الخط السياسي الجديد للحزب الشيوعي الفلسطيني عشية ثورة 1936-1939 - الحلقة الثالثة


مروان مشرقي
2009 / 12 / 22 - 07:47     

د. مروان مشرقي

الخط السياسي الجديد للحزب الشيوعي الفلسطيني عشية ثورة 1936-1939
بعد المؤتمر السابع للكومنترن
__________________________________________________

استمر الحزب الشيوعي الفلسطيني في انتهاج سياسة "يسارية انعزالية" حتى بداية سنة 1935. إذ بدأ بهذه الفترة يتحسس التغيرات العميقة الجارية في المجتمع الفلسطيني, إن كان ذلك على المستوى الاقتصادي الاجتماعي أو على المستوى السياسي العام. وأخذ يرى بوادر الهبة الثورية التي ستجتاح فلسطين قريبا, الأمر الذي طرح أمامه مهمة أساسية وهي العمل على توحيد القوى التقدمية في فلسطين من اجل قيادة هذه الهبة وتوجيهها بطريق الكفاح ضد الانتداب البريطاني والصهيونية.

لقد كانت قيادة الحزب حتى عام 1934 عاجزة عن رؤية هذه التطورات وخاصة أنها لم تسعى إلى تعميق عملية تعريب الحزب والالتصاق بالجماهير العربية.

وعلى أثر اعتقال سكرتير الحزب "زئيف برمان" وطرده من البلاد جرت تغييرات هامة على تركيبة الهيئات الحزبية باتجاه تعريب الحزب, مما ساعد الحزب إلى حد كبير للتخلي عن سياسته الانعزالية السابقة وتبنيه سياسة أكثر انفتاحا على الحركة القومية العربية. فقد عين رضوان الحلو سكرتيرا عاما للحزب وتم انتخاب طاهر المغربي (1) عضوا في اللجنة المركزية (2) وبعدها عضوا في سكرتارية اللجنة المركزية. إذ أنه حتى ذلك الحين لم يكن هناك أي كادر عربي في قيادة الحزب. وفي إطار التغييرات الجديدة كان أول عمل قام به السكرتير العام الجديد للحزب هو إغلاقه لجريدة الحزب "إلى الأمام" (3) التي كانت تعبر عن النهج اليساري الانعزالي للحزب انذاك وبدأ بإصدار صحيفة سرية جديدة تدعى "نضال الشعب" كمنبر جديد استمرت في الصدور حتى عام 1943. لقد كانت هذه الخطوة عبارة عن بداية التحول الجذري في الخط "اليساري الانعزالي" للحزب وفي توجهه الجديد, والذي كان جوهره هو الانعطاف الكبير نحو الجماهير العربية الفلسطينية كأحد الشروط ألأساسية لتعريب الحزب, أذ ظلت هذه الصحيفة " طيلة هذه الفترة تبدي انفتاحا كثيرا على الحركة الوطنية وقياداتها التي كانت في غالبيتها تتمثل برجال دين وعناصر اقطاعية وبرجوازية في طور التكوين ، ومع ذلك ظل الحزب يحاول توثيق صلاته بالجناح الراديكالي في تلك الحركة ، مثل حزب الاستقلال ومجموعة حمدي الحسيني" (4).

لقد ساعدت هذه العملية في تحضير الأرضية عند قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني لتبني الخط السياسي الجديد للأممية الشيوعية, والعمل على تنفيذ مقررات المؤتمرالسابع للكومنترن.

لقد مثَل المؤتمر السابع للكومنترن, الذي انعقد في موسكو فترة 25 تموز حتى 2 آب 1935, محطة انعطافية هامه في تاريخ الحركة الشيوعية العمالية وتطورها المستقبلي. وقد شارك فيه من قبل الحزب الشيوعي الفلسطيني 3 رفاق هم- رضوان الحلو الملقب بيوسف, ومحمود الأشقر الملقب بحجار وخليل دولة الملقب بحلُول, حيث ساهم في النقاش رفيقين وهما يوسف وحجار.

