَه ما يَكُونُ بجولةِ الآفاق. فبعدَ أنْ يُخَلِّفَ النهرُ الأمُّ للحضارة دوامةً عميقةً مكانَ محطته في إنكلترا وهولندا، سيستمر في تدفقه وسَيَلانه، مُكتَسِباً سرعةً ولوناً جديدَين. يمكن التبيان علناً أنّ المتقطعات المنصبةَ في النهر الأم بالتزامن مع حصولِ الدوامة، ستُضفي عليه سرعةً ولوناً جديدَين في تدفقها اللاحق. إنّ صناعةَ الدولة الكلاسيكية بشكلها كدولةٍ قومية، وبِمَعِيّةِ أعظمِ ثورةٍ اقتصاديةٍ بعدَ الثورةِ النيوليتية؛ تُشَكِّلان النهريَن الدفاقَين بغزارةٍ قصوى. هذان المؤثران هما اللذان سرَّعا من وتيرةِ الحضارة الكلاسيكية، وأضفَيا عليها لونَها.
مرةً أخرى يدخلُ جدولَ الأعمال السؤالُ الذي أطرحه دائماً: أين هي الرأسمالية؟ وأين هي الرأسمالية من الدولة القومية والصناعة؟ أطرح هذَين السؤالَين من حيث المضمون الاقتصادي. فرغم بحثي الدءوب عن الجواب، لكني أكرر بأني أعجز عن العثور عليها ضمن الاقتصاد.
قد يُواجَه قولي هذا بغرابةٍ وتعجب؛ فرغمَ كلِّ مساعي الاحتلالِ والاستعمارِ والاستغلال، تبقى المرأةُ الصاحبَ الحقيقي للاقتصاد. فإذا كنا نود تقييمَ الاقتصاد على نحوٍ قَيِّمٍ سوسيولوجياً، فالموقفُ الأصح هو القول بكَونِ المرأة هي القوة الأساسية، ما دامت تَحمِلُ الجنينَ وتغذيه في بطنها، وتعتني بتنشئته ومأكله بعد مخاضاتِ الولادة الشاقة، إلى أنْ تَجعَلَه في حالٍ يقدر فيها على الوقوفِ على رِجلَيه؛ وما دامت المرأةُ أيضاً هي المِهَنِية في مأكلِ المنزل. إنّ جوابي ردٌّ سوسيولوجي أكثرُ تقديراً للحقيقة، مع أخذِ روابطه البيولوجيةِ بعينِ الاعتبار بكلِّ تأكيد. علماً بأنّ المرأةَ لا تزال القوةَ المحركةَ للعجلات في العديد من ميادينِ الحياة الاقتصادية، وليس فقط داخل المنزل، نظراً لدورها في الثورة الزراعية، وقطفها وتجميعها الثمارَ على مدى ملايين السنين. وقد شَخَّصَ اليونانيون الأصليون، أصحابُ الشرف في إرساءِ أرضيةِ العلوم، هذه الحقيقةَ قبل آلافِ السنين، بإطلاقهم تسميةَ قانون البيت أو قانون المرأة على الاقتصاد.
دون شك، يأتي في المرتبة الثانية المندرجون في تصنيفِ العبيد والأقنان والعمال، الذين طالما استغَلَّتهم قوى المدنية، وبَسَطَت عليهم مراقبتَها الصارمة بأساليب مجحفة، بغرضِ نهبِ وسلبِ فائضِ الإنتاج وفائضِ القيمة، كَفَنٍّ أوليٍّ حفِظَته عن ظهرِ قلب. أما في المرتبة الثالثة، فيتواجد الحِرَفِيون وصغار التجار وأصحاب الدكاكين والمَتاجِر والمزارعين مَالكي الأراضي الصغيرة، والذين هم أكثر تمتعاً بالحرية نسبياً. وبإدراجِ أربابِ المِهَنِ الحرة أيضاً إليهم، من قَبِيل الصُّنَّاع والمعماريين والمهندسين والأطباء، نَكُون قد أَتمَمنا اللوحةَ على وجهِ التقريب. وكَون تلك المجموعات أو الطبقات الاجتماعية هي التي تُدَوِّرُ العَجلةَ الاقتصاديةَ على مَرِّ التاريخ، أمرٌ لا يقبل الجدل. مرةً أخرى، لا يوجد بينهم الرأسماليُّ أو السيدُ أو الآغا أو الأفندي. فواضحٌ جلياً أنهم ليسوا قوى اقتصادية، بل هم القوى الاحتكاريةُ المحتلةُ والاستعمارية والاستغلالية والصاهرة، التي تَفرض وتُطَبِّق شتى أنواعِ الاحتلال والاستعمار والاستغلال والصهر الخارجي على الإنسان وكدحه. أي، ليس الرأسماليُّ فقط هو اللااقتصادي المُتسَلِّطُ من الخارج. فإلى جانبِ الرأسمالي باعتباره تاجراً كبيراً وصانعاً وصاحبَ بنك، ثمة السيدُ والأفندي والسياسي والعسكري والمثقفُ المتمدِّن أيضاً، والذين هم ليسوا اقتصاديين، ولكنهم قوى تَفرض نفسها على الاقتصاد من الخارج.