الواقع المأزوم ووهم النموذج*


عمار ديوب
2010 / 1 / 8 - 21:30     

يكثر الباحثون السوريون من التغني بالنموذج الأوربي و بضرورة الاهتداء به نحو التقدم، إذا أردنا ولوجه والخروج من تخلفنا. وفي هذا يظهر النموذج الليبرالي وكأنّه السحر؛ الذي ما أن نأخذ به حتى تحل كل المشكلات، متوهمين أن النموذج يتكرر، وأن سوريا لم تحكمها البرجوازية بعد الاستقلال وبعد الستينيات. ففي البحث في أشكال التنوير الأوربي، وهو ما أشارت إليه الكاتبة البريطانية غيرترود هيملفاوب، في كتابها "الطريق إلى الحداثة": سنجد أن التنوير الفرنسي يؤكد على أيديولوجيا العقل، والبريطاني يتميّز بالتركيز على الفضيلة الاجتماعية، والأمريكي تميّز بالحرية بمعناها السياسي، وهذه المرتكزات عكست نفسها لاحقاً في صيرورة الدول. فأين هو النموذج المرغوب والمتغنى به؟ إذن لا نموذج يتكرر سوى بالوهم، ولكن بالمقابل، نستطيع القول عن المعارف العلمية بأنّها مطلقة، وتتكرر بعد إبداعها في أصقاع العالم. وبالتالي النموذج العلمي فقط هو الذي يتكرر. أما فكرة النموذج في العلوم الإنسانية أو الأديان أو الواقع فليست من عالم الحقائق، بل من عالم الأوهام. واقعنا السوري والعربي شديد التأزم، وما أفرزه من تيارات فكرية، لم تترك نتاجاً يشكل حراكاً اجتماعيا أو سياسياً، وبالتالي ما الخيار البديل عن أوهام النموذج؟ قبل التصدي لهذه الفكرة، من الضروري القول: أن فكرة النموذج هي بالأصل فكرة دينية، مأخوذة من فكرة إيمانية عن قدرات الله اللامحدودة، وبالتالي هو كما هو في الماضي والحاضر والمستقبل، وهي تنسجم فقط مع المنطق الصوري، حيث الحدود خالدة ولا تغيير فيها. وبالتالي الكلام عن النموذج هو شأن ديني، رغم أن جمهرة من الليبراليين وغيرهم يتحدثون عنه، وكأنه العلم القياسي. يتمظهر هذا الوعي عبر القول: بأنّ التقدم الممكن يتطلب قطع مائة عام أو أكثر كي نلحق بالنموذج، والبعض يزيد أو ينقص وهناك رأي يمتلك كل أوجه الغرابة، لأنه يصدر عن ليبراليين سوريين، يشيرون إلى أنّ انسداد الأفاق يتطلب الخروج منه بتشكيل نظام طائفي؛ الذي سيوصلنا هو إلى ضرورة النموذج؟ وهو رأي لا يعدم من جماهير تأخذ به، ويشار في ذلك إلى فرداة الطائفية اللبنانية وانسجامها مع الرأسمالية؟
فكرة النموذج هذه، تعبر واقعياً، ورغم عدم حداثتها، عن: تحطم الآمال بالتغيير، وعدم الثقة بالذات، وغياب العقل الموضوعي أو الجدلي، وعن حالة من الاستلاب للنموذج الغربي، وأوهام كثيرة عن تقدمه المضطرد. وأنا أزعم بعدم إمكانية ذلك، لا في إطار النظام الرأسمالي ولا في إطار النظام الاشتراكي، ولم يكن يوماً قائماً. وبالتالي، الممكن عربياً هو تحقق نموذج خاص، يتميّز في صيرورة واقعنا العربي، وربما يختلف تميّزه بين قطر وقطر؛ نموذجاً عربياً مميزاً. فهل هذا ممكن، بدون تقاطعات مع النماذج الآخرى...؟
لا شك بأن أي نموذج عربي يجب أن يتضمن أجوبة عن كيف سنتطور صناعياً؟ وهل هذا ممكن بدون قيم الليبرالية؛ التي تخلّى عنها النظام الليبرالي منذ الثورة الصناعية ودخوله مرحلة الاستعمار. أي أنّ صيرورة التطور العربي تستدعي ما أنجزته البشرية منذ بداية النهضة الأوربية من ثورات متلاحقة وتجاوز كل مثالبها وخصوصياتها الواقعية، والتعامل معها كونها مفاهيم تعبر عن ثورات وبنى اجتماعية متمايزة عن بنيتنا العربية، والعمل على تنوير عقلاني للفكر العربي الإسلامي يتواصل ويتمفصل مع مفكري النهضة العربية، بالإضافة للجوانب الايجابية في المشاريع الحداثية العربية من بورقيبة إلى عبد الناصر والبعث، عدا عن وراثة فعلية للحركات اليسارية والقومية التي لم تصل السلطة ولكن تأثيرها الثقافي والاجتماعي والفكري لا يزال فاعلاً رغم تراجعه في العقدين السابقين. هذا الفعل المركب، لا بد وأن يستند إلى المنهجية الماركسية باعتبارها منهجية كلية قادرة على الدمج بين النموذج والتميز وصياغة رؤية جديدة لا تكرر النموذج الغربي ولا تستقل بالواقع العربي وكأنه خارج التاريخ الموحد للبشرية. في هذا التضايف يمكن صناعة الواقع الجديد. نقطة البدء هنا صياغة مشروع فكري مميّز كونياً. طرحي هذا يأتي مخالفاً لنموذجين يجدان الكثير من المريدين: النموذج الرأسمالي حيث كل ما فيه يُثمّن ويقدّس، ويتم تجاوز: المركزية الأوربية، الاستعمار القديم، المساواة الصورية، و... والنموذج الإسلامي الذي يصوّر وكأنه حقيقة تاريخية، بينما التأريخ يدوّن الحروب الدينية المستندة إلى التأويل، و تسمية الدول بأسماء ملوكها"الخلفاء" وهي لم تكن أكثر من دول إقطاعية ككل دول العالم آنذاك مع تميّز خاص تفرضه صيرورة التاريخ المتميزة. سيادة هذه النماذج متأتٍ بدون شك من عمق الأزمة الشاملة لبنيتنا العربية ومن تشظي المشروع الماركسي كونياً.
نختتم بالقول، لم يعد ممكناً استعادة التاريخ الإسلامي كما الليبرالي الأوربي إلا بالوهم، وبالتالي طريق خلاصنا هو طريق حداثتنا المرتبط بالمشروع المميّز عربياّ، الذي سيكون مشروعاً مشتقاً من إرث البشرية الخالد في القيم الليبرالية والاشتراكية، وبالاستناد للمنهجية الماركسية، التي تعد آخر المنهجيات الحداثية وأكثرها وفاء لمشروع الحداثة والتقدم.