تكمن أهمية المؤتمر السابع للكومنترن بذلك أنه قد صاغ إستراتيجية وتكتيك جديدين لكل فصائل الحركة الشيوعية العمالية, أخذا بعين الاعتبار تفاوت المهام واختلافاتها عند هذه الفصائل, وجامعا بشكل صحيح بين العام والخاص عند كل فصيل وآخر.

مكانة خاصة في ابحاث المؤتمر السابع للكومنترن حازت معالجة قضايا ومهام الأحزاب الشيوعية في البلدان شبه المستعمرة والمستعمرة (ومن ضمنها فلسطين آنذاك). فلقد طرح المؤتمر السابع إستراتيجية التحرر القومي والاستقلال وتكتيك الجبهة الوطنية الموحدة المعادية للامبريالية التي يجب أن توحد جميع القوى الطبقية المناضلة ضد الكولونيالية- من الطبقة العاملة حتى البرجوازية الوطنية. كما وأشار تقرير جورجي ديمتروف أمام المؤتمر أنه يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار الظروف التي يجري فيها النضال المعادي للامبريالية من قبل الجماهير, ودرجة نضج حركة التحرر الوطني ودور البروليتارية فيها, ونفوذ الحزب الشيوعي على الجماهير الواسعة(5). بألأضافة الى ذلك أشترط المؤتمر نجاح هذه الجبهات بوجود حزب شيوعي قوي. فالحزب الشيوعي وحده, في الواقع, المبادر والمنظم للجبهة الموحدة للطبقة العاملة وهو قوَتها المحركة, ولا تستطيع الأحزاب الشيوعية ضمان تعبئة جماهير الكادحين الواسعة للنضال الموحد ضد الفاشية وزحف الرأسمال إلا بتعزيز صفوفها تعزيزا شاملا, وتطوير مبادراتها وتطبيق السياسة الماركسية اللينينية, والتكتيك الصائب المرن, الذي يجب أن يراعي الوضع الملموس ومواقع القوى الطبقية(6).

لقد أعرب مندوبا الحزب الشيوعي الفلسطيني بمداخلاتهما عن موافقتهما على هذا التوجه ضمن الظروف الخاصة في فلسطين, ورأوا فيه طريقا صحيحا للعمل والنشاط السياسي, وذلك من أجل تعزيز دور الحزب الشيوعي في الحركة الوطنية الفلسطينية والحركة الشعبية. كما وأكد يوسف في مداخلته على أن العدو الرئيسي في هذه الفترة في فلسطين هو الامبريالية الانجليزية التي تستغل جهازها الكولونيالي وتعتمد على القاعدة الاجتماعية التي شكلتها وسط الطبقة الإقطاعية, وأيضا البرجوازية اليهودية الصهيونية التي تستغل الأقلية القومية اليهودية لمصالح السياسة الامبريالية (7). وذكر أن التطورات والأحداث الكفاحية خلال السنوات الأخيرة فتحت "إمكانيات غير محدودة للنشاط الثوري للحزب البروليتاري في فلسطين"(8).

وفي سياق تلخيصه عن وضع الحزب السابق ذكر يوسف أن الحزب عانى من التطرف القومي اليهودي حيث وقف على رأس الحزب رفاق أتوا بالأساس من أحزاب صهيونية, ولم يغيروا كثيرا من نهجهم الأيديولوجي. وأنهم منذ اليوم الأول من تأسيس الحزب حتى إخراجهم منه عملوا وبشكل علني ضد خط الكومنترن ومنعوا نمو الحزب السياسي والتنظيمي, وبهذا الأسلوب كانوا حجر عثرة أمام الحركة التحررية الثورية للجماهير العربية (9). كما واشار الى أن هذه القيادة أفشلت عملية تعريب الحزب الشيوعي الفلسطيني بكل الوسائل المتوفرة لديها, وبقوا يسيرون على النهج السياسي والتنظيمي القديم. بألأضافة الى ذلك أعلن المندوب الفلسطيني أنه بعد فشل هذه القيادة بدأت قيادة الحزب الجديدة في تحقيق سياسة تعريب الحزب, الأمر الذي جعل الحزب يخطو خطوة جدِية إلى الأمام نحو إقامة علاقات وروابط واسعة مع الجماهير الشعبية العربية, أذ بدأ الحزب يبني خلايا له في المصانع والمشاغل الصناعية الأساسية مكان خلايا الحزب القديمة في أماكن السكن, كما ودخل الحزب في عدة نقابات كبيرة وجدد نشاطه النقابي بين العمال العرب (10).

