السلطة السياسية وعلاقتها مع الحقوق (7)


عبد الله أوجلان
2010 / 1 / 8 - 21:31     

كلُّ الملاحظاتِ تُؤَكِّدُ صحةَ نشوءِ الرأسمالية منذ أنْ كانت بذرةً بين شتلاتِ السلطة السياسية وشتلاتِ الحقلِ الحقوقي. ومثلما انتَفَعَت الرأسماليةُ من شتى أنواعِ السلطات والحقوق، فقد تظاهرَت بالدفاع المستميتِ عنها لدرجةِ التعصبِ عند الحاجة. أما عندما تَعَثَّرَت مصالحُها أو تَخَدَّشَت، فلم تَتَردد في الإطاحةِ بها وكسحِها بكافةِ أنواعِ المكائدِ والمؤامرات، حتى إنْ اقتضى الأمرُ اللجوءَ إلى المشاركةِ في بعضِ العمليات الثورية أيضاً، حيث كانت انضَمَّت أحياناً إلى ألعوبةِ الثوريةِ الأكثرِ حِدّةً وتعصباً. لقد أَجَّجَت حروبَ السلطة، وبالأخص في مراحلِ الأزماتِ والفوضى، بدءاً من الانقلاباتِ الفاشيةِ إلى انقلاباتِ شيوعيةِ الدولة. بل وسَيَّرَت الحروبَ الاستعماريةَ والإمبرياليةَ وحروبَ الإمبراطوريةِ الأكثرَ شموليةً والأوسعَ نطاقاً في التاريخ.
علينا التبيان بأهميةٍ بالغةٍ أنه ما مِن شكلٍ اقتصاديٍّ شَعَرَ بالحاجةِ للتحصنِ بدرعِ السلطة بقدرِ الرأسمالية، التي يستحيلُ تَشَكُّلها من دون السلطة. يَطرح "علمويو" الاقتصادِ السياسي فرضيةً أوليةً يزعمون فيها أن الخاصيةَ الأوليةَ للرأسمالية تكمنُ في تشكيلِ الربحِ وفائضِ القيمةِ والإنتاجِ بوساطةِ الاتحادِ الطوعي بين رأسِ المال والكدح، وبالأساليبِ الاقتصاديةِ خارجَ نطاقِ السلطة. نحن هنا وجهاً لوجه أمام عبارةٍ محرَّفةٍ ومشوَّهةٍ بقدرِ نظريةِ الكدحِ على الأقل. حيث شَكَّلوا تركيبةً جديدةً من القِيَمِ العواملية والعناصرية، لِيُظهِروها إلى مسرحِ التاريخِ كشكلٍ اقتصاديٍّ جديدٍ يَنُصُّ على تشكيلِ رأسِ مالٍ من مكانٍ ما على نحوٍ سلمي، وعلى انقطاعِ القرويين والأقنانِ والحِرَفِيّين عن أدواتِ إنتاجهم حصيلةَ علاقاتٍ سلمية، ومن ثم اجتماعِهم في بقعةٍ واحدةٍ تَعُمُّها السعادةُ والرفاه، وكأنهم عَقَدوا زواجاً ثورياً فيما بينهم. هكذا كُتِبَت القصةُ على وجهِ التقريب. هذه المزاعمُ التي تُعَدُّ إحدى المُسَلَّماتِ بما يُعادِلُ كلمةَ "آمنت" في الإيمانِ، يَمُرُّ ذِكرُها في جميعِ المؤلَّفاتِ المدوَّنةِ في مقراتِ أخصائيي الاقتصادِ السياسيِّ العمالقة، اليساريين منهم واليمينيين. حيث لا وجودَ للاقتصادِ السياسي لولا هذه المزاعم. وإذا ما أَضَفتَ إليها المنافسةَ الحرةَ في السوق، تَكُونُ قد كَتَبتَ مؤلَّفاً كاملاً معنياً بالمبادئِ الأوليةِ للاقتصادِ السياسي.
لا أرى الحاجةَ لأطرحَ زعماً، لأنّ عالِمَ الاجتماع والمؤرخَ فرناند بروديل يُكَذِّب ويُفَنِّد كلياً وجلياً تلك المزاعم، من خلال ملاحظاته الواسعةِ النطاق ومقارناته الدقيقةِ في بحثه بشأن "المدنية المادية" (إنه مؤلَّفٌ رائعٌ ومدهشٌ في ثلاثةِ مجلدات، أَنفَقَ فيه جهودَه التي أَخَذَت منه ثلاثين سنةً بِحالِها). الادعاءُ الأولُ الذي يطرحه بروديل في مؤلَّفه ذاك هو كون الرأسماليةِ ضد السوق. والادعاءُ الثاني: ارتباطُ الرأسمالية بالقوةِ والسلطةِ حتى النخاع. والثالث: إنها تعني الاحتكارَ الدائمَ منذ البداية، قبلَ وبعدَ عصرِ الصناعة. والرابع: أنه أُقحِمَ الرأسماليُّ في الوسط بالاحتكارات (النهب والسلب) المفروضةِ من الخارج والأعلى، لا بالمنافسةِ المنبثقةِ من الداخل والأسفل. تلك هي الأفكارُ الأساسيةُ التي يَنُصُّ عليها الكتاب. إنه التفسيرُ التاريخيُّ السوسيولوجي الأثمنُ حقاً من حيث مسارِ السردِ ومضمونه، وإنْ كان ناقصاً أو تَضَمَّنَ بعضَ الجوانب التي لا أوافقه عليها. إنه شروعٌ حسنٌ – ولو محدوداً – في تقويمِ وتصحيحِ التخريبات والتحريفاتِ التي قام بها أخصائيو الاقتصادِ السياسي الإنكليز، والاشتراكيون الفرنسيون، والمؤرخون والفلاسفة الألمان بشأنِ عِلمِ الاجتماع.
ما من نظامٍ اقتصاديٍّ رَسَّخَه الرأسماليُّ والعاملُ بتوحيدِ مدَّخراتِ الكدحِ وقواه في وسطٍ تَسُوده الطواعيةُ والمنافسةُ الحرة. بل وحتى القصصُ والحكايا لم تَبتَعِد لهذه الدرجة عن الحقيقةِ الواقعية. فجميعُ العناصرِ التي يمكننا اعتبارها رأسماليةً – فرادى كانت أم مجموعاتٍ أم طبقة – لا يمكنها، هي وجميعُ قواها الاقتصاديةِ التابعةِ لها، الحفاظَ على وجودها من دون حمايةِ السلطة، ولو لثانيةٍ واحدة؛ بل والسلطةُ حينها لا يمكن أنْ تبقى في قبضتها. إلى جانب ذلك، ومن دون تطويقِ السلطةِ بأوسعِ الأشكال، لا يمكن حصولُ أيِّ بيعٍ وشراءٍ للبضائع، أو المتاجرةِ بأيةِ قوةِ عَمَلٍ عبر المنافسةِ الحرة في أيِّ سوقٍ من المدينة. والأهمُّ من كلِّ ذلك، استحالةُ تحقيقِ أو تطبيقِ انقطاعِ القنِّ والقرويِّ والحِرَفِيِّ المديني من أماكنِ عملهم وآلياتهم أو أراضيهم، دون تهيئةِ أجواءِ العنفِ التعسفيةِ والمجحفة. فكلُّ عملياتِ بَترِ وقطعِ الكادحين العاملين في الأراضي والورشات عن أدواتِ ووسائلِ رزقهم المرتبطين بها كارتباطِهم بأمهاتهم، قد جُوبِهَت بالتمردات والثوراتِ المحتدمةِ التي انتَشَرَت تقريباً على طولِ الفترةِ ما بين القرنَين الرابعِ عشر والتاسعِ عشر في عموم أوروبا. وكانت محصلتُها أنْ أُعدِمَ الآلاف، في حين أن الملايين منهم إما قُتِلوا في الحروبِ الأهلية، أو اهتَرَءوا قابعين في زوايا السجون أو المستشفيات. وكأن ذلك لَم يكفِ، بل وتَحَوَّلَت الأوساطُ إلى بحورٍ من الدماء بسببِ الحروبِ المذهبية والقومية الناشبةِ بينهم. وتأتي الحروبُ الاستعماريةُ والحروبُ الإمبرياليةُ لِتُزيدَ من إحصائيةِ الديون ومستوى التبعية المالية للخارج.
واضحٌ جلياً وملاحَظٌ بما لا شائبةَ فيه أنّ كلَّ مؤثراتِ العنفِ تلك على علاقةٍ بالطبائعِ الاحتكاريةِ النهَّابة السلابة المفروضةِ من الخارج أثناءَ ولادةِ الرأسمالية. فأيُّ بلاغةٍ اقتصاديةٍ سياسيةٍ يُمكِنُها قلب هذه الحقائقِ رأساً على عقب؟
ولكي نرى الحقائقَ بنحوٍ ملموسٍ أكثر، ينبغي علينا رصدَ حروبِ القرنِ السادسِ عشر عن كثب، والتي أدت بالرأسماليين إلى الانتصار، فعواملُ السلطةِ والحروب الرئيسية السائدةِ في القرن، تتمثلُ في الفرعِ الإسباني لأباطرةِ سلالةِ هابسبورغ ، ملوكِ سلالةِ فاليوس من فرنسا، سلالةِ ستيوارت الأنكلوساكسونية Anglo-Sakson المستلمة زمامَ الحكمِ محلَّ الملوك ذوي الأصولِ النورمانية Norman في إنكلترا؛ والأهمُّ والأغربُ منهم جميعاً إمارةُ أورانج Orange الحديثةُ العهد، والخائرةُ القوى، والمستقويةُ بإظهارِ ردودِ فعلٍ متواصلة في هولندا التي لم تكن قد سُمِّيت بعد باسمها هذا.
أباطرةُ وملوكُ هابسبورغ ذوو الأصولِ الألمانية، والمستنهِلون قوتَهم من طردِ المسلمين من إسبانيا (مع حلولِ أعوامِ 1500)، والمتهافتون بسرعةٍ قصوى على بناءِ الإمبراطورية؛ يرون أنفسَهم وريثي روما، مُبرِزين في ذلك استيلاءَ السلالةِ العثمانية على استنبول في عام 1453، وزعامةَ سلالةِ هابسبورغ النمساوية للحروبِ الناشبةِ ضد العثمانيين كذريعةٍ مُثلى في طموحاتِهم تلك. كما كانت اندلَعَت نارُ الولعِ بالإمبراطوريةِ في أحشاءِ سلالةِ فاليوس المَلَكيةِ الفرنسية، التي ترى نفسَها وريثةَ روما الحقيقية. ولكي لا تُبتَلَعَ مَلَكيةُ إنكلترا وإمارةُ أورانج الهولنديةُ على يَدِ تلك الإمبراطوريتَين، فقد كانتا تخوضان نموذجاً أولياً من حروبِ التحرير الوطنيةِ. وستَعمَلُ مَلَكيةُ السويد، إمارةُ بروسيا ، وحتى إمارةُ موسكو على إشهارِ وإعلامِ اسمائِها على التوالي كحركاتٍ مشابهةٍ للتصاعد القيصري. لقد كانت مَلَكيةُ إنكلترا وإمارةُ أورانج وجهاً لوجهٍ أمامَ خطرِ الابتلاعِ والانقراضِ فعلاً على يدِ ملوكِ إسبانيا وفرنسا في مستهلِّ القرنِ السادسِ عشر. ولو أنّ هذه العمليات نَجَحَت في مساعيها، لَكان مِن أكبرِ الاحتمالِ أنْ يَنخَفِضَ مستوى التقدمِ ذي الطابع الرأسمالي لِمدنِ أوروبا الشماليةِ الغربية، وفي مقدمتِها إنكلترا وهولندا، إلى مستوى مدنِ البندقية وجنوى وفلورنسا الإيطالية.
الوهنُ السياسيُّ يُعَدُّ المؤثرَ الأوليَّ في عجزِ تلك المدنِ الرأسماليةِ الإيطاليةِ المتعززةِ للغاية عن إحلالِ انتصاراتِ الرأسماليةِ في عمومِ إيطاليا. أو بالأصح، فصراعاتُ الهيمنةِ وحروبُ الغزوِ التي سيَّرَها ملوكُ وأباطرةُ إسبانيا وفرنسا والنمسا على إيطاليا (وبالتالي على غِنى المدنِ فيها)، قد انتهَت بخضوعِ تلك المدن، التي اضطرَّت للاكتفاءِ بمستوى محدودٍ من بسطِ القوةِ الاقتصاديةِ والسياسية. وبالتالي، تَأَخَّرَ موعدُ حصولِ الاتحادِ الإيطالي من جانب، وبَقِيَت التجربةُ الإيطاليةُ الرأسمالية في منتصفِها، لِتَعجَزَ عن الانتشارِ في عمومِ البلادِ من جانبٍ آخر. كما لعبَ العنفُ دوراً بارزاً هنا، وإنْ بشكلٍ مؤقت. مقابلَ ذلك، أي، مقابلَ تحييدِ رأسماليي المدنِ الإيطاليةِ عن أطماعِهم في بسطِ نفوذِهم السياسي، فلم يتوانَ هؤلاء عن التحولِ إلى آلةٍ بِيَدِ سياسةِ "هات يا روحي، خُذ يا عيني" ، بِرَبطِ نفسِها بمسألةِ تمويلِ الدول؛ مثلما يَنزَلِقُ كلُّ عنصرٍ ذي طابعٍ رأسماليٍّ إلى مثلِ هذه الأوضاع. ذلك أنّ الرأسماليةَ تتشكلُ حولَ محورِها الدينيِّ الجديد: المال ثم المال (م/م).
لَم تَنهَزِمْ مَلَكيةُ إنكلترا وإمارةُ أورانج. ويَعُودُ السببُ الأولي في ذلك إلى قيامِ العناصرِ الرأسمالية بربطِ الدولةِ بنظامِ القرض والتسليف من جهة، وإقامة صناعةِ سفنِ المواصلات بالاشتراك مع الدولة من جهةٍ ثانية. فتركيزُهم على القوةِ البحرية، لا القوةِ البرية، قد مهَّدَ الطريقَ لانتصارهم. ويَظهَرُ في هذه المرحلة تَطَوُّران اثنان بالغا الأهمية:
1- وَضَعَت المَلَكيةُ الإنكليزيةُ والمقاطعاتُ الهولنديةُ ثقلَها على نموذجِ الدولةِ المنتظمةِ والناشطةِ بفعاليةٍ على الطرازِ الرأسمالي. وهكذا غَدَت أولَ مثالٍ يتغذى على الضرائبِ النظامية، ويتحلى بميزانيةٍ متوازنة، ويَعتَمِدُ على بيروقراطيةٍ عقلانيةٍ وجيشٍ محترف. وبقواتها البحرية المتفوقةِ أَلحَقَت الهزيمةَ النكراءَ بالقوات البحريةِ الإسبانية والفرنسية. وهكذا تَحَوَّلَ نفوذُها على المحيط الأطلسي، ومن ثم على البحرِ الأبيض المتوسط، إلى عاملٍ محدِّدٍ لمصيرِ الحروبِ الاستعمارية اللاحقة؛ لِيَبدَأَ تَهَاوي إسبانيا وفرنسا. فالنجاحاتُ التي أحرَزَها ملوكُ إسبانيا وفرنسا بَرّاً، قد تَحَوَّلَت إلى انتصاراتِ بيروس التي كانت بطانتها أغلى من وجهها بسببِ ديونِهم المتراكمة. كما أنّ الرأيَ المُجمَعَ عليه عموماً هو كون التجديداتِ الجاريةِ في تكوينات السلطة في إنكلترا وهولندا قد حَدَّدَت مصيرَ الاقتصادِ الرأسمالي أيضاً. وهكذا نلاحظ مرةً أخرى أنّ العنفَ السياسيَّ قادرٌ على أداءِ دورٍ مُعَيِّنٍ في تحديدِ ملامحِ الشكلِ الاقتصادي في المنعطفاتِ الحرجة. أي أنّ ما عَجِزَت المدنُ الإيطاليةُ عن النجاح فيه، قد أَنجَزَته مدينتا لندن وأمستردام بنجاح.
2- وفي ذاك القرن تَحصلُ في دولِ الإمبراطوريات الإسبانيةِ والفرنسية والنمساوية مستجداتٌ مضادةٌ للقدراتِ السياسية في كلٍّ مِن إنكلترا وهولندا. فتلك الدولُ الثلاثُ كانت مولَعة لدرجة العمى بتأسيسِ إمبراطوريةٍ شبيهةٍ بنموذجِ روما. وكانت تتميز بعلاقاتِ القرابةِ الوطيدةِ إلى جانبِ التناقضاتِ الجدية. لكنّ مَلَكيةَ إنكلترا قد أَنقَذَت نفسَها مبكراً من هذا الولع، حيث وَضَعَت عَينَها على التحولِ إلى إمبراطوريةٍ عالمية، بدلاً من الاكتفاءِ بكونها إمبراطوريةً أوروبية. إلا أنّ أنظمةَ الحكمِ في دولِ إسبانيا وفرنسا والنمسا كانت من حيث المضمون وسائلَ سياسيةً متكونةً بموجبِ المجتمعاتِ القديمة، بالرغم من مرورها بالعديدِ من الإصلاحات في التوجه نحو المونارشياتِ العصرية. فقد كانت بعيدةً عن تكوينِ شكلٍ عصريٍّ من النظام الضرائبي والبيروقراطية والجيشِ المحترِف. فميزانيتُها لا تتوافقُ مع هذه الطموحات، بسبب ديونها المتكدسة. لذا، بَقِيَت عاجزةً أمام الاضطراباتِ المتمخضةِ عن التطورِ الرأسمالي. فدعكَ من دعمِ الرأسماليين لها، بل كانت التناقضاتُ تتأججُ بينها تصاعدياً بسببِ الديون والالتزاماتِ المتراكمة. كما أنّ التمركزَ وفقَ الأرستقراطيةِ الإقطاعية، وحملةَ المَلَكيةِ المونارشية أَجَّجَت نارَ النزاعاتِ أكثرَ فأكثر. وبالإضافةِ إلى ذلك، انتفضَ المجتمعُ برمته متمرداً بسببِ التناقضِ بين المدينةِ والريف، حيث كانت تلك التمرداتُ كافيةً وحدَها لكبتِ أنفاسِ تلك المونارشيات. أما لجوءُ إنكلترا وهولندنا إلى الدعمِ الخفيِّ لِقُوى المعارضة، فكان يَفتَحُ الطريقَ أمامَ انفجارِ ثوراتٍ عديدةٍ في الأرجاء، وإنْ اختَلَفَت أهدافُها عن نتائجها، تماماً مثلما حصلَ في الثورةِ الفرنسيةِ الكبرى.
القوى نفسُها، أي مونارشياتُ فرنسا وإسبانيا والنمسا، التي أعاقت الانتصارَ السياسيَّ الاجتماعيَّ للاقتصادِ الرأسمالي في إيطاليا، لم تَنجُ من تَكَبُّدِ الهزائمِ النكراءِ مراتٍ عديدةً في مواجهةِ نماذجِ الدولِ المعطاءة، والمموَّلةِ من قِبَلِ رأسماليي مدنِ إنكلترا وهولندا. ومرةً أخرى نلاحظ، وبوضوحٍ لا تَشُوبُه شائبة، الدورَ البارزَ الذي تَلعبُه العلاقاتُ القائمةُ فيما بين الأشكالِ الاقتصاديةِ والأنظمةِ العنفيةِ التعسفيةِ في ولادةِ النتائجِ الاستراتيجية. إنّ أوروبا خلالَ القرنِ السادسِ عشر تؤدي دورَ المختبرِ حقاً، من حيث إدراكِ العلاقاتِ الكائنةِ بين العنفِ والسلطةِ والاقتصاد. وكأنّ التاريخَ الحضاريَّ برمتِه يَنهَضُ فيها، ويَنفُضُ عن نفسِه غبارَ المقابر، لِيَقُصَّ علينا سيرتَه الذاتية. وكأنه يقول: بقدرِ ما تفهم نفسَكَ (أوروبا في القرن السادس عشر)، تَكُونُ قد فهمتني أيضاً!
إنّ سردَ نبذةٍ عن التطورِ التاريخيِّ الاجتماعيِّ للعلاقاتِ بين العنفِ والاقتصاد سيسلط النورَ على الموضوعِ أكثر.
آ- إنّ تنظيمَ "الرجلِ القوي" لأولِ عنفٍ في عصورِ المجتمعاتِ ما قبلَ المدنية، لَم يقتصرْ على إيقاعِ الحيواناتِ فقط في الفخ. فالتنظيمُ نفسُه هو الذي كان قد طَمعَ في إرثِ العائلةِ – الكلان المتراكمِ كثمرةٍ من ثمارِ الكدحِ العاطفيِّ للمرأة (نور عينَيها). إنه أولُ تنظيمٍ جديٍّ للعنف. وما تَمَّ الاستيلاءُ عليه كان: المرأةَ نفسَها وأطفالَها وأقاربَها، وإرثَهم الماديَّ والمعنوي برمته. بالإضافة إلى نهبِ وسلبِ أولِ اقتصادٍ منزليٍّ ناشئ. وتأسيساً عليه، نجد أنّ تنظيمَ العنف المكوَّنِ من الشامانِ (النموذج الأولي للراهبِ) والشيخِ العجوز صاحبِ التجاربِ والرجلِ القوي، قد أَسَّسَ تحالفاً متضامناً، لِيُشَكِّلَ بذلك أولَ قوةٍ هرميةٍ أبويةٍ بطرياركية (الإدارة المقدسة) وأطولَها عُمراً في التاريخ. ويمكننا مشاهدة ذلك في جميعِ المجتمعات التي تَمُرُّ بمراحلَ مشابهة. واضحٌ جلياً أنّ هذه الهرميةَ قد أدت دوراً مُعَيِّناً في الحياةِ الاجتماعيةِ والاقتصادية، إلى حينِ ظهورِ التمايزِ الطبقي والتمدنِ والتدول.
ب- أما التكوينُ الاقتصاديُّ الناشئُ في المرحلةِ المدينية المبتدئةِ مع نشوءِ الطبقةِ والمدينة والدولة، أي بؤرةِ تلك القوةِ التي يمكننا اختزالها في شخصِ الراهبِ – المَلِكِ – القائد؛ فيمكننا تسميتها بالدولة. وعلى الصعيدِ المؤسساتي، فهي تُؤَلِّفُ السلطةَ المكوَّنةَ من الدينِ – السياسةِ – العسكرة على نحوٍ متداخلٍ متشابك. والخاصيةُ الأوليةُ لنظامِ القوةِ ذاك، تَكمُنُ في تنظيمِها لاقتصادِها على شكلِ شيوعيةِ الدولة. إنه اقتصادٌ كنتُ قد أَسمَيتُه بـ"اشتراكيةِ فرعون" حتى قبلَ أنْ أَعلَمَ باستخدامِ هذا المصطلحِ من قِبَلِ ماكس فيبر أيضاً. في حين أنّ الاقتصادَ الأموميَّ يستمر بوجوده على شكلِ بقايا ضمن ثنايا الاقتصادِ الأبوي – الإقطاعيِّ العشائري. إنّ البَشَرَ يُشَغَّلون في اشتراكيةِ فرعون كعبيدٍ بسطاء. وتَقتَصِرُ حقوقُهم على كوبٍ فخاريٍّ من الشوربة، بما يَكفيهم للبقاءِ على قيدِ الحياة. والعثورُ على الآلاف من أكوابِ العبيد التي لا تزال تَكتَظُّ بها أبنيةُ المعابدِ والقصور القديمة، إنما يؤكد صحةَ هذه العلاقة.
إنّ العنفَ على هيئةِ الدولة يرى من حقِّه نهبَ وسلبَ كلّ ما تطالُه يداه في جميع المجالات على الصعيدِ الاقتصادي، الذي هو أَشبَهُ ما يكونُ بِضربٍ من ضروبِ فِديةِ العنف. العنفُ إلهيٌّ ومقدَّس. وكلُّ ما يفعله حلالٌ وعن وجهِ حق. ونخص بالذكر مراكزَه النواتيةَ في المدنياتِ الشرقِ أوسطية والصينيةِ والهندية، حيث تَنظُرُ البنيةُ السياسيةُ العليا – أو الكاست – إلى البنيةِ التحتيةِ على أنها نوعٌ من الاقتصاد، فَتَجِدُ في ذاتِها الحقَّ باللجوءِ إلى شتى أنواعِ القوى الإداريةِ عليها. ومثلما لم تَكُن الأسواقُ والمنافسةُ قد تَشَكّلتا بعد، فلَم يَتَشَكَّلْ أيضاً القطاعُ الاقتصادي كاصطلاحٍ بمعانيه الراهنة. ورغم وجودِ التجارة، إلا أنّ هذا النشاط هو أحد الوظائف الأساسية فيما بين الدول. فالتجارة بعيدةٌ عن الخصخصة. واحتكارُ الدولة هو احتكارُ التجارةِ في الآنِ عينِه. في حين أنّ مدنَ الأسواقِ لا تَبرُزُ بشكلٍ ناتئٍ إلا نادراً، عندما تَكُونُ في المناطقِ الحياديةِ المتوسطة فيما بين الدول. وهي بدورها تتحولُ إلى دولٍ مدينيةٍ خلال فترةٍ وجيزة. وباعتبارِ أنّ التجارةَ كانت تجري عبر القوافلِ في تلك المراحل، فعملياتُ النهبِ التي يَقُومُ بها "الرجلُ القوي" ومن ثم "الأربعون حرامي" و"القراصنةُ" و"قُطَّاعُ الطرق" تُعادِلُ في نفوذها نهبَ الدولةِ بأقلِّ تقدير.