وفي إطار رؤيته للسياسة الجديدة التي يجب أن ينتهجها الحزب الشيوعي الفلسطيني, أعلن المندوب الفلسطيني على أن المهمة الهامة والحيوية للجماهير العربية في هذا النضال هي إقامة جبهة موحدة مع القوميين الثوريين والتنظيمات والفرق القومية الإصلاحية من أجل النضال ضد الامبريالية , وأوضح بأن إقامة الجبهات الشعبية تعني في ظروف فلسطين انفتاحا كبيرا على الحركة الوطنية. وبذات الوقت لم يرى المندوب الفلسطيني بأن عملية تعريب الحزب تعني إضعاف العمل بين العمال والفلاحين اليهود, بل بالعكس. بألأضافة الى ذلك رأى بالكفاح ضد الانحرافات الصهيونية والشوفينية العربية المحلية مهمة أساسية أمام الحزب من أجل أن يتحول إلى حزب مكافح حقيقي (11).

أما المندوب الثاني للحزب الشيوعي الفلسطيني حجار فقد أكد في مداخلته على أن طرد القيادة القديمة للحزب الشيوعي, التي قادته نحو طريق انعزالي قومي يهودي, أدى إلى انخراط الحزب اليوم في السير على طريق "التعريب" وتقوية اتصالاته بالجماهير العربية العريضة. وأكد في ذات الوقت على ضرورة توغل الشيوعيين في صفوف الأحزاب والمنظمات التي يقودها زعماء القومية الإصلاحية, لأنها أحزاب وتنظيمات جماهيرية, ولها تأثير كبير داخل صفوف الحركة الوطنية في فلسطين. وبهذا الأسلوب سوف يتمكن الشيوعيون من جذب الجماهير وانتزاعها من تأثير الزعماء الإصلاحيين ودفعها على طريق النضال الحازم ضد الامبريالية(12).

ولقد أكد المندوب حجار على ضرورة إقامة الجبهة الموحدة المعادية للامبريالية والصهيونية, وأعلن بشكل واضح أن هذه الجبهة سوف تكون "جبهة شعبية قومية عربية", يكون مضمون نضالها موجها ضد البرجوازية الصهيونية التي تلعب دور دولي مباشر في اضطهاد واستغلال الجماهير العربية" حيث أن هذا النضال هو عبارة عن نضال يومي في جوهره معاد للامبريالية, ويجب أن يكون نضالا مباشرا ضدها على اعتبارها العدو المباشر(13). وهكذا نجد أن الجبهة الموحدة في ظروف فلسطين الخاصة ستكون جبهة عربية من الشيوعيين والقوى الوطنية الأخرى. أما بالنسبة للطبقة العاملة اليهودية فقد رأى فيها المندوب الفلسطيني حليفا طبيعيا للجبهة المعادية للامبريالية, ودعاها "للنضال المشترك ضد الامبريالية والصهيونية". إلى جانب ذلك رأى المندوب حجار أهمية كبيرة للنشاط في صفوف الجماهير الكادحة اليهودية من أجل انتزاعها من تأثير الحزب الرجعي للرأسماليين اليهود الصهاينة, وفقط بهذا ألشكل من الممكن أن يساهم العمال اليهود "في النضال التحرري الذي تخوضه الجماهير العربية". أما بالنسبة لآفاق تطور العلاقات القومية في فلسطين, فقد ربط بين إمكانيات التطور أمام الأقلية اليهودية في البلاد وعملية التحرر الوطني في فلسطين والتحول الديمقراطي للنظام الاجتماعي السائد هناك. إن آلية تحقيق هذه العلاقة هي "لجبهة المتحدة للطبقة العاملة العربية اليهودية" (14).

على أساس ما ذكر نجد أن ممثلي الحزب الشيوعي الفلسطيني لم يتبنوا فقط الخط السياسي الجديد للكومنترن بل أصاغوا تصورات خاصة لتحقيق هذا الخط ضمن الظروف الفلسطينية العينية.

اشترط المؤتمر السابع للكومنترن من أجل تنفيذ هذا الخط السياسي الجديد في جميع البلدان أمرين أساسيين:
1- أن يضمن تطبيق القرارات المتخذة تنظيميا.
2- القدرة على جعل قرارات الكومنترن وفروعه قرارات تتبناها أوسع الجماهير. ومن أجل ذلك يجب على الحزب أن يتكلم بلغة تفهمها الجماهير, لأن هذه الجماهير هي الضمانة لأي تغيير منشود(15).

من الناحية العملية رأت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني أن هذان الشرطان يعنيان:
أ‌- العمل على تعزيز قوة الحزب التنظيمية اليهودية العربية ووحدته الفكرية السياسية.
ب‌- السعي لتحقيق فكرة الجبهة الموحدة المعادية للامبريالية. أي التفتيش عن حلفاء جدد يقفون في ذات الصف الوطني المعادي للامبريالية. وعلى ألأدق يجب إعادة النظر بكل المواقف السابقة بصدد البرجوازية الوطنية الفلسطينية وإمكانياتها الثورية ونفسها الوطني.
ج- التفتيش عن أشكال جديدة للعمل بين الجماهير العربية واليهودية وجذبها نحو الخط السياسي الجديد وسلخها عن قياداتها التقليدية في الوسط العربي وعن الصهيونية في الوسط اليهودي.

لقد بدأ الحزب بنشاط فكري وسياسي وتنظيمي كبير من اجل صياغة الخط السياسي الجديد للحزب على أساس مقررات المؤتمر السابع للكومنترن ومواقف مندوبية فيه, وذلك بعد عودتهم من موسكو.

ففي شهر تشرين الأول 1935 عقد الحزب اجتماعا موسعا لكوادره الحزبية ( بلينوم) ناقش فيه أبحاث المؤتمر السابع للكومنترن ومسائل الخط السياسي الجديد للحزب, اصدر بعدها بيانا تفصيليا مطولا بعنوان "بيان الحزب الشيوعي الفلسطيني"(16) الذي يعتبر بيانا برنامجيا اهتدى به الحزب لفترة ليست قصيرة, خاصة وأنه منذ عام 1931 لم يعقد مؤتمرا له.

إن ما ميز الطروحات السياسية الموجودة في هذا البيان هو الكشف عن جوهر التناقضات الموجودة داخل المجتمع الفلسطيني والساحة السياسية هناك. وتحديد الحلقة المركزية في نضال الشيوعيين وطبيعة العدو الرئيسي الذي يجب أن توجه له الضربة الرئيسية, والتحديد الصحيح للقوى المحركة للثورة في فلسطين ومسألة الحلفاء.

فبعد تحليله للتطورات السياسية على المستوى الدولي والمحلي يحدد البيان مرحلة الثورة في فلسطين آنذاك بأنها مرحلة التحرر الوطني عن الاستعمار الانجليزي وتحقيق الاستقلال القومي. وفي سياق تحليله لطبيعة مهام وجوهرهذه المرحلة كشف البيان عن جوهر التناقضات الموجودة في هذه الفترة والتي تعبر عن خصوصية القضية القومية والكولونيالية في فلسطين وطابعها المزدوج. فقد أشار البيان إلى أن الطبيعة المزدوجة للقضية القومية تعود إلى وجود عاملين أساسيين هما وجود الاستعمار البريطاني للبلاد وثانيا وجود الاستيطان الكولونيالي الصهيوني والهجرة اليهودية لفلسطين, والتي خلقت قضية قومية داخلية حادة وعملت على تغيير الطابع الديموغرافي لفلسطين. من هذه الرؤية الواضحة لخصوصية الظروف الملموسة للبلاد طرح الحزب شعار وحدة كل القوى من أجل القضاء على الاستعمار والصهيونية ووقف الهجرة حالا (17).
لقد اتخذ الحزب موقفا صحيحا من الصهيونية والهجرة اليهودية, إذ فضح أهدافها الاستعمارية حيث لخص البيان المذكور أعلاه هذه الأهداف بخمس نقاط جوهرية:
أولا: "دعم الوطن القومي ومد نفوذ الصهيونية أكثر فأكثر بالقوة السياسية المسلحة, واستعمالها ضد العرب أصحاب البلاد والمضطهدين المستعمرين (بالفتح) وتحويل أنظارهم ضد هذه القوى الصهيونية بوضعها درعا أمام الاستعمار"....
ثانيا: "مقاومة قضية الاستقلال العربي بأجمعه لا قضية فلسطين وحدها".
ثالثا: " جعل الصهيونية جبهة رجعية شديدة متراصة, متنعمة ممتازة بالنسبة للعرب (ممتازة سياسيا واقتصاديا وأدبيا بالوظائف والتسهيلات والأجور وكل أنواع الرشوة الاستعمارية المغلفة), تقوم بتنفيذ دورها في مشاريع الهجوم على الاتحاد السوفييتي وكقاعدة ارتكاز أساسية للاستعمار من اجل مد نفوذه للدول العربية وسائر انحاء المنطقة..."
رابعا: تحويل التجمع اليهودي في فلسطين إلى "ارستقراطية بروليتارية" من اجل ضرب نضالات الطبقة العاملة في المنطقة".
خامسا: "الهجرة اليهودية التي هي أساس الحركة الصهيونية, مشروع رأسمالي أجنبي تستفيد منه بالدرجة الأولى الرأسمالية البريطانية الاستعمارية بالاشتراك مع شريكتها الرأسمالية اليهودية... وهذه هي الدعامة الأساسية للاستعمار البريطاني في المنطقة ((18).

وهكذا ربط الحزب بين الاستعمار البريطاني والصهيونية كحركة وكقوة سياسية وأيديولوجية واقتصادية كبيرة, وهذا أمر هام جدا وموقف سياسي متقدم على جميع المواقف السياسية التي كانت تتخذها القوى والأحزاب السياسية الأخرى في فلسطين. إذ أن الأغلبية الساحقة في القوى السياسية في الحركة القومية الفلسطينية لم تتمكن من رؤية هذه الرابطة, مما فسح المجال أمام تغلغل الأوهام حول "نوايا الحكومة البريطانية الحسنة" في صفوف هذه الحركة, الأمر الذي أدى إلى حذف الأنظار عن العدو الرئيسي وهو الاستعمار البريطاني, ورؤية الحركة الصهيونية والهجرة اليهودية بالعدو الوحيد لها. إن هذا الموقف الغير صحيح الذي كانت تتبناه قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية أعاق إلى حد كبير تطور هذه الحركة وكفاحها وساعد على توجيه ضربة كبيرة لها لاحقا ولكفاح الشعب الفلسطيني من أجل التحرر والاستقلال القومي.

عبر الخط السياسي الجديد عن موقف جديد آخر حول طبيعة التركيبة الاجتماعية الطبقية للمجتمع الفلسطيني وحول طبيعة التحالفات السياسية التي يجب أن تقوم موضوعيا في هذه الفترة والتي تعبر عن طبيعة المرحلة وتناقضاتها.

أن تركز الرأسمال الأجنبي, وبالأساس اليهودي, في المشاريع الصناعية الكبرى والسيطرة على أراضي الفلاحين العرب والسوق المحلية وعدم تمكن البرجوازية العربية الناشئة من الوقوف في وجه المزاحمة الغير عادلة مع الصناعة والرأسمال اليهودي المتطور, أدى ليس فقط إلى انهيار البنية الاجتماعية والاقتصادية القديمة للمجتمع الفلسطيني بل أدى إلى نشؤ تركيبة اجتماعية كولونيالية مشوهة يميزها عدم وجود برجوازية وطنية قوية وعدم وجود طبقة عادلة صناعية راقية وذي تقاليد كفاحية وتنظيمية كبيرة. إن هذا الأمر فسح المجال للقيادات الشبه إقطاعية أن تسيطر على قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية وتمنع الفئات الأخرى, وخاصة فئة المثقفين التقدمية, من الوصول إلى المواقع القيادية في هذه الحركة. إن خصوصية تطور الحركة الوطنية الفلسطينية بهذا الاتجاه كان عاملا مساعدا لاتخاذ مواقف يسارية انعزالية منها من قبل الشيوعيين الفلسطينيين, والتي بدأت تتغير في منتصف الثلاثينات.

إن هذا التغيير في موقف الشيوعيين لفلسطينيين عبر عنه في التقييم الصحيح للقوى المحركة للثورة كما جاء في بيان الحزب الشيوعي. فلقد لخص البيان بأن القوى المحركة للثورة التحررية في فلسطين هي قوى الشعب العربي عامة من "جماهير عمالنا وفلاحينا وبدونا المظلومين... والتجار والصناعيين وأصحاب الدكاكين ورجال المصانع والمصارف والمشاريع الناشئة... وأصحاب المهن الحرة الخ...؟(19). أي بمعنى آخر كل فئات الشعب من برجوازية وطنية ناشئة إلى البرجوازية الصغيرة والفلاحين العمال.

إلى جانب ذلك فقد حدد البيان الموضع الطبيعي للعمال والفلاحين اليهود بغض النظر عن أنهم مهاجرون ومستوطنون في فلسطين, لقد أكد البيان بأن العمال والفلاحين اليهود هم حلفاء أساسيين لحركة التحرر الوطني الفلسطيني, ووجه دعوة لكل "يهودي حر ومحب لراحة شعبه وعامل على طمأنينته, أن ينصرفوا إلى مقاومة الهجرة والتسلح الصهيوني, وأيضا إلى العمل حالا بكل طريقة ضد الاستعمار البريطاني والصهيونية المحتلة... وإلى تنظيم الطلبات العلنية بجلاء الاحتلال البريطاني"(20).

وبالوقت ذاته أعلن الحزب عن موقفه المبدئي بالتفريق بين العداء للحركة الصهيونية والهجرة اليهودية وبين الموقف من السكان اليهود في فلسطين, إذ أعلن أن النضال ضد الحركة الصهيونية والمطالبة بوقف الهجرة لا ينبع من "دافع عدائي للشعب اليهودي, بل بدافع الاهتمام الكلي بمصلحته وجريا مع روح الحزب ومبادئه الأخوية المخلصة لجميع الشعوب مهما كانت أجناسها وأديانها..."(21). وبهذا يطرح الحزب الموقف المبدئي من العمل المشترك بين العرب واليهود, والأساس المادي للتقارب بين شعبي هذه البلاد وهو العداء للاستعمار والرجعية المحلية.

من جهة أخرى سعى الحزب في خطه السياسي الجديد إلى التوفيق بين الكفاح القومي والكفاح الطبقي الديمقراطي, وربط هذا الكفاح بعملية التحولات الاجتماعية العميقة في المستقبل, حيث جاء في البيان بأن الكفاح المطلبي من أجل "تحسين أحوال الطبقات العاملة اقتصاديا وصحيا وثقافيا, مرتبط بالكفاح من أجل التحرر الوطني وجزء من الكفاح الذي ينظر بتفائل "نحو المثل الاجتماعي الأعلى ونحو المجتمع الاشتراكي العادل" (22).

لقد لعب هذا النهج السياسي الجديد للحزب الشيوعي دورا هاما في إخراجه من تقوقعه الداخلي وأدى إلى ازدياد عملية الانفتاح نحو الحركة الوطنية الفلسطينية والعمل النقابي داخل الحركة العمالية العربية, وفسح له المجال إلى إقامة شبكة علاقات جيدة مع بعض فئات المثقفين العرب.

المصادر:
(1) طاهر المغربي: شقيق محمود الأطرش, غادر إلى موسكو للدراسة الحزبية في بعثة رضوان الحلو عام 1930, وعاد إلى فلسطين عام 1934. انتخب إلى اللجنة المركزية للحزب وبعدها إلى سكرتارية اللجنة المركزية. في عام 1935 اعتقل بعد خروجه من اجتماع حزبي, حيث تم إبعاده الى خارج البلاد.
(2) ضمت اللجنة المركزية آنذاك عددا غير ثابتا من الأعضاء, فوصل عددهم عام 1935 إلى اثني عشرة شخصا, من بينهم روت لوبتش وحسن أبو عيشة وبنينا فاينهاوس وخليل شنير. لقد استمر أغلبية هؤلاء الشيوعيون في طريق النضال الشيوعي إلى فترة ما بعد تأسيس الحزب الشيوعي الإسرائيلي عام 1948, ومارسوا فيه دورا قياديا هاما طيلة الوقت. أما سكرتارية اللجنة المركزية فقد ضمت من 3-4 أشخاص, إذ كان فيها في هذه الفترة كل من رضوان الحلو وطاهر المغربي وسمحا تسباراي وماير سلونيم (د. بديري موسى- مجلة الكاتب عدد 64, شهر آب 1985 ص25).
(3) "إلى الأمام"- صحيفة الحزب السرية, بدأت بالصدور منذ عام 1929, ولقد عبرت بشكل متطرف عن سياسة الحزب في "الفترة اليسارية" حتى أنها كانت – حسب أقوال رضوان الحلو- تعادي الحركة الوطنية ولا تفرق بين قياداتها والاستعمار البريطاني.,كذلك كان هناك شبه أغفال للحركة الصهيونية. ولم يكن الربط بين الصراع الطبقي والوطني في هذه الصحيفة يتجاوز المظهر اللفظي (مجلة الكاتب عدد 64 ص 25). بغض النظر عن هذا التقييم, إلا أن الحقيقة التاريخية تقول أن هذه الصحيفة لعبت دورا بارزا في نشر الوعي الطبقي عند الطبقة العاملة الفلسطينية. إذ أنها كانت تعالج الكثير من قضايا العمال وساهمت إلى حد كبير في تنظيم النقابات المشتركة اليهودية العربية, وساهمت أيضا في معالجة أوضاع العمال والفلاحين وطرحت مشاكلهم عبر صفحاتها. ولقد ساهمت هذه الصحيفة بشكل جيد في نشر الحقيقة حول ثورة أكتوبر والاتحاد السوفييتي, وفي نشر الماركسية اللينينية في فلسطين. لعب محمود الأطرش دورا هاما في تحرير هذه الصحيفة حتى عام 1931 حين اعتقل في شباط وسجن لمدة عاميين (د.م. شريف- الشيوعية والمسألة القومية ص 58 ومجلة النهج – العدد الثاني, تشرين ثاني 1983 ص141).
(4) موقع " منظمة حزب الشعب الفلسطيني – قلقيليا - أول سكرتير عام عربي للحزب الشيوعي الفلسطيني رضوان الحلو- "الرفيق موسى"- تشرين ثاني 2009.
(5) ديمتروف ج.- دراسات في الجبهة والعمل الجبهوي- دار 30 آذار للطباعة والنشر ص108,109.
(6) نفس المصدر ص118.
(7) مداخلة "الرفيق يوسف" من فلسطين- المراسلات الصحافية الأممية العدد 354 أكتوبر 1935 ص1344,1345 باللغة الانجليزية.
(8) المصدر السابق.
(9) المصدر السابق.
(10) المصدر السابق.
(11) المصدر السابق..
(12) مداخلة الرفيق حجار- فلسطين- ترجمها ونقلها للعربية د.م. شريف في كتابه "الشيوعية والمسألة القومية العربية في فلسطين 1919-1948" _ الملحق الثامن ص 169.
(13) المصدر السابق ص 170.
(14) المصدر السابق.
(15) ديمتروف جورجي: دراسات في الجبهة.... مصدر سابق ص140.
(16) بيان الحزب الشيوعي الفلسطيني- تشرين الأول 1935- أرشيف المكتبة القومية – القدس (لغة عربية).
(17) المصدر السابق10
(18) المصدر السابق ص 11-14.
(19) المصدر السابق ص15.
(20) المصدر السابق ص18.
(21) المصدر السابق ص11.
(22) المصدر السابق ص